عندما تقررت مجانية التعليم في مصر كانت الحناجر هي العقول.. إن إطلاق المجانية لكل أبناء الشعب متفوقين وفاشلين أمر يهدد التعليم ذاته.. إن الدولة ملزمة بتعليم المواطن تعليمًا أساسيًا لمن عمره 9 سنوات وبعده تمنح المجانية للمتفوقين فقط، وظاهرة الدروس الخصوصية هي إحدي نتائج مجانية التعليم المطلقة، ولعل الدكتور مصطفي خليل رئيس الوزراء يأمر بإعادة مراجعة نظامنا التعليمي مراجعة جذرية تزلزل كيانه شكلاً ونظامًا مضمومًا وإدارة وإشرافًا.
وهذا الأسبوع تلقت «أكتوبر» خطابًا من الأستاذ حليم فريد تاردس موجه الفلسفة بالتعليم الثانوي بمنطقة الزقازيق التعليمية بمحافظة الشرقية يؤكد فيه علي خطورة الدروس الخصوصية ويحاول أن يضع حلاً علميًا للمشكلة من منطلق دراسته العلمية السابقة التي تتعلق بهذا الموضوع الحيوي.. وقت أن كان في بعثة داخلية بجامعة عين شمس.
ويقول الأستاذ حليم تارس في خطابه:
لا شك أن الدروس الخصوصية مصيبة كبري وقعت علي دماغ التعليم وعلي دماغ الآباء أيضا حتي أصبحت المنازل تعلم والمدارس تدق الأجراس، وكان هذا الموضوع قد شدني إليه كظاهرة تعليمية وتربوية عامة ومنتشرة ومعدية أيضا، فتناولته في دراسة أكاديمية تقدمت بها إلي كلية التربية بجامعة عين شمس أثناء بعثتي الداخلية التي أوفدتني إليها وزارة التعليم في بداية السبعينيات متفرغا لمدة عام جامعي لنيل درجة التأهيل للوظائف الفنية العليا بوزارة التعليم شعبة الإدارة المدرسية وكان موضوع هذه الدراسة «تقويم وقياس ظاهرة الدروس الخصوصية في الثانوية العامة – دراسة ميدانية تجريبية» وقد أنجزت البحث بدرجة امتياز.
ويقول الأستاذ حليم:
إن الدروس الخصوصية مشكلة لم يخلقها المدرسون ولم يخلقها الآباء أيضا، ولكنها ظاهرة تلقائية بقيت في جسم نظامنا التعليمي دور الحمل والحضانة كاملا غير منقوص فهي إذن ابن شرعي لنظام التعليم في مصر.. فالمسئول عنها هو نظامنا التعليمي ذاته والدليل علي ذلك..
1- نظام القبول الحالي بالمراحل التعليمية والجامعات.. حيث يتخذ من مجموع الدرجات في شهادة المرحلة المنتهية أساسًا ومعيارًا للقبول بالمرحلة التعليمية ولا يجد الآباء من سبيل إلي مجموع درجات أكثر وأكبر غير الدروس الخصوصية التي تعد الأبناء بطريقة الارتباط الشرطي لاجتياز الامتحان وتحقيق أعلي الدرجات.
2- تحول المصريين في فترة سابقة إلي جيش من العاملين في الدولة وكان جواز المرور إلي الوظيفة الأفضل هي الشهادة الأعلي فكيف لا يتسابق الأبناء للحصول علي الشهادة ضمانا للحصول علي الرزق ولا باب آخر غيره.
3- إن مناهج التعليم في مصر تقوم أساسا علي الترديد ويقيس الامتحان بوصفه الحالي قدرة الطالب علي الحفظ والترديد وكأن الإنسان ذاكرة فحسب.
4- إن كثيرا من مدرسي المدارس هم دون المستوي المطلوب وحسبنا أن نذكر علي سبيل المثال لا الحصر أن أكثر من نصف مدرسي اللغات الأجنبية – الإنجليزية والفرنسية – في المرحلة الإعدادية بالذات من غير المتخصصين في أية لغة أجنبية، فمنهم من هو متخصص في الفلسفة أو علم النفس أو علم الاجتماع أو التاريخ أو الجغرافيا ومنهم من لا يحمل مؤهلاً علي الإطلاق وهم يعينون علي بند المكافآت المؤقتة.
5- إن برامج التدريب التي تقدم للمدرسين مظهرية وبدائية أيضا شكلاً وموضوعًا، فضلاً عن كونها غير جادة، كما أن ميزانية التدريب محدودة ولا يتولي هذه البرامج إلا نفر من أهل الاحتراف لا أهل التخصص وبعضهم أصلاً في حاجة إلي تدريب.
6- قلة مرتبات المدرسين وأجورهم، بحيث أصبح المدرس المبتدئ في المدرسة الثانوي لا يفي حتي بحاجته إلي الملبس اللائق أمام تلاميذه فاضطر إلي بيع العلم والخبرة لتلاميذه عن طريق الدروس الخصوصية.
7- إن كثيرا من المدارس الإعدادية وبعض الثانوية تعمل في اليوم الواحد أكثر من فترة، وغني عن البيان أن تحقيق استفادة التلاميذ في الفترة المسائية أمر محدود للغاية.
8- ازدحام الفصول بالتلاميذ مما يجعل استفادتهم من قبل المعجزات، إذ كيف يقدم المدرس في الثانوية العامة خدمة تعليمية جيدة ومؤثرة مراعيًا الفروق الفردية بين تلاميذه وسيكولوجية التعليم بينما عدد تلاميذ الفصل يزيد علي الخمسين.
9- تراخي نظار المدارس والموجهين علي المدرسين تحت شعارات وهمية استاء استخدامها وفهمها وممارستها كالعلاقات الإنسانية وغير ذلك من الشعارات.
ولعلنا نذكر أن في عهد وزير سابق، وبفعل سيطرة بعض أصحاب النظريات التربوية مسح هؤلاء وظيفة «التفتيش» بأن جعلوها توجيهًا، فأصبح المفتش موجهًا ورحم الله أيام زمان يوم أن كنا مدرسين في بداية الخمسينيات كنا نعمل للمفتش ألف حساب وحساب فتعلمنا أشياء كثيرة هيهات أن يبلغ عشر معشارها الجيل الحالي من المدرسين.
ويختم حليم تادرس موجه الفلسفة بالتعليم الثانوي بالشرقية قائلاً: «إن المشكلة من خلق نظامنا التعليمي ولكن قبل أن أترك أسباب الظاهرة أرجو أن أنبه إلي نقطة هامة وهي أن المدرسين لا يضطرون الأبناء لأخذ الدروس الخصوصية خاصة في الشهادات العامة بل إن التلاميذ أنفسهم هم الذين يهربون إلي المدرسين طالبين مساعدتهم خارج المدرسة، بصراحة التعليم في مصر يتطور من سيئ إلي الأسوأ، فالدولة تحت شعارات تكافؤ الفرص والاشتراكية قد أقرت مجانية التعليم في جميع مراحله حتي الجامعات، بينما اقتصاديات التعليم بمواردها المحدودة، المادية تعجز عن الوفاء بالحد الأدني من التعليم الجيد.
وينهي موجه الفلسفة للتعليم الثانوي رسالته بأنه لا مناص من أن نناقش مجانية التعليم، فقد أقرها الحاكم في جميع مراحل التعليم دون استيعاب للوقائع التعليمية والاجتماعية ودون حساب دقيق، فقد كنا اشتراكيين أكثر من الاشتراكية نفسها، فالاتحاد السوفيتي ذاته وهو ربيب الاشتراكية المتطرفة وحارسها ومبدعها رغم ما نصت عليه المادة 121 من دستوره الصادر عام 1936 من مجانية التعليم قد أصدر في سنة 1940 قرارًا يقتضي بتقرير المصروفات المدرسية في مرحلتي التعليم الثانوي والعالي بسبب تزايد إنفاق الدولة والرغبة في تحسين برامج التعليم.
ومن ناحية أخري فإن الأساس الفلسفي الذي أسست عليه مجانية التعليم هو تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص والواقع يقول إن أبناء الطبقة الاجتماية الأكثر ارتياحًا من الناحية الاقتصادية هم الأقدر علي دفع أجور الدروس الخصوصية الباهظة والمكلفة ومن ثم يمكن لهؤلاء الاستيلاء علي معظم الأماكن في التعليم الثانوي العام وعلي معظم المقاعد في كليات الطب والهندسة والصيدلة والاقتصاد.. كليات الدرجة الأولي كما يحلو للبعض ولا يعتد في ذلك بالحالات الفردية لأن العلم يعي بالظاهرة في عمومها.
إني أتوجه للمجلس القومي للتعليم والبحث العلمي أن ينعقد بكامل هيئته برئاسة الدكتور محمد عبدالقادر حاتم المشرف علي المجالس القومية المتخصصة للنظر في هذا الموضوع القومي.
ونطالب كلا من المجلس الأعلي للجامعات ومركز البحوث للتربية ومجلس وكلاء وزارة التربية والتعليم أن يجتمع فورًا لمناقشة مشكلة الدروس الخصوصية في مصر ولعل الدكتور حسن إسماعيل وزير التعليم يعرض علي الرأي العام المصري نتائج الأبحاث التربوية المنتظرة.
نشر بمجلة نوفمبر في أكتوبر 1978م – 1398هـ