يُعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024 ، علامة فارقة في مسار العلاقات الأمريكية الصينية، حيث يثير التساؤلات حول إمكانية استئناف أو تصعيد سياسة "الضغط"، التي اتبعها ترامب خلال ولايته الأولى. فمنذ عام 2017، تبنت إدارة ترامب سياسة صارمة تجاه الصين، شملت فرض رسوم جمركية قاسية في إطار الحرب التجارية، وتعزيز التحالفات مع دول آسيوية لموازنة النفوذ الصيني، بالإضافة إلى تحديات في المجالات التكنولوجية والأمنية.
ومن هنا، فإنه مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض ، فقد تعود هذه السياسات إلى الساحة الدولية، وقد تشهد تصعيداً في العديد من القضايا التي تعتبرها الصين تهديداً مباشراً لسيادتها وأمنها مثل تايوان.
لذا، وفي قراءة سريعة لهذا الملف، يمكن القول إن فوز ترامب قد يُشكل استكمالاً لاستراتيجية الضغط على بكين، مع التركيز على الأبعاد الاقتصادية، والتكنولوجية، والدبلوماسية، والعسكرية لهذه السياسة في المرحلة المقبلة.
للكتابة عن تأثير فوز ترامب على العلاقات الصينية الأمريكية، يمكن التركيز على التوجهات السابقة التى انتهجها تجاه الصين، والتى تعطى إشارات قوية حول التوجهات المستقبلية لإدارته خلال السنوات الأربعة المقبلة حيال بكين.
أبرز ملامح سياسة ترامب تجاه الصين خلال ولايته الأولى:
تمثلت أهم النقاط ذات التأثير فى العلاقات الصينية الأمريكية خلال الفترة الأولى ل ترامب فى الآتي:
- الحرب التجارية: خلال فترة رئاسته السابقة، خاض ترامب حرباً تجارية شديدة مع الصين، حيث فرض رسوماً جمركية عالية على مجموعة واسعة من البضائع الصينية، وذلك بهدف تقليص العجز التجارى بين البلدين ودعم الصناعات الأمريكية. ولإبراز تأثير سياسات ترامب السابقة على العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، نشير إلى بعض الأمثلة والإحصاءات حول الخسائر التى تكبدها الطرفان نتيجة التوترات التجارية والقيود التقنية:
* الخسائر من الحرب التجارية: بلغت قيمة السلع الصينية التى فرضت عليها إدارة ترامب رسوماً جمركية حوالي370 مليار دولار، مما أثقل كاهل الشركات الأمريكية التى تعتمد على الواردات الصينية فى منتجاتها النهائية. ووفقاً لتقديرات معهد بيترسون للاقتصاد الدولى (Peterson Institute for International Economics)، فى يونيو 2019، فقد قُدرت الخسائر التى تكبدها الاقتصاد الأمريكى بسبب الحرب التجارية مع الصين بحوالى 316 مليار دولار، تتعلق معظمها بارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، حيث تم تحميل الرسوم الجمركية على المستهلكين الأمريكيين بشكل مباشر، مما أثر على القدرة الشرائية للأسر الأمريكية.
أما على الجانب الصيني، فقد أدى انخفاض الصادرات إلى الولايات المتحدة إلى تراجع أرباح العديد من الشركات الصينية، مما أثرعلى نمو الاقتصاد الصيني، إذ قُدرت الخسائر التجارية بما يزيد على 60 مليار دولار بين 2018 و2019. كما أثر حظر الشركات الأمريكية على بيع مكونات تكنولوجية مهمة، مثل الرقائق الإلكترونية لشركات صينية كبرى مثل "هواوي" بشكل كبير، حيث قُدرت خسائر شركة "هواوي" وحدها بنحو30 مليار دولار فى مبيعات الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية، كما أدى حظر التعاون مع "تيك توك" إلى خسائر مالية وتقنية للشركة الأم "بايت دانس"، مما أدى إلى اضطرارها إلى إعادة هيكلة نشاطاتها فى السوق الأمريكية وبيع جزء من أعمالها هناك.
وفى الوقت نفسه، أدت الحرب التجارية إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد، حيث اضطرت العديد من الشركات متعددة الجنسيات إلى نقل عمليات التصنيع خارج الصين لتجنب الرسوم الجمركية الأمريكية. وتشير التقديرات إلى أن الشركات الأمريكية أنفقت أكثر من 10 مليارات دولار لنقل جزء من عملياتها إلى دول أخرى، مثل فيتنام والمكسيك، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وتراجع الأرباح.
كما انخفض حجم الاستثمار الأجنبى المباشر من الولايات المتحدة إلى الصين؛ بسبب التوترات التجارية خلال الفترة من 2016 إلى 2020، حسب تقرير لمؤسسة "روديوم جروب" (Rhodium Group) فى ديسمبر 2020، والذى أشار إلى تراجع الاستثمارات الصينية فى الولايات المتحدة بنسبة 90%، فضلاً عن تزايد الرقابة الأمنية على الاستثمارات الصينية فى قطاعات حساسة، مثل التكنولوجيا والطاقة.
وعلى الجانب الآخر، فقد انخفض الاستثمار الصينى فى الولايات المتحدة بنسبة 60% خلال نفس الفترة، حيث باتت الشركات الصينية تواجه صعوبات أكبر فى الدخول إلى السوق الأمريكية بسبب القيود المشددة.
وأشارت تقديرات لصندوق النقد الدولى، فى أكتوبر 2019، إلى أن التوترات التجارية بين أكبر اقتصادين فى العالم كلفت الاقتصاد العالمى حوالى 0.8% من النمو بحلول عام 2020، أى ما يعادل حوالي850 مليار دولار، وجاءت هذه الخسائر نتيجة لتراجع حجم التجارة العالمية وتباطؤ الاستثمار، ما أثر على العديد من الاقتصادات الكبرى والصاعدة حول العالم.
كل هذه الأرقام السابق عرضها تعكس التكلفة والخسائر الكبيرة التى ترتبت على كل من الصين والولايات المتحدة والعالم نتيجة سياسات ترامب تجاه الصين، وتوضح مدى تأثير فوز ترامب على احتمالية استمرار هذه الخسائر أو تفاقمها خلال فترة ولايته الثانية.
- قضايا التكنولوجيا والأمن القومي: ركزت إدارة ترامب السابقة على تقليل اعتماد الولايات المتحدة على التكنولوجيا الصينية، خاصة فى قطاعات حساسة كالاتصالات. وتضمن ذلك حظر شركات مثل "هواوي" و"تيك توك"؛ بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي. وقد يُعيد ترامب تطبيق سياسات مماثلة، مما قد يؤدى إلى توسيع الفجوة التقنية بين البلدين.
كما فعل فى عام 2019، حيث أدرجت إدارة ترامب شركة "هواوي" على قائمة الحظر التجاري، ومُنعت الشركات الأمريكية من بيع تقنيات ومكونات أساسية، مثل الرقائق الإلكترونية إلى "هواوي"، وهو ما أدى إلى خفض قدرة "هواوي" على تصنيع هواتف ذكية تنافسية، مما تسبب فى تراجع مبيعاتها العالمية بنسبة 42% بين عامى 2020 و2021.
وفى عام 2020، أصدرت إدارة ترامب أوامر تنفيذية تهدف إلى حظر "تيك توك"؛ بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومى وخصوصية البيانات. وعلى الرغم من عدم تنفيذ الحظر الكامل، إلا أن التهديد أدى إلى خسائر مالية وقلق فى صفوف المستثمرين، ودفع "تيك توك" للتفاوض على بيع أصولها فى الولايات المتحدة .
وقد دفعت هذه السياسات الشركات الصينية مثل "بايت دانس" (الشركة الأم لتيك توك) إلى البحث عن أساليب لتعزيز الشفافية ومحاولة فصل بيانات المستخدمين الأمريكيين عن الخوادم الصينية لتجنب مزيد من التدقيق والحظر، مما أدى إلى زيادة تكاليف التشغيل لهذه الشركات وتراجع نموها فى السوق الأمريكية.
وعلى الجانب الصيني، فقد دفعت هذه السياسات الصين للاستثمار بشكل مكثف فى تطوير صناعة الرقائق المحلية بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي. وقد قدرت الصين أنها ستستثمر 1.4 تريليون دولار فى البنية التحتية التكنولوجية بحلول عام 2025، كخطوة لتعزيز صناعة الرقائق الإلكترونية والأجهزة الإلكترونية المحلية، وذلك حسب تقرير من وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الصينية، تم نشره فى ديسمبر 2020.
والحقيقة أنه نتيجة لهذه السياسات، بدأت تتشكل فجوة تقنية بين الصين والولايات المتحدة، حيث اتجهت الصين نحو بناء نظام بيئى تقنى مستقل يقلل من الاعتماد على الشركات الأمريكية. على سبيل المثال، عملت الصين على تطوير بدائل محلية للعديد من الأنظمة التقنية الأساسية، مثل منصات الهواتف، وخدمات التخزين السحابي، وتقنيات الاتصالات. وقد ساعدت هذه الجهود الصين فى تحقيق تقدم فى شبكات الجيل الخامس والبنية التحتية للإنترنت رغم الضغوط الأمريكية.
وحسب التقرير الذى أصدره معهد بروكينجز فى فبراير 2020، والذى أشار إلى أنه من المتوقع أن يؤدى استمرار هذه الفجوة إلى ظهور نظامين متوازيين للتكنولوجيا حول العالم: أحدهما تقوده الصين، والآخر تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها. ووفقاً للتقرير، فقد يكلف هذا الانقسام التقنى الاقتصاد العالمى خسائر تتراوح بين 3.5 تريليون و5 تريليونات دولار على مدار العقد المقبل، نتيجة لإعادة بناء سلاسل التوريد وتطوير بنى تحتية مستقلة.
- حقوق الإنسان فى الصين : انتقد ترامب فى ولايته الأولى السياسات الصينية تجاه الأقليات وحقوق الإنسان، خاصة فى قضايا مثل الإيجور وهونج كونج. وقد لجأت إدارته آنذاك إلى توظيف وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية ومراكز الأبحاث والدراسات الأمريكية فى إثارة السياسات الصينية تجاه حقوق الإنسان بشكل مكثف لأهداف سياسية، وللتدليل على ذلك يمكن الإشارة إلى بعض هذه النماذج. حيث نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" فى نوفمبر 2019، تحقيقاً بعنوان The Xinjiang Papers""، استند إلى وثائق حكومية مسربة أظهرت سياسات الصين تجاه الإيغور والأقليات المسلمة فى شينجيانغ، حيث زعمت هذه الوثائق وجود احتجاز جماعى لأعداد كبيرة من الإيغور، وركزت على توجيهات رسمية بشأن سياسة "إعادة التأهيل" المطبقة فى المعسكرات.
فيما نشرت صحيفة "واشنطن بوست" فى يوليو 2020، سلسلة من المقالات حول قانون الأمن القومى الصينى فى هونج كونج، والذى أثار قلقاً دولياً حول حقوق الإنسان وحرية التعبير، حيث أبرزت التبعات القانونية والسياسية لتطبيق القانون فى هونج كونج وتأثيره على المجتمع المحلي.
أما منظمة هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch)، فقد أصدرت فى يناير 2021 تقريرها السنوى الذى ناقش بالتفصيل ما زعم أنه انتهاكات لحقوق الإنسان فى الصين، بما فى ذلك معسكرات شينجيانج وحملات الرقابة والمراقبة الإلكترونية الواسعة.
كذلك صنفت منظمة فريدوم هاوس (Freedom House) فى تقرير "الحرية فى العالم" لعام 2022، الصين بين أدنى الدول من حيث الحريات السياسية والمدنية، مشيرةً إلى القيود المتزايدة على حرية التعبير عبر الإنترنت وتشديد الرقابة الحكومية.
أما مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن (CSIS)، فقد نشر فى يونيو 2020 تحليلاً موسعاً حول تداعيات ما أسماه انتهاكات حقوق الإنسان فى شينجيانج، خاصة فيما يتعلق باستخدام الولايات المتحدة للعقوبات الاقتصادية ضد الشركات والمسئولين الصينيين المتورطين فى الانتهاكات. كما نشر معهد بروكينجز (Brookings Institution) فى أكتوبر 2020، تقريراً حول الآثار الاقتصادية والاجتماعية لانتهاكات حقوق الإنسان فى الصين، وكيف أثرت هذه القضية على قرار بعض الشركات الأمريكية بنقل عملياتها من الصين .
- التحالفات مع الدول الآسيوية: ركزت إدارة ترامب السابقة على بناء علاقات قوية مع دول آسيوية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند، فى إطار استراتيجية تهدف إلى موازنة النفوذ الصينى المتنامى فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ومن أبرز المؤشرات على هذه التحالفات خلال فترة رئاسته السابقة:
* اتفاقية الدفاع المتبادل مع اليابان: حرصت إدارة ترامب على تجديد الالتزامات الأمنية مع اليابان، بما فى ذلك الاتفاقيات المتعلقة بالوجود العسكرى الأمريكى هناك. ففى عام 2019، تم التوصل إلى اتفاقات إضافية لتعزيز الدفاعات اليابانية وتوسيع التعاون فى مجال التكنولوجيا العسكرية، كما دعمت إدارة ترامب المواقف اليابانية فى النزاعات البحرية مع الصين فى بحر الصين الشرقي، وأعلنت تأييدها لليابان فى مواجهة أى تهديدات محتملة فى جزر سينكاكو، وهى منطقة متنازع عليها بين اليابان والصين.
* اتفاقية التعاون الاستراتيجى مع كوريا الجنوبية: جاءت هذه الاتفاقية التى تم توقيعها فى عام 2016، تأكيداً على أهمية كوريا الجنوبية كحليف رئيسي، وكذلك فى إطار الاتفاقيات التى تهدف إلى تحسين القدرات الدفاعية لكوريا الجنوبية فى مواجهة التهديدات من كوريا الشمالية وأيضاً لمواجهة النفوذ الصينى المتزايد، كما ضغطت إدارة ترامب من أجل زيادة الإنفاق الدفاعى لكوريا الجنوبية. وفى يوليو 2016، وافقت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية على نشر نظام الدفاع الصاروخى (ثاد) THAAD فى كوريا الجنوبية، وذلك فى خطوة لتعزيز قدرة كوريا الجنوبية على الدفاع ضد التهديدات من كوريا الشمالية. وكانت هذه الخطوة أيضاً تهدف إلى الرد على زيادة النفوذ العسكرى والتكنولوجى للصين فى المنطقة، حيث اعترضت الصين على نشر هذا النظام فى كوريا الجنوبية، معتبرة أنه يشكل تهديداً لأمنها القومي.
* التعاون المتنامى بين واشنطن ونيودلهي: فى عام 2018، وقعت الولايات المتحدة والهند اتفاقية "كومكاسا"، والتى تسمح بتبادل المعلومات العسكرية الحساسة بين البلدين، مما يعزز التعاون الدفاعى والاستخباراتى فى مواجهة النفوذ الصينى فى المحيط الهندى وجنوب آسيا. وفى عام 2020، وقعت إدارة ترامب اتفاقية "بيكا" مع الهند، والتى تسمح بتبادل البيانات الجغرافية والمعلومات الاستخباراتية، مما يساعد فى تحسين القدرات الهندية فى الاستجابة للتحديات الأمنية.
* التحالف الرباعى الأمنى (كواد): دعمت إدارة ترامب تشكيل تحالف "كواد" الرباعي، الذى يضم الولايات المتحدة، اليابان، أستراليا، والهند، لتعزيز التعاون الأمنى والاقتصادى فى المحيطين الهندى والهادئ. وعُدَّ هذا التحالف خطوة لتشكيل توازن قوى فى وجه النفوذ الصينى فى المنطقة، والذى بدأ كإطار غير رسمى للتعاون الأمنى فى عام 2007.
طرحه رئيس الوزراء اليابانى آنذاك شينزو آبي، ولاقى دعماً من الولايات المتحدة وأستراليا والهند. وكانت فكرته تنطوى على تعزيز التنسيق بين هذه الدول الديمقراطية لمواجهة التحديات الأمنية المتزايدة فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وخاصة مع تصاعد النفوذ الصيني. وقد جُمّد التحالف بعد عام 2007 نتيجة لضغوط دبلوماسية من الصين، وأيضاً بسبب التغيرات فى أولويات السياسة الخارجية للدول الأعضاء، ثم عاد إلى الواجهة فى عام 2017، حينما أعادت إدارة ترامب طرح المبادرة فى سياق استراتيجيتها لحرية وانفتاح منطقة المحيطين الهندى والهادئ. ومنذ ذلك الحين، تطور التحالف ليشمل لقاءات واجتماعات على مستويات مختلفة، بما فى ذلك اجتماعات قمة لقادة الدول الأربع، مع تركيز أكبر على التعاون الأمنى والتكنولوجى والاقتصادى للحد من النفوذ الصينى فى المنطقة.
* ملف تايوان: وهو الملف الساخن دائماً أمام الصين، والتى تعتبر أى تدخل أجنبى فى هذه القضية بمثابة تهديد لسيادتها. وقد سعت إدارة ترامب الأولى إلى تعزيز العلاقات مع تايوان، وبيعها أسلحة متقدمة، ما أثار استياء الصين. وإذا تابع ترامب هذا النهج، فقد يؤدى ذلك إلى تصعيد كبير حول قضية تعتبرها الصين مسألة سيادية بالغة الحساسية.
وقُدرت صفقات الأسلحة مع تايوان بقيمة 18 مليار دولار بين عامى 2017 و2021، حيث وافقت إدارة ترامب على صفقات أسلحة متقدمة، تضمنت هذه الصفقات أنظمة دفاع متطورة مثل: صواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات وأنظمة الدفاع الجوى الأخرى، لتعزيز القدرات الدفاعية الجوية لتايوان، وصواريخ "هاربون" البحرية المضادة للسفن، والتى تزيد من قدرة تايوان على الدفاع عن سواحلها فى حال أى هجوم بحرى محتمل، ومقاتلات F-16 المطورة، والتى تعزز من قدرة تايوان على مواجهة الطائرات الصينية المتقدمة. وفى أكتوبر 2020، وافقت إدارة ترامب على صفقة بقيمة 1.8 مليار دولار لتوريد 11 قاذفة صواريخ HIMARS و135 صاروخ كروز AGM-84H، التى تعدّ من الأنظمة المتطورة التى تعزز من قدرة تايوان الدفاعية.
وفى الوقت نفسه، شجعت إدارة ترامب على التواصل بين المسئولين الأمريكيين ونظرائهم التايوانيين، وهو ما اعتبرته الصين انتهاكاً لمبدأ " الصين الواحدة". وكانت أبرز هذه الزيارات زيارة وزير الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكي، أليكس عازار، والذى قام بزيارة إلى تايوان فى أغسطس 2020، وكان أول وزير صحة أمريكى يزور تايوان منذ عام 1979، ثم زيارة وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية، كيث كراش، فى سبتمبر 2020، وكانت هذه الزيارة بمثابة رسالة دعم قوية من الولايات المتحدة إلى تايوان، كونه أعلى مسؤول أمريكى فى وزارة الخارجية يزور تايوان منذ عقود. وخلال الزيارة، جرى التركيز على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية بين البلدين.
وقد عكست هذه الزيارات الدعم المتزايد من الولايات المتحدة لتايوان خلال فترة إدارة ترامب، وهو ما ساهم فى تصاعد التوترات مع الصين بشأن القضية التايوانية.
ولم تقف الصين مكتوفة الأيدي، بل قامت بمناورات عسكرية متكررة قرب مضيق تايوان ردت فيها على تقارب إدارة ترامب مع تايوان، مما أدى إلى زيادة التوتر فى مضيق تايوان. ففى سبتمبر 2020، قامت الصين بتدريبات عسكرية واسعة النطاق فى المنطقة، شاركت فيها مقاتلات وسفن بحرية، فى رسالة واضحة مفادها استعدادها للدفاع عن ما تعتبره وحدة أراضيها. وفى أكتوبر 2020، فرضت بكين عقوبات على الشركات الأمريكية المشاركة فى بيع الأسلحة إلى تايوان، مثل "لوكهيد مارتن" و"بوينغ"، فى محاولة للضغط على الولايات المتحدة للتراجع عن سياستها تجاه تايوان.
التداعيات المستقبلية للرئاسة الثانية ل ترامب على الصين:
بناء على ملامح سياسات ترامب خلال فترة رئاسته الأولى ضد الصين، وكذلك التصريحات الصادرة عنه خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024، يمكن توقع أن تشهد الفترة الرئاسية الثانية لدونالد استكمالاً للاستراتيجية التى تبناها خلال ولايته الأولى، والتى ركزت على الضغط على الصين، ولاسيما فى المجالات الاقتصادية، والتكنولوجية، والدبلوماسية، والعسكرية. ويمكن توضيح ذلك فى الآتي:
أولاً: تشديد الحرب التجارية ضد الصين: يتوقع أن تشهد الإدارة الثانية ل ترامب تشدداً كبيراً ضد الصين على الصعيد الاقتصادي، لاسيما وأن ترامب هدد بتصعيد الحرب التجارية ضد الصين خلال حملته الانتخابية، وبالتالى فهو قد يستأنف السياسات التجارية المتشددة ضد بكين أو يزيدها حدة، مما قد يزيد التوترات التجارية، حيث هدد بفرض رسوم جمركية تصل إلى نحو 60% على كافة السلع الصينية المصدرة إلى بلاده، وهو ما سيترتب عليه تكبد الاقتصاد الصينى خسائر كبيرة قد تؤثر على معدلات النمو الاقتصادى لبكين.
ومع ذلك، فإن التكلفة والخسائر الكبيرة التى يمكن أن تترتب على لجوء ترامب إلى تصعيد الحرب التجارية ضد الصين فى ولايته الثانية لن تقتصر تداعياتها على الصين فقط، بل ستطال أيضاً الولايات المتحدة والعالم برمته. وهو الأمر الذى قد يجعل إدارته ربما تعيد التفكير فى إمكانية تبنى نهج تجارى متشدد ضد الصين، تجنباً للخسائر التجارية الكبيرة، والتى تُقدر بمئات المليارات من الدولارات، التى قد تعرض لها بلاده والاقتصاد العالمى جراء ذلك.
ثانياً: خطر التصعيد العسكري: إذا عادت سياسات إدارة ترامب فى دعم تايوان عسكرياً، فقد يؤدى ذلك إلى زيادة احتمالات التصعيد العسكرى بين الصين وتايوان، خاصة وأن بكين ترى أن دعم واشنطن العسكرى لتايوان يشجعها على مقاومة السيادة الصينية. كذلك، قد يؤدى تقوية العلاقات مع تايوان إلى تعقيد العلاقات الأمريكية مع الصين وإثارة التوترات بينها وبين الولايات المتحدة وحلفاءها فى المنطقة، مثل كوريا الجنوبية واليابان، الذين قد يتضررون اقتصادياً من أى تصعيد عسكرى فى مضيق تايوان .
ومع ذلك، فإن احتمال تبنى إدارة ترامب الثانية لسياسة ترتكز على قيام تايوان بتحمل تكلفة الدفاع عنها من قبل واشنطن، ربما يجعل انخراطها مع تايوان فى أدنى مستوياته، فى ظل تبنى نهج "أمريكا أولاً"، وهو ما قد يعنى أن توظيف ورقة تايوان للضغط على الصين قد يأتى فى مرتبة متأخرة فى إطار أولويات إدارة ترامب تجاه الصين، وبالتالى فإن مسألة تايوان ربما لا تكون ذات تأثير كبير فى تحديد بوصلة العلاقات بين بكين وواشنطن فى ظل إدارة ترامب الثانية طبقاً لبعض التحليلات.
ثالثاً: التأثير على قضايا التكنولوجيا والأمن القومي: قد يؤدى إعادة تركيز ترامب فى ولايته الثانية على الاستمرار فى تقليل اعتماد الولايات المتحدة على التكنولوجيا الصينية، من خلال حظر الشركات الصينية لاعتبارات الأمن القومي، إلى توسيع الفجوة التقنية بين البلدين بصورة أكبر من تلك التى شهدتها فترة ولايته الأولى، وهو ما قد يجبر الدول على اختيار أحد النظامين التقنيين؛ وهذا سيؤثر على الأسواق العالمية وسلاسل التوريد ويعزز من سياسة "الفصل" الاقتصادى بين أكبر اقتصادين فى العالم، مع انعكاسات ملحوظة على الابتكار والتعاون الدولى فى قطاع التكنولوجيا.
رابعاً: توظيف قضايا حقوق الإنسان للضغط على الصين: بناء على تزايد الاهتمام الأمريكى بحقوق الإنسان فى الصين، واستمرار هذا الملف فى تشكيل جزء مهم من العلاقات الثنائية بين واشنطن و بكين خلال فترة رئاسة ترامب الأولى، يمكن توقع أن تكون الملفات المرتبطة بحقوق الإنسان فى الصين مجالاً جديداً للتوتر فى علاقات القوتين العظميين، إذا أعاد ترامب طرحها بشكل أكثر حدة، خصوصاً مع التحالفات الدولية.
خامساً: احتمال تقليص الدور الإقليمى للصين: قد يؤدى قيام إدارة ترامب خلال رئاسته الثانية بتعزيز الشراكات مع الشركاء الآسيويين لبلاده، إلى كبح جماح تحركات الصين فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهو ما قد يؤدى إلى زيادة الضغط الاستراتيجى على الصين وإجبارها على إعادة التفكير فى سياستها الخارجية. كما أن دعم ترامب لتحالفات مثل "كواد" والتعاون المتزايد مع اليابان وكوريا الجنوبية والهند، يمكن أن يساهم فى تقليص نفوذ الصين الإقليمي، ويعزز من التكتلات الاستراتيجية التى قد تضعف قدرتها على التحرك بحرية فى المنطقة.
سادساً: تنامى التوترات الدولية: من الممكن أيضاً أن تشهد العلاقات الدولية مزيداً من التوترات، حيث سيزداد انقسام العالم إلى تحالفات اقتصادية وتكنولوجية متوازية. وعلى الصعيد الاقتصادي، قد يؤدى هذا التصعيد إلى تباطؤ النمو العالمي، مع تأثيرات سلبية على التجارة الدولية والاستثمار. وستكون هناك حاجة إلى دبلوماسية مرنة من جميع الأطراف لتجنب تصعيد غير مرغوب فيه، إذ إن الاقتصاد العالمى يعتمد بشكل متزايد على التعاون بين القوى الكبرى.
ختاماً، تواجه الصين تحديات كبيرة فى ظل التوقعات بسياسات متشددة من إدارة ترامب الجديدة تجاهها، خاصة فى مجالات التجارة والتكنولوجيا والأمن.
ولمواجهة هذه التحديات، ينبغى على الصين العمل على تسريع خططها لتطوير صناعات تكنولوجية محلية، مثل صناعة الرقائق الإلكترونية، وزيادة استثماراتها فى البنية التحتية، فضلاً عن العمل على تعزيز تحالفاتها مع دول، مثل روسيا ودول فى آسيا وإفريقيا لتعويض أى تأثيرات سلبية من هذه السياسات، ناهيك عن تأكيد أهمية الاستقرار والاستدامة كأساس للعلاقات بين الصين والولايات المتحدة، بما يترتب عليه "تعزيز الحوار والتواصل" بين البلدين، وإدارة خلافاتهما بشكل مناسب، وتطوير التعاون المتبادل المنفعة، وإيجاد طريقة صحيحة للتعايش بين بكين وواشنطن فى العصر الجديد، بما يخدم مصلحة البلدين والعالم. وهى المعانى التى أكد عليها الرئيس الصينى شى جين بينغ فى تهنئته لدونالد ترامب على انتخابه رئيساً للولايات المتحدة.