عندما نلقي نظرةً فاحصةً متعمقةً على التاريخ البشري، نجد أن هذا التاريخ لم يكن إلا صراعًا دائمًا متصلًا بين الحق والباطل.
واللافت للنظر أن جولات انتصار الحق على الباطل هي جولات محدودة العدد متباعدة السنوات، ف الباطل يطغى ويعلو ويتجبر و الحق صامد ساكن واثق .
ولعلَّ السبب في قلة عدد جولات انتصار الحق على الباطل، هو أن الحق عندما ينتصر فإنه يستأصل الباطل من جذوره فلا تقوم له قائمة إلا بعد أن ينصرف أهل الحق عن حقهم وأهل الصلاح عن صلاحهم، فيعطون الفرصة للباطل ليعود مرةً أخرى ليبسط هيمنته على الدنيا ويفرض قانونه على مجريات الحياة.
وما من شيءٍ يجري في ملك الله إلا بأمر الله، واقتضت الحكمة الإلهية أن الله سبحانه لا يعجل للظالم عقوبته بل يمهله حتى إذا أخذه لم يفلته.
فعن أَبي موسى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (هود:102) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
والأمة الإسلامية تحديدًا مرت عبر تاريخها بالعديد من النكبات.
وكانت سيادة الباطل تطول حتى يظن أهله أنهم قد دانت لهم الدنيا وحُسمت لهم المعركة.
وكان الحق يهون حتى يظن أهله أن لا تقوم قائمة له مرةً أخرى.
مرت الأمة الإسلامية بهذه الأمور وعاشت تلك المشاعر منذ بداية الدعوة.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذَّب ويطارد ويتهم بأخس وأحقر التهم التي يمكن أن يوصم بها إنسان، فضلا عن كونه صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وأحبهم إلى مولاه، فيتهم بالكذب وهو أصدق الناس، ويتهم بالجنون وهو أعقل الناس، ومع ذلك يصبر ويحتسب واثقًا بوعد ربه له، بأن نصر الله سيكون حليفه في النهاية؛ لأن انتصار الحق على الباطل سنة كونية لا فكاك منها.
ويُحدِّثنا كُتَّاب السيرة النبوية أن أبا طالب عم النبي كان يمثل درعًا خارجيًّا واقيًا له من أذى قريش له.
ويُحَدِّثُنا كُتَّاب السيرة النبوية أن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها كانت تمثل درعا داخليا نفسيا يمنح النبي صلى الله عليه وسلم الثقة والطمأنينة واليقين بنصر الله له مهما اشتد الأذى أو طال أمد البلاء.
ويُحدِّثُنا كُتَّاب السيرة النبوية أنه بعد وفاة كلٍّ من أبي طالب والسيدة خديجة نالت قريش من النبي الكريم، ووصلوا من أذاه إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياة عمِّه، حتى نثر بعضهم التراب على رأسه، كأنما يُعلِمونه أنه أهون عليهم من أن يكون حرًّا، فضلًا عن أن يكون عزيزًا، فضلًا عن أن يكون نبيًّا؛ قالوا: فدخل رسول الله ﷺ بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي!
كانت تبكي إذ لا تعلم أن هذا التراب على رأس النبي العظيم هو رمز لطفرة عابرة من طفرات الباطل سرعان ما تنقشع وتزول.
هذه القبضة من التراب الأرضي قبضةٌ سفيهةٌ، تحاول ردَّ سنة الله في كونه أن تأخذ طريقها وتعمل عملها في التاريخ، فهي في مقدارها وسخافتها ومحاولتها، كعقل قريش حينئذٍ في مقداره وسخافته ومحاولته.
أما النبي ﷺ فقال لبنته: «يا بنية، لا تبكي، فإن الله مانعٌ أباكِ.» حسِبَت ذلك هوانًا وضَعَةً، فأعلمها أن قبضةً من التراب لا تطمر النجم، وأن هذه الحثوة الترابية لا تسمَّى معركة أثارتها الخيلُ فجاءت بنتيجة، وأن ساعة من الحزن في يوم، لا يُحكَم بها على الزمن كله، وأن هذه النزوة التي تحركت الآن هي حمق الغباوة: قوتها نهايتها.
وقد أراد الله تعالى أن يعلِّم نبيه ويعلم أمته من خلاله أنه لا نصر إلا من عند الله ولا ينبغي للمؤمن أن يطمح إلى درعٍ أو سندٍ أو ناصر سوى الله تعالى.
ويضطره قومه للخروج من مكة، ويدخل الغار وصاحبه معه فيقول له صاحبه إشفاقًا وخوفًا "لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا" فيكون رده: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
قال تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)(التوبة: 40)
وتكثر المواقف وتتابع الخطوب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل مرة من المرات وفي كل خطبٍ من الخطوب تأبى الحسابات المادية أن يكون النصر حليفًا له أو تكون غلبة الحق هي نتيجة الصراع. ولكن الله ينصر عبده ... ويبطل كيد أعدائه.
فمن يوم الطائف إلى يوم الهجرة، ومن يوم يوم بدرٍ إلى يوم الأحزاب، ومن يوم الحديبية إلى يوم حنين، وغيرها الكثير والكثير من الأيام التي كانت رسائلها أن الحق منصورٌ ولو طال خذلانه، وأنه غالبٌ ولو قلَّ أنصاره.
وتسير أمة رسول الله على نهجه ردحًا طويلًا من الزمن تكون لهم سيادة الدنيا وعزها وهيبتها، ثم يأتي منهم من يتقاعس أو يتخاذل فيعلو الباطل ويسود، فتثوب الأمة إلى رشدها وتستعيد سيرة وهدي نبيها فتكون لها الغلبة والانتصار.
والأمة يجب أن تعلم أنها ما انتصرت طوال تاريخها الطويل إلا بتمسكها بمصباحٍ وسلاح.
فالمصباح هو قرآنها الذي جعله الله لها نبراسا، فكلما اهتدت به سادت ونجت، وكلما انحرفت عنه ضلت وخُذلت.
والسلاح هو إيمانها بربِّها و ثقتها بوعده مهما تكالبت عليها الخصوم أو تتابعت عليها الخطوب.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) الأحزاب: 9- 12