من ذاكرة الزمن (1) ... باخوم 1/10

من ذاكرة الزمن (1)  ...  باخوم  1/10الكعبة

ثقافة21-11-2024 | 16:35

للعظماء والنابهين، والأفذاذ والمبدعين من بني البشر، سماتٌ خاصة، فَهُم يعشقون ما يُبدعون ويُخلِصُون لِمَا يُقَدِّمُون حتى يُوقِفُوا حيواتهم على إبداعهم ويَقْصُرُوا وجودهم على ما جادت به قريحتهم، ويختزلوا غاياتهم فيما قدمته أيديهم.

والمبدعون يختلفون عمَّن سواهم في أن ما يقدمونه لا تنفرد به حاسّةٌ واحدةٌ من حواسهم، ولا تستأثر به جارحةٌ واحدةٌ من جوارحهم، ولا يسيطر عليه شعورٌ واحدٌ من مشاعرهم.

وما المبدع إلَّا كتلةٌ من تحالفٍ مُعْلَنٍ بين مشاعرٍ شتَّى، وما الإبداع إلا شعورٌ ينتج من معانقة الرضا للغضب، وإحساسٌ يولد من احتضان الحزن للسرور، وتحفةٍ فنيَّةٍ تتناسق فيها البسمات مع الدموع.

وقد يَقِلُّ أوْ يكثُرُ إنتاج هؤلاء المبدعين، ولكن من بين إبداعاتهم أو اختراعاتهم أو اكتشافاتهم يبقى إبداعٌ أو اختراعٌ أو اكتشافٌ يحتل سويداء قلوبهم وتتعلق به أرواحهم فيُعرفُون به ويُعرف بهم، ومن فرط حبهم له فقد يتخذون قرارًا أن يكون هذا هو آخر إنتاجهم لأنهم يرونه ذروة سنام أعمالهم والغاية القصوى من وجودهم؛ فيتوقفون مختارين عن فعل أي شيءٍ بعده؛ وفاءً له وإعجابًا به.

وقد ينسج خيال الأديب عشراتٍ من القصص أو الروايات أو الأشعار، ولكن تبقى قصةٌ أو روايةٌ أو قصيدةٌ هي محبوبته التي التقاها في خريف عمره، بعد أن ظنَّ أن لا نصيب له منه، فيسيطر حبُّها على حنايا قلبه، ويتغلغل عشقها في خلجات روحه، ولا يفتر لسانه عن ذكرها مع هزيج أنفاسه.

وقد تمتزج أنامل الفنان مع ريشته فتهب الحياة لعشراتٍ من لوحاته التي تُسكب أمامها العبراتُ تأثرًا، ويغيب فيها العقلُ افتتانا، ولكن تبقى لوحةٌ من لوحاته هي نبتته التي صادفها في صحراء عمره، فرواها بنبضات قلبه ودفقات دمه وخلايا أعصابه، حتى أصبحت كلَّ معانى حياته، وأصدق دلائل وجوده.

و الإبداع لا يقتصر على ما يأتي به المرءُ من أدبٍ يبهج النفس ويمتع العقل، أو فنٍ يسمو بالشعور وينقع غلَّة الروح.

و الإبداع – في ظنِّي – يجب ألّا يخلو من سمتين هما النفع والخلود.

و المبدع - في ظني - يجب ألا يخلو من خلقين هما الصدق والإيثار.

وما كان " باخوم " إلا أحد هؤلاء المبدعين الذين وُفِّقوا إلى عملٍ جليلٍ، رأى أن هذا هو أعلى إبداعاته وأشرف إنجازاته، فقرَّر بعده أن يعتزل عمله الذي أحبه وأفنى حياته في تجويده وتحسينه، وتَوَقَّف عن العمل مختارًا، وآثر أن ينفق ما تبقى له من العمر عابدًا لله، محسنًا إلى عباد الله، لا سيما وأن هذا العمل كان هو أشرف وأجلَّ الأعمال، وشاركه فيه أعظم وأكمل الرجال.

أضف تعليق