كتبت: أمل إبراهيم
لأول مرة أشعر بالقلق وأنا أكتب لأن ما أكتبه هنا قد يبدو هزيلًا مقارنة بقلم عريق ورائع وفى نفس الوقت سهل وبسيط ويقدم قصة رائعة شديدة الثراء وتجربة مميزة، والحقيقة أننى كنت إحدى المعجبات بقلم الكاتب الصحفى القاص ” أحمد الخميسى” ولكن بعد أن تحدثت معه وصوته لا يغادر خيالى وجملة واحدة تتردد على مسامعى وهو يؤكد أن يتم نشر صورة والدته مع الموضوع، ربما تضاعفت قيمة الرجل فى عينى وقلبى لأننى دائما أقول أن الأمومة صفة غير قاصرة على النساء وأن الحظ سوف يسعدك عندما تقابل رجلا يحمل قلب مفعم بالحب لأمه، وبالطبع لم يتم إضافة أو تغيير أى حرف مما كتبه وتم نقله حرفيًا كما وصلنى.
د. أحمد الخميسي- كاتب صحفي وقاص- منفصل- مواليد القاهرة 1948، لاشك أن أهم حدث كان ” النكبة ” باحتلال فلسطين، لكن وعيي لم يتفتح إلا بعد ذلك إلا وأنا في نحو الخامسة أو السادسة من عمري، وهي السن التي تبدأ فيها ذاكرة الطفولة في اقتناص صور العالم، والسكن الأول الذي فتحت عيني عليه كان في العباسية، في شارع الجيش، ولا أذكر من ذلك المكان شيئًا إلا أنه كان تحت بيتنا محل فسخاني لديه ” تندة” أي غطاء مفرود فوق المحل، وأنني بالخطأ ألقيت عقب سيجارة أشعلت الغطاء، فشعرت بالذنب زمنًا طويلًا، ذلك كان عام 1953، في تلك السنة اعتقل والدي مع كثيرين ممن طالبوا في مطلع ثورة يوليو بعودة الجيش إلي الثكنات، واختفى من حياتي فجأة، فاضطررنا للانتقال للعيش مع جدي في بيته بالجيزة، قرب منطقة العمرانية.
وهناك دخلت المدرسة الابتدائية، وبدأت حياتي مع أقراني الصغار، في شارع السروجي، وفي المدرسة، في الشارع كان ثمة بيت واحد كان يقال عنه ”بيت المسيحيين”، لكننا كنا نلعب مع أطفال البيت الذين مازلت أذكر وجوههم وأسماءهم : نصحى، وسمير، وسعاد، وعلى صغر سني فقد وقعت في حب سعاد التي كانت في نحو السابعة ولها عينان خضراوان وصوت خافت جميل، وبالطبع لم يتخطَ حبي لها حدود النظر إليها والجري معها في غيطان كانت ممتدة أمام بيت جدي، في المدرسة مازلت أذكر كان لدينا ولد صغير ضعيف، نحيل، يأتي إلى الفصل منهكًا، تكاد كتفاه لا تحملان رأسه، فيجلس على الدكة الأخيرة ويضع رأسه على سطحها وينام حتى نهاية اليوم الدراسي، وقد أثار إشفاقي طويلًا وبعمق ولا زلت إلي الآن أتساءل: ماذا حدث له؟.
كانت معاملة المدرسين طيبة، فقط أذكر مرة واحدة حين طالبنا مدرس الرسم أن نقص ونلصق أوراقًا ملونة ونشكل بالقطع المقصوصة رسم دجاجة، ولا أدري ما الذي قدمته له حين ذاك بحيث أثار غضبه بشدة، فزعق وصرخ، وحين عدت إلى البيت شكوت لجدي فرافقني إلى المدرسة في صباح اليوم التالي، وطالب المدرس بالاعتذار لي لأنه خوفني!
فى تلك السنوات المبكرة كنا نلعب في الشارع لعبة ” ترونجا” وأظن أن كلمة ” ترونجا ” إيطالية من كلمة مثلث، لأننا كنا نرسم على تراب الأرض مثلثًا ونضع في قلبه البلي، ثم نقف بعيدًا ويرمي كل منا بلية ليصيب البلي الذي بداخل المثلث.
وكنا أيضا نلعب لعبة أخرى، أظنها اختفت هي ”السبع طوبات” وكانت تنتهي بمطاردة الخاسر، أما خارج المدرسة فقد كنا نسبح في ترعة أمام بيت جدي، هذه الترعة هي التي تم تجفيفها وأصبحت شارع فيصل الضخم حاليا، لهذا أستطيع القول إنني سبحت في شارع فيصل حين كان مجرد مياه تجري بين ضفتين.
فيسنة 1956 مع العدوان الثلاثي على مصر، أغلقت المدرسة التي كانت قريبة من البيت، وتحولت إلي مقر للجنود، وكان عندي فضول شديد لرؤية الجنود، وبنادقهم، فكنت أحمل إليهم طعامي فيتركونني أجلس بينهم ويدعونني أتفرج على البنادق وصندوق الذخيرة وما شابه. ومع انتهاء العدوان خرج والدي من المعتقل وانتقلنا إلى شقة أخرى منفصلة، أولا في شارع مجاور هو شارع عبد السميع، ثم إلي شقة في حدائق القبة، ثم شارع مصر والسودان، ثم أخيرا شارع نوبار الذي لم نفارقه حتى كبرنا وأنهينا تعليمنا أنا وأخوتي، في مدرسة راتب باشا الابتدائية قرب شارع نوبار أنهيت التعليم الابتدائي ومازلت أذكر أننا كنا في الفسحة نقف طابورًا طويلًا أمام إناء ضخم مليء بالبليلة الساخنة المسكرة، وبيد كل منا طبق، فيأخذ كل واحد حصته ويمضى بعيدا ليأكلها، وحين كان البعض منا يحاول الوقوف مرة ثانية ليحصل على وجبة بليلة ثانية، كان طباخ المدرسة يتذكره بمعجزة، فيضربه على رأسه بمغرفة البليلة، لذلك لم أجازف حينذاك بمحاولة الاستيلاء على المزيد.
عشت ونموت وتشكل وعيي وعقلي زمن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، شكلت وجداننا الوطني أحداث ضخمة بعضها وقع ونحن صغار مثل تأميم قناة السويس، فلم نشهد تلك الأحداث، لكننا عشناها بفضل أغنيات عبدالحليم حافظ، أما الأحداث التي شهدناها بوعي فكانت ضخمة، كان تعداد الشعب حينذاك لا يتجاوز الثلاثين مليون، حسب أغنية عبد الحليم ” اطلب تلاقي تلاتين مليون فدائي”، ومع ذلك كان لدينا أكثر من 15 مجلة ثقافية متخصصة، ونشطت حركة الثقافة والمسرح والباليه، وأفسح التعليم المجاني الفرصة لأبناء الفقراء لكي يدخلوا إلى عالم المعرفة والعلم. إلا أن أكثر الأحداث إيلاما كان نكسة 67، فقد كانت أشبه بالطعنة التي لا يفارقني أثرها إلى الآن، وأظن أن كل أبناء جيلي كان لديهم هذا الشعور المرير، بأننا كنا نحلق في السماء وفجأة هوينا إلي الأرض بعنف، وبقسوة.
والمؤلم أننا لم نكن نعرف ما الذي ينبغي علينا القيام به. بعد النكسة أعلنوا أنهم سيدربون الشباب على إطلاق النار، وبالفعل فتحت المدارس لتلك التدريبات، وذهبنا وتدربنا على إطلاق النار، لكن أحدا لم يستدعنا إلى القتال، ولم ينتبه أحد إلي استعدادنا لبذل دمائنا. عاش أبناء جيلي من قمة الثورة حتى قاع النكسة، دورة كاملة، ما بين ذرى الانتصار وصخور الهزيمة. التحقت بالجامعة بعد إنهاء الثانوية العامة، ولكن تم اعتقالي في العام الأول 1968 عقب مظاهرات الطلاب التي قامت تأييدا لعمال حلوان الذين انتفضوا احتجاجا على صدور أحكام مخففة على قادة سلاح الطيران الذين اعتبرهم الكثيرون المسئولين عن النكسة، وظللت في المعتقل نحو ثلاثة أعوام، وحين خرجت شهدت بحزن شديد جنازة جمال عبد الناصر، ورأيت كيف بكاه الفلاحون والفقراء، ووقفت أبكيه معهم في ميدان التحرير. سافرت بعد ذلك إلي الاتحاد السوفيتي لأواصل دراستي التي انقطعت في مصر، وهناك حصلت على ماجستير ثم دكتوراه في الأدب الروسي، وعملت مراسلا صحفيا لصحف مصرية وعربية، وهناك أيضا تعرفت إلى زوجتي الأولى وهي روسية ، فلم يطالبني أحد – ولله الحمد – لا بمهر، ولا بشبكة، ولا يحزنون، فقط قمنا بتسجيل زواجنا، وبعد ذلك استأجرنا شقة وقمنا بتأثيثها، ثم نظمنا حفلا صغيرا في مطعم احتفلنا فيه بذلك الحدث مع الأصدقاء.
بالنسبة للأجيال الجديدة فقد جرت العادة أن يقوم القدامى بانتقاد كل جديد، كلما يأتي بعدهم، لكني لا أحبذلك، وأجد في هذا شيئا من الأنانية ومنتج ميل حياتي على حساب الآخرين، الجيل الجديد لابد أن يكون أفضل من الأجيال السابقة عليه، أو أنني أحب أن يكون أفضل، وأقوى، وأجمل، بلو أثقفي ذلك، لكن ملاحظتي الوحيدة على الأجيال الجديدة أن أبناءها متسرعون، متعجلون، يخيل إليهم في كثير من الأحيان أنه من الممكن تحقيق كل شيءبسرعة. لكن من يدري؟ ربما يكونون هم على حق؟ وربما تكون الحياة القصيرة بطبيعتها جديرة بأن نسرع في استثمارها. عامة أحلم بأن تغدو الحياة في مصر أجمل، وأن تكون مصر نفسها أجمل، وأن يشيع الحب في كل شوارعها، وبين أعمدة نورها، وتحت أسقف عماراتها، وفي حدائقها. أتمنى أن تصبح مصر أجمل بلد في العالم، لأنها ريحانة، فواحة، لا يتبدد عطرها لا في التاريخ ولا في الزمان ولا في المكان.
[gallery type="slideshow" size="full" ids="217120,217121,217122,217123"]