إسماعيل منتصر يكتب: « خواطر حرة جدًا ».. عدو الفرشاة والألوان!

إسماعيل منتصر يكتب: « خواطر حرة جدًا ».. عدو الفرشاة والألوان!إسماعيل منتصر يكتب: « خواطر حرة جدًا ».. عدو الفرشاة والألوان!

*سلايد رئيسى1-1-2019 | 18:38

بينى وبين فن الرسم تاريخ طويل من العداء المستحكم!.. أستطيع أن أقول إن تاريخ هذا العداء يعود إلى مرحلة الطفولة.. وبالتحديد مرحلة التعليم الابتدائى ومن بعدها مرحلة التعليم الإعدادى.. أيامها كانت مادة الرسم جزءًا مهمًا وأساسيًا من العملية التعليمية.. كانت حصة الرسم بالنسبة لى وقتًا ثقيلاً مملاً يمر بمنتهى البطء وكان “واجب” الرسم من أثقل الواجبات الدراسية إلى نفسى.. كانت مشكلتي مشكلة مزدوجة إن صح التعبير.. كانت يدى عاجزة دائمًا عن ترجمة ما تراه عينى وما يدور فى رأسى.. إذا أردت أن أرسم حمارًا مربوطًا في شجرة أمام منزل ريفى أجد نفسى وقد رسمت مسخًا مشوهًا يجمع ما بين البقرة والقرد والكلب!.. وإذا أردت أن أرسم طفلة أو فتاة أو حتى امرأة أجد النتيجة “أمنا الغولة”!.. فى نفس الوقت كنت أعتبر فن الرسم مضيعة للوقت.. لماذا يقضى الرسام ساعات وأيامًا فى رسم لوحة يستطيع بلمسة زر على كاميرا أن يرسمها فى لحظة بمنتهى الدقة؟!.. كان من تقاليد حصة الرسم أن يقوم المدرس باختيار أجمل اللوحات المرسومة ويقوم بتمريرها على كل تلاميذ الفصل لكى يتعلموا ويستمتعوا.. ولم يحدث أبدًا طوال سنوات دراستى بالمرحلتين الابتدائية والإعدادية أن أختار أى مدرس أى لوحة لى.. ولم يحدث أيضا أننى تعلمت واستمتعت!.. كنت فى المرحلة الإعدادية من التلاميذ المتفوقين.. وعندما اجتزت امتحان الشهادة الإعدادية تمهيدًا للالتحاق بالمرحلة الثانوية.. كنت على يقين من تفوقى فى كل المواد الدراسية لكنني فقط كنت خائفًا ومرعوبا من مادة الرسم.. صحيح أن درجاتها لم تكن محسوبة ضمن المجموع الكلى للدرجات.. لكن النجاح فيها كان شرطًَا للحصول على الشهادة الإعدادية.. وكان خوفى عظيما من أن يستفز رسمى المصحح ويثير غضبه فيعطينى درجة الرسوب!.. وليس معنى ذلك كله أننى أنتمى إلى هذه النوعية من البشر التى لا تتذوق الفنون.. بالعكس فأنا أحب الكتابة جدًا وأعشق الموسيقى.. أسمعها وأعزفها.. أما فن الرسم فقد بقى دائمًا حصنًا منيعًا ضد الفهم والتذوق والاستمتاع.. لم أفرح يومًا باقتناء فرشاة رسم أو لوحة ألوان مائية أو غيرها من أدوات الرسم المعروفة.. وظل فن الرسم بالنسبة لى فن لا معنى له ولا لزوم.. ويبدو غريبًا وعجيبًا أن يلتقى شخص بمثل هذه المواصفات الكارهة لفن الرسم باثنين من أشهر فنانى الرسم وأن يزور عاصمة فن الرسم فى العالم كله.. متحف اللوفر بباريس!.. عرفت الفنان فاروق حسنى قبل أن يتولى منصب وزير الثقافة.. كان أيامها يعمل مديرًا للأكاديمية المصرية للفنون فى روما.. التقيت به فى القاهرة لإجراء حوار صحفى معه وقابلته فى فندقه الذى كان يقيم فيه.. فندق صغير فى شارع متفرع من شارع مراد بالجيزة وكان يطل على حديقة الحيوان.. أبديت دهشتى لتواضع الفندق فقال ضاحكًا إذا عرف السبب بُطل العجب.. واصطحبنى إلى شرفة حجرته فإذا بى أمام مشهد لم أرى أروع منه.. بحر ممتد من الخضرة الكثيفة متنوعة الدرجات تمتد أمامك بامتداد البصر.. قال الفنان فاروق حسنى إن الناس تتصور أن حديقة حيوان الجيزة تضم الحيوانات فقط لكنها تضم أيضا مجموعة نادرة من الأشجار والنباتات.. وقد تعودت كلما جئت إلى القاهرة أن أنزل فى نفس الفندق المواجه للحديقة، وفى نفس الطابق المطل عليها لأستمتع بهذا الجمال الساحر.. وأحسست أننى أمام شخص متميز وتأكد لدى هذا الإحساس عندما التقيت بالفنان فاروق حسنى أكثر من عشر مرات خاصة بعد أن تولى منصب وزير الثقافة.. كان الفنان فاروق حسنى مهتمًا بإقامة معارض للوحاته الفنية.. وكنت أحضر هذه المعارض وأكتب عنها كصحفى وليس كناقد فنى.. وكانت هذه المناسبات فرصة لأسمع منه وأحاول أن أفهم!.. وكم حدثنى الفنان فاروق حسنى عن الفن التشكيلى وعن تطور مدارس الفن من المدرسة الحقيقية التى تعتمد على نقل الواقع الموجود كما هو إلى المدرسة الانطباعية التى يعتمد فيها الرسام على ملاحظاته الحسية إلى المدرسة السيرالية التى تعتمد على تجسيد الأحلام والأفكار وليس النقل من الواقع.. ثم المدرسة التجريدية التى تعتمد على تجريد الحقائق والأشياء من طبيعتها ورسمها اعتمادًا على خيال الفنان.. نقلت كل ما سمعته من الفنان فاروق حسنى إلى القراء فى صورة لقاءات وحوارات صحفية.. وأبدى زملائى من الفنانين التشكيليين الذين يعملون بمهنة الصحافة إعجابهم بما أكتب وتحمسوا له.. أخيرًا فهمت.. ولم يعد باقيًا إلا أن أستمتع!.. قررت أن أختبر نفسى فذهبت إلى بعض معارض الفن التشكيلى وهناك اكتشفت أننى لازلت أقف موقف العداء من الفرشاة والألوان (!!!) وكانت الشخصية الثانية التى التقيت بها بحكم عملي بعد الفنان فاروق حسنى هى الفنانة الدكتورة زينب عبد العزيز.. وتستطيع أن تقول عنها إنها فنانة شاملة، فاسمها مدرج فى الموسوعات العالمية كأستاذة جامعية وباحثة ومؤلفة وفنانة تشكيلية.. تعرفت على الدكتورة زينب عبد العزيز فى الطائرة المتجهة من القاهرة إلى الدار البيضاء.. وأمضينا ساعات الرحلة الطويلة فى أحاديث عن الصحافة والسياسة والثقافة والدين.. وجاء الدور على الفن فحكيت لها عن عذاباتى مع حصة الرسم.. ضحكت الدكتورة زينب عبد العزيز وظلت تضحك لفترة طويلة لكنها لم تعلق.. وعندما انتهت مهمتى بالمغرب تواصلت علاقاتى ولقاءاتى بالدكتورة زينب بحكم المهنة.. وذات يوم تلقيت منها دعوة كريمة لحضور عشاء فى منزلها مع مجموعة من أصدقائها.. بعد العشاء، اصطحبتني الدكتورة زينب من يدى واتجهت بى إلى حجرة صغيرة وهى تقول: حان الوقت لتتخلص من كراهيتك لحصة الرسم (!!!) كانت الغرفة صغيرة تضم “فوتيه” واحدا بجانبه “ترابيزه” صغيرة وأمامها حامل لوحات كبير.. فقط لا غير.. طلبت منى الدكتورة زينب الجلوس وأحضرت فنجان شاي وقطعة جاتوه ثم قامت بإحضار لوحة زيتية كبيرة وضعتها فوق الحامل وأضاءت كشاف نور مسلط على اللوحة ثم أطفأت نور الحجرة وطلبت منى الجلوس والاسترخاء وتأمل اللوحة والاستمتاع بتفاصيلها!.. لا تفكر فى أى شىء آخر إلا المشهد الذى أمامك.. تأمل جيدًا وأمتع عينيك.. ثم تركتنى أنفرد باللوحة لمدة نصف ساعة.. وتنتهى السهرة وأحس بسعادة وأنا أغادر منزل الدكتورة زينب.. والحقيقة أننى استمتعت بالفعل لكننى اكتشفت أن مصدر المتعة لم يكن اللوحة التى تأملتها لمدة نصف ساعة وكانت تصور مشهد التلال والجبال فى سيناء، وإنما كان سبب المتعة أجواء الدلع التى عشتها.. مقعد مريح وجو هادئ وفنجان شاى مضبوط وقطعة جاتوه لذيذة (!!!) وتمر الأيام وأسافر إلى باريس مرة واثنين وثلاثة.. وأشاهد معظم معالمها قوس النصر.. برج إيفل.. شارع الشانزليزيه.. ميدان الكونكورد الحى اللاتينى.. حتى ملهى الـ “مولان روج” حرصت على رؤيته.. ثم تذكرت أننى لم أر متحف اللوفر.. الذى فى الحقيقة لم يكن من بين خططى وأحلامى.. قلت لنفسى عيب أن ترى باريس عاصمة النور ولا ترى متحف اللوفر عاصمة الفن فى العالم.. قضيت فى المتحف ساعتين مع أننى عرفت أن الزائر لا يستطيع أن يراه بأكمله فى يومين.. كان هدفى البحث عن لوحة الموناليزا الشهيرة أو الجوكندا التى رسمها الفنان العالمى ليوناردو دافنشى.. كنت أعرف أنها أكثر الأعمال الفنية شهرة فى تاريخ الفن.. وربما لهذا السبب لم أهتم برؤية اللوحات المعروضة فى القاعات الأخرى المجاورة للقاعة التى عٌرضت فيها الموناليزا!.. وهكذا دخلت وخرجت من متحف اللوفر يا مولاى كما خلقتنى.. كنت مثل شاهد لم يشاهد حاجة.. ومن الغريب أنه لم يبق فى ذاكرتي من هذه الزيارة لأشهر متاحف العالم إلا مشهد الزائرين ومن بينهم أطفال فى سن الحضانة.. كانوا جميعا يجلسون فى صمت وهدوء وخشوع يتأملون اللوحات المعروضة كأنهم داخل معبد مقدس!.. أما لوحة الموناليزا وغيرها فقد تبخرت صورها تمامًا من ذاكرتى (!!!) هل يمكن أن يتغير الحال؟.. هل سيأتى يوم أتخلص فيه من عقدة حصة الرسم وأفهم وأستمتع؟.. سمعت الشيخ الشعراوى – رحمه الله – يقول مرة: ربنا ادى كل واحد مننا 24 قيراطا.. وهى موزعة حسب البطاقة التموينية بتاعة ربنا.. فيه ناس ربنا مديها 12 قيراط صحة و12 قيراط ستر.. وناس ربنا مديها 20 قيراط فلوس و4 قراريط صحة.. وفيه ناس معندهاش غير 2 قيراط فلوس لكن عندها 22 قيراط صحة وستر ورضا ربنا.. ولابد أن المواهب الفنية تدخل فى حسبة الشيخ (!!!).
    أضف تعليق

    وكلاء الخراب

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين
    إعلان آراك 2