كتب: حسام أبو العلا
أصدرت الأديبة إيمان يوسف كتاب بعنوان " حياة الشاعر محمد مكيوي وقصائد لم تنشر عنه" ضمن سلسلة عبقرية الإسكندرية لمبدعيها.
وتقول الكاتبة في مقدمة الكتاب: إن مكيوي من رموز الوفاء النبيل والأصيل واستحق أن يكون له بعد وفاته جزء مما قدم من العطاء في حياته وتوصياته لأحبابه ولتلاميذه بالاجتهاد، ومقولته الشهيرة " الكتابة خلود" و" الكتاب هو إبداعك الذي تسجله للزمان، ليكون لك بصمة تواجد ، اسم ، حتى لا تخدعك الحياة، وتمر عليها مرور الكرام وترحل . بل كن الأذكى والأقوى بإبداعك سطّر واجتهد، وشارك، وانتهج طريقا لصنع الحاضر والمستقبل. تعلّم جميع المهارات، واقرأ ما تيسر من الكتب للسابقين والحاضرين ثم :( كن أنت بإبداعك) كن نفسك واستمر، وقاوم مهما كانت الصعوبات، والمواجهات، ثقتك بالله تقيك وتحميك، وتدعمك بالثقة بنفسك وإبداعك وطريقك وخلودك... ".
هذه الفلسفة هي التي صنعت نجاح تلاميذه، وأنا واحدة منهم، توصياته شمس، ونهار ساطع في العقول، يستدرج الطموح على وتر السنين ، وفيوض عطائه تجلب الإبداع من شاطئ بحور المعارف، ويمنح التحليق في فضاءات القصيدة على سطور الحواس، ونور الشعر والمشاعر واللحن الشجي، يسبح على موج اليوم، ونوارس الإسكندرية.
الإسكندرية ساحرة الوجود وحكمة الأزمان،الأفعال والأحوال، وخزانة الآداب والفنون، والأشعار، والفلسفة والعطف والمعطوف. القريبة والرقيقة والحبيبة. فتوحات الصبا والشباب، وملتقى العباقرة، والعلماء والفلاسفة والشعراء.
الإسكندرية لقاء من سنابل ورياحين وقناديل وبفيض من عسل تتركه النوارس حول الزائرين، وتعطرهم بيود البحر، ومشاعر الإحساس، والسحر فتكون الساعات جنات. واللحظات تعانقها شجرة الأساطير وتقتنص النور من الشروق إلى الغروب لتعلن قبلات الشمس للبحر، البحر ، وتترك في صوره الألوان الشغوفة للاستكانة بين أحضان البحر؛ لتذهب لتنير بلادًا أخرى، وتسدل عباءة الليل على الإسكندرية، وفي حماية البحر والمساجد والأضرحة والعارفين والعاشقين للصلوات، وانتظار آذان الفجر.
هي الإسكندرية بعذوبة الاسترسال والأغنيات، أناشيد القمر تذوب حنينا فترقص معها رقصة الوفاق والاتفاق برونق السعادة وألحان موسيقى الطبيعة، والكون يتألق أنغاما وانسجاما، إنها الجنة هنا في الإسكندرية.
نشيد الأرض في سلام، وصفاء يعلن بهاء المدينة بأسرار الضحى بأسرار الضحى ؛ ليصبح الحلم حقيقة.
مع الإسكندرية تختبئ فيها لتُشفى وترتشف السنين المطمئنة بين السكينة لتهدهد الروح والقلب، وتمنحك قواميس الأوسمة؛ لتكون من العاشقين لها هي الإسكندرية من يعشقها تمنحه سحرها وعبقريتها.
بدأت معرفتي بالشاعر الكبير والمبدع محمد مكيوي عن طريق خالي: حسن أنيس الذي أخذني إلى قصر ثقافة الحرية (1شارع طريق الحرية بالإسكندرية ) دخلت في صحبته لأتصفح أركان القصر، والبهو الرائع الملكي والسلالم والرخام .
قصر من الخيال، وعيون الحوائط المرسومة والمطرزة بعبق التاريخ، ذهبت معه ليعرفني الشاعر الكبير أحمد السمرة والشاعر الكبير محمد مكيوي، كنت وقتها في المرحلة الثانوية ، لقد ميزني خالي حسن أنيس عن كل بنات العائلة عندما وجد موهبتي في الكتابة والتعبير فشجعني، وقد كان استقبالنا في القصر حافلا، وبالأحضان وقال الشاعر أحمد السمرة : أهلا بالغالي حسن، وقدمني خالي لهم:هذه ابنة أختي الكبرى.
لاحظت موهبتها؛ فجئت بها إلى القصر لتبدأ من هنا،وبدأت الرحلة مع الأستاذ محمد مكيوي، الذي تبناني أدبيا لإحساسه بأنه يرد الجميل،لشقيق جدتي الأكبر الملحن الكبير (خليل المصري) الذي أعجب بقصيدة عن الحج للشاعر محمد مكيوي، فبحث عنه ولحن القصيدة، وكان اللحن إهداء من جدي الملحن والمؤرخ الموسيقي خليل المصري، وأذيعت الأغنية في إذاعة القاهرة عام 1950م بصوت المطربة شافية أحمد بعنوان:
يا بخت من حج وزار، ولم تغن في الإسكندرية فلم تكن إذاعتها قد انطلقت بعد. كانت إذاعة هذه الأغنية البداية الحقيقية للشاعر محمد مكيوي، أذيعت الأغنية كثيرا في ركن الأغاني الشعبية، وأصبح الشاعر محمد مكيوي من رواد الأمسية التي يعقدها الفنان والملحن والمؤرخ الموسيقي (خليل المصري ) أسبوعيا بمحرم بك، وكانت تضم نخبة من ألمع شعراء مصر وفنانيها كان منهم: كارم محمود ، وصالج جودت ،وطاهر أبو فاشا ،ومحمد قنديل ،وعبد العليم القباني ،وأحمد السمرة ،وحسن أنيس ،وغيرهم..
وتحت الطبع كتاب جديد لي عن تاريخ هذه الحقبة، يحتوي على ملخص ثلاثة كتب أصدرها جدي خليل المصري (أغاني المصري ،ليالي المصري ،أزجال المصري ).
ويشتمل على بعض الأشعار والأزجال من إبداعه، ونصوص غنائية للشعراء والفنانين الذين لحن لهم أشعارهم ،ليكون الكتاب بمثابة تاريخ له ولمن عاصروه ،ولأنه اخترع مقاما موسيقيا جديدا (مقام نغمة شوق) وكذلك اخترع رتم الصبا في الخمسينيات، وهو أول من قدم أغنية في شكل إعلان : " بشويش الناس نايمين،هتعلي الراديو لمين،الناس أسرار والجار للجار، بشويش الناس نايمين ) للتوعية ضد الضوضاء والأصوات العالية
، وكان وقتها الراديو والإذاعة في أوج الشهرة ،وكانت مدة الإعلان دقيقة ونصف، غناء سعاد مكاوي .
ولد الفنان خليل المصري بمدينة الإسكندرية في 8 يونية 1911م وتوفي ودفن بها 1975م.
انتقل من محرم بك إلى القاهرة ليعمل بها ،وأقام بحي العجوزة ،وقد اختارته شركة أوديون للإسطوانات والبرامج الإذاعية - ليكون مديرها الفني، وسافر إلى مختلف البلاد العربية للتعاقد والاتفاق على البرامج والأغاني ،وقد أهدى عائلة سيد درويش أربعمائة أسطوانة نادرة عليها أغان وأوبريتات لسيد درويش .
وقد أنفق وقته وماله في جمع تراث الموسيقى الشرقية ،وقد اختاره المجلس الأعلى للفنون والآداب ليكون عضوا بلجنة تحقيق التراث ،وكان أيضا نائبا لرئيس جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى، وعضوا فنيا لمعهد الموسيقى العربية، وأمينا لصندوق جمعية موسيقى سيد درويش ،مع صديقه الفنان محمد فوزي ،وأنشأ ناديا للمؤلفين والملحنين بشارع عرابي بالقاهرة ،ذكرت في كتابي الكثير والكثير عنه وعن فنه وسيرة حياته، والزمن الجميل.
وعندما نعود للشاعر المبدع محمد مكيوي والذي كانت ألحان خليل المصري بمثابة انطلاقة فنية ونجومية له في عالم الشعر الغنائي حيث لحن له كبار الملحنين وقتها ،وعلى سبيل المثال لحن له الملحن الكبير محمود الشريف ،ولحن له بليغ حمدي أغنية (صباح الخير ) وغنتها حورية حسن ،ولحن له الملحن الكبير علي إسماعيل أغنية إفريقيا للإفريقي، وعندما انطلقت إذاعة الإسكندرية كان لمحمد مكيوي العديد من الأغنيات والأوبريتات التي تذيعها.
الشاعر الكبير المبدع محمد مكيوي من عشاق مدينة الإسكندرية والمتعلقين بها، رفض أن يتركها وينتقل إلى القاهرة كما نصحه الكثير من كبار الشعراء والفنانين من أصدقائه، لقد منحته الإسكندرية النجومية فلن يتركها .
يقدس الشاعر الكبير محمد مكيوي العمل الجماعي ؛لذلك كانت ندواته وأمسياته بمثابة مظاهرة حب سواء بجمعية أصحاب المعاشات، أو بقصر ثقافة الحرية.
لقد فكر في أن يجمع إبداعات رواد قصر ثقافة الحرية من المبدعات ،وتحمس للفكرة ،وأقنع بها مديرية الثقافة، جمع قصائد سبع من شاعرات الإسكندرية، وكتب مقدمة للكتاب، واعتبرها هدية منه لهن وللساحة الأدبية والثقافية، وتمت طباعة الكتاب ونشره على نفقة مديرية الثقافة بقصر ثقافة الحرية عام 1992م ، وكانت الحفاوة بالكتاب كبيرة ،وشارك فيها الصحفية والإعلامية الناقدة فريدة النقاش، وكثير من الأساتذة بجامعة الإسكندرية ،وكذلك الصحفيون والإعلاميون، وأشاد الجميع بالتجربة ،وشجعوا الشاعرات على الاستمرار، وأشادوا بتجاربهن وإبداعاتهن ،التي تنوعت بين الوطني والرومانسي، وأفردت لهن جريدة الأهرام الشهيرة نصف صفحة بعنوان :الشاعرات قادمات ، وعرضت صورا لهن ، وملخصا لآراء النقاد وأساتذة الجامعات خصوصا الناقدة فريدة النقاش.
لقد كانت هذه الدفقة بمثابة انطلاقة فاعلة للشاعرات ،أيضا بالنسبة لأستاذهن الشاعر الكبير محمد مكيوي في مجال النقد والإبداع ،وقوة قيادة إبداع الشباب بقصر ثقافة الحرية ،وغيرها من المحافل الأدبية.
الشاعرات المشاركات في الكتاب هن :الشاعرة إيمان أحمد يوسف (الشهيرة بإيمان يوسف ) والشاعرة نجوى السيد ،والشاعرة آمال بسيوني ،وابنتها الشاعرة :سحر أبو شادي ،والشاعرة هدى عبد الغني ،والزجالة إيمان حسن ،والدكتورة حورية البدري شاعرة وقاصة .
وتوالت بعد ذلك الإبداعات والإصدارات ، وقد حاولت في هذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القاريء والمتلقي والمبدع أن أجمع بعض ما تمت كتابته في الصحف والمجلات والأبحاث والدراسات عن أستاذي الشاعر الكبير محمد مكيوي عرفانا وتقديرا له ولإبداعه ولقصة حياته الثرية ؛لتكون نبراسا هاديا وملهما للأجيال الحالية والقادمة إن شاء الله .
وقد قمت بنشر ديوانه المخطوط ،الذي لم يستطع طباعته في حياته بعنوان (حلم النهار)وفاء له ،ولما قدمه كصاحب فضل على الكثير من تلاميذه ،وقد شرفت أن أكون واحدة منهم .
يتناول الكتاب أيضا دراسة للأستاذ الدكتور محمد زكريا عناني أستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة الإسكندرية ورئيس مجلس إدارة (هيئة الفنون والآداب والعلوم الإجتماعية ) ،ويضم الكتاب دراسة أخرى للأستاذ الدكتور السعيد الورقي أستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة الإسكندرية ،وكذلك بحثا للباحث ملاك ميخائيل ،
كما يضم تعريفا بمعظم الكتب التي صدرت للشاعر الكبير محمد مكيوي .
أتمنى أن يلقى هذا الجهد إعجابكم ،والله ولي التوفيق .