عمرو عمار يكتب: وفاة أردوغان إكلينيكيًا بين الانقلابات العسكرية وصراع الحضارات

عمرو عمار يكتب: وفاة أردوغان إكلينيكيًا بين الانقلابات العسكرية وصراع الحضاراتعمرو عمار يكتب: وفاة أردوغان إكلينيكيًا بين الانقلابات العسكرية وصراع الحضارات

* عاجل4-4-2017 | 19:06

واجه أردوغان محاولة انقلاب عسكري بالداخل في شهر يوليو من عام 2016  بقيادة مجموعات من جنرالات الجيش التركي.. يبدو أن هاكان فيدان رئيس الاستخبارات التركية والعقل المفكر لأردوغان كان على علم مسبق بالانقلاب ووضع خطته لاستدراج الانقلابيين إلى أرض الواقع.

اتهم أردوغان غريمه التقليدي فتح الله جولن المقيم في بنسلفانيا بتدبير الإنقلاب، وطالب الإدارة الأمريكية سرعة تسليمه للسلطات التركية، ومن جهة أخرى لم يكتف أردوغان بتسريح (2840) قاضي، (6000) شرطي، (102) من جنرالات الجيش في أقل من 24 ساعة من فشل الانقلاب العسكري بل استغل أردوغان هذا الانقلاب لاستكمال رحلة اجتثات الجولانيين من مؤسسات الدولة وقطاعاتها على طريقة لجنة بول بريمر لاجتثاث البعثيين في العراق عام 2003، فأردوغان قبل عامين من الانقلاب يسير قدمًا لتحجيم نفوذ فتح الله جولن، وبطريقة ممنهجة استطاع القضاء على معظم الموالين لجولن من السلطة، عبر خطط زمنية أزاحت القيادات العليا في الجيش والشرطة وأغلقت معظم القنوات الفضائية ومقرات الصحف التابعة لجولن واعتقلت العديد من الصحفيين الموالين لجولن.

محاولة الانقلاب فسرها البعض بتمثيلية أردوغانية تستهدف خلق ذريعة للتخلص من غريمه التقليدى فتح الله جولن وأنصاره في الداخل، وكذا القضاء على أي معارضة داخلية يمكن أن تعرقل التعديلات الدستورية التي تمنح أردوغان صلاحيات أكبر، وتحوّل الجمهورية التركية من نظام برلماني إلى نظام رئاسي.

هذه الرؤية مردود عليها بأنه إذا لم يكن أردوغان بحاجة إلى اصطناع انقلاب لا يمكن التحكم فيه ميدانيًا، للتخلص من قائمة أسماء قيادات فى الجيش والقضاء كانت معدة سلفا كما قيل آنذاك، فالرجل نجح في ذلك قبل عامين من محاولة الانقلاب.

ويرى البعض الأخر، و أميل لهم، أن الانقلاب مُدبر من قبل الغرب فقد حان الوقت للخلاص من أردوغان بعد فشله في قيادة ثورات الربيع العربي وسقوط مفاتيح الشرق الأوسط على أعتاب القاهرة بثورة المصريين التى أطاحت بغلمان أردوغان وأسقطت حلم قيام الدولة المركزية للعالم الإسلامي وفق أدبيات هنتنجتون، وبات آردوغان شخصية غير مرغوب فيها من قبل أمريكا والغرب، وأن الجيش أتاتورك التركي (عضو حلف شمال الأطلسي) هو القادر على تنفيذ مهمة الخلاص.

كما أن الإصرار التركي على أن تسلم الإدارة الأمريكية فتح الله جولن، هو يقينًا ضمنيًا من أردوغان على تورط أمريكا وأوربا في محاولة الانقلاب الفاشلة، خاصة وأن أردوغان قد قام بمحاصرة قاعدة إنجريليك مقر حلف الناتو في تركيا وألقى القبض على جنرالات في الجيش التركي كانت تعمل تحت أمرة القيادة العسكرية للناتو.

لم تمر أيام على محاولة الإنقلاب حتى قدم أردوغان اعتذارا مكتوبا للكرملين عن حادث إسقاط الطيران التركي مقاتلة روسية قرب الحدود السورية في نوفمبر من عام 2015، ودعا إلى إصلاح العلاقات بين الدولتين .

اغتنم القيصر الروسي الجديد الفرصة، وسرعان ما توطدت العلاقات الروسية التركية خاصة على صعيد التعاون العسكري في سوريا، وتجاوزت هذه العلاقات حادث اغتيال السفير الروسي في أنقرة على يد جماعات إرهابية، وبدأ الكرملين الاستعداد لاحتفالية انضمام تركيا إلى منظمة شنجهاي للتعاون وتحييد نفوذها في القوقاز أوعلى أقل تقدير إيجاد مساحة مشتركة للنفوذ التركي - الروسي على هذه الأراضي تضمن لكلا الدولتين مصالحها الجيوبوليتية.

ومع ذلك فشخصية أردوغان البرجماتية  تمنح العلاقات الروسية التركية طبيعة هشة خاصة وأن التوغل العسكري التركي المتزايد فى الأراضي السورية بدأ يزعج الروس، كما أن دعم موسكو لقوات حماية الشعب الكردية بجوار قوات الأسد يزعج أردوغان كثيرًا، مع الأخذ في الاعتبار احتضان موسكو مكتب دبلوماسي للحزب الديمقراطي الكردى منذ عام 2014 كورقة ضغط على أنقرة، هذا المكتب لا يزال قائما، ويزعج أردوغان كثيرًا، ويُعد قرار منع استيراد الحبوب الروسية ورقة ضغط تستخدمها أنقرة ضد موسكو في هذا السياق.

أما إذا  نجح التحدي الروسي في تحييد الدور التركي المترنح واستمالته تدريجيًا ناحية لاعب الشرق الجيواستراتيجي على رقعة الآوراسيا، ستعد ضربة قاسمة للغرب خاصًة أن صراع الحضارات قد بدأ مبكرًا بين وريث  الدولة العثمانية، والحضارة الأوربية، حينما اشعلت ألمانيا فتيل التوتر برفض برلين تنظيم فاعلية لجالية تركية يقودها أحد المسؤلين الأتراك دعمًا للتعديلات الدستورية قبل طرحها في استفتاء شعبي في 13 إبريل 2017.

وقد صف أردوغان "رفض برلين" بأنه تصرف لا يختلف كثيرًا عن تاريخ النازية، فدخل مستشار النمسا على خط التوتر وأطلق دعوة إلى فرض حظر من قبل الاتحاد الآوربي على أنشطة الساسة الأتراك في كل دول أوربا، بعدها منعت هولندا طائرة وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو من الهبوط على أراضيها لحضور فاعلية في ذات السياق، فجاء وصف أردوغان لهولاندا بالجبناء وبقايا النازية، وتوعد بمنع الساسة والدبلوماسيين الهولنديين دخول الأراضي التركية، وخلال ثلاثة أيام كان قد صعد أردوغان من صراع الديكة مع أوربا حينما أتهم قضاء الاتحاد الأوروبي بإطلاق "حملة صليبية" ضد الإسلام، وصرح أردوغان أن أوروبا تتجه نحو الغرق في مخاوفها الخاصة، في إشارة إلى صعود اليمين المتطرف في القارة.

.. يوما بعد يوم تزداد وتيرة صراع الحضارات وفق أدبيات هينتنجتون بين تركيا وأوربا لدرجة وصف آردوغان الاتحاد الأوربي بالاتحاد الصليبي خلال كلمة ألقاها على خلفية رفع لافتة أمام البرلمان السويسري مؤخراً تدعو لقتله، قال فيها : " جميع زعماء الاتحاد الأوروبي ذهبوا كالخراف إلى بابا الفاتيكان، واستمعوا لمواعظه.  هل أدركتم لماذا يرفضون عضوية تركيا منذ 54 عامًا ؟ أقولها بكل وضوح وصراحة، إنه التحالف الصليبي".

أردوغان يعيد إلى الأذهان أوقات العصور الوسطى حينما كان يذهب نبلاء أوربا لأخذ البركة من البابا - السلطة الأعلى في البلاد -  ولذا لم ينسى أردوغان تذكرة الأوربيين بالدولة العثمانية حينما غزت أوربا، وأن تركيا هي الوريث الشرعي وتحمل الهوية الإسلامية من أنقرة وليس من اسطنبول الأوربية، حينما لفت الرئيس أردوغان النظر إلى أنه نشأ في البحر الأسود وترعرع في اسطنبول وبدأ سياسته في اسطنبول، ولكن أنقرة كانت منذ تاريخها مركزا للخدمة والحكم والاستقرار، ولذا أنشئت الدولة التركية في أنقرة ، وأشار إلى شبابها أبناء الفاتحين وجدهم السلطان محمد الفاتح الذي فتح اسطنبول بعمر العشرين.

يرى المحللون الأتراك أن تعنت أوربا تجاه تركيا في هذا الشأن حجة للتنصل من وعودها تجاه ضم تركيا للاتحاد الأوربي ولاتفاقية اللاجئين، وهذا تصور صحيح فالغرب يواجه مشكلة اللاجئين القادمين من مناطق الصراع بالشرق الأوسط وخاصة من سوريا وليبيا وتركيا هي حائط الصد في مواجهة هذه القضية الشائكة التي يمكن أن تعصف بحكومات القارة العجوز، بل وتسرّع من وتيره تفكك الاتحاد الأوربي، مع وجود ثلاثون ألف مواطن أوربي قد انضموا إلى صفوف داعش خلال الأعوام السابقة بعد أن عبروا الحدود التركية السورية عبر غازي عنتابي. هؤلاء سوف يعودون إلى مواطنهم الأصلية التي بدأت تشهد بالفعل عمليات إرهابية منذ العام 2015، بالتعاون مع الخلايا النائمة داخل هذه المجتمعات الأوربية.

ولذا يعمل أردوغان طوال الوقت على ابتزاز أوربا سواء بالمطالبة  بما قيمته (3مليارات دولار) تدفعها أوربا كجباية لمنع الهجرة غير الشرعية عبر البوابة التركية، أو مطالب آردوغان بحصول الأتراك على تأشيرة عامة ومفتوحة لكافة دول أوربا، بخلاف الدعاوي المتكررة بحصول تركيا على عضوية الاتحاد الأوربي. ويستخدم أردوغان في ذلك (2.5 مليون) لاجئ سوري متواجدين على الأراضي التركية كورقة ضغط علي الأوربيين لتحقيق مطالبه.

هؤلاء اللاجئون القابعون داخل خيام على الحدود التركية يتعامل معهم أردوغان بسياسة التتريك، وهو مصطلح يُطلق على عملية تحويل أشخاص ومناطق جغرافية من ثقافاتها الأصلية إلى "أتراك"التركية بطريقة قسرية، وقد استخدمها القومييون الأتراك أواخر عصر الدولة العثمانية في محاولة منهم لطمس الهوية والثقافة العربية.

فمثلًا دعوة أردوغان في مؤتمر شعبي حضره اللاجئون السوريون، وتجنيس هؤلاء بالجنسية التركية تُعد أمتداد لسياسة التتريك ولذلك لم ينظر أردوغان أثناء تقديم دعوته إلى السوريين الجالسين أمامه بل ذهب ببصره إلى الحدود السورية.

على النقيض تتعامل مصر مع قضية اللاجئين من منطلق الدول العريقة صاحبة القيم والمبادئ، فالقاهرة تحتضن خمسة مليون (لاجئ) من الأشقاء من سوريا وليبيا واليمن والعراق والسودان، يعيشون جنبًا إلى جنب مع المصريين في مناطق سكنية، وينخرطون داخل المجتمع المصري، ويتمتعون بكافة المزايا والحقوق التي يتمتع بها المواطن المصري.

لم يحدث أن ساومت مصر من قبل أو حتى طالبت الغرب أو ناشدت الأمم المتحدة المقابل المادي نظير احتواءها قضية اللاجئين على أراضيها.

على صعيد آخر فهناك إشكالية وجود مقر الناتو في الشرق الاوسط داخل قاعدة إنجرليك التركية، ووجود رؤوس نووية خاصة بالدرع الصاروخية النووية على الأراضي التركية، مما يعقد من احتمالية وقوع صدام مباشر بين تركيا وأوربا التي تسعى للتخلص من حكم أردوغان وتعتمد على التيارات الداخلية التي يمكن أن تحقق لها المراد المنشود، فالجمهورية التركية مقسمة داخليًا بين أربع تيارات مختلفة إيدلوجيًا.

* التيار الأول: المؤيد للميل ناحية الغرب كدولة تركية بهوية أطلسية تطمح في عضوية الاتحاد الأوربي، وهو تيار يتحكم فيه جيش آتاتورك العلماني.

* التيار الثاني: تيار الإسلام السياسي ورغبته في التمدد ناحية الجنوب حيث العالم الإسلامي. وهو التيار الذي قاد ثورات الربيع العربي للوصول إلى الدولة المركزية الحاكمة لدول العالم الإسلامي. ويُعد نجم الدين أربكان الآب الروحي والمُنظر لهذا التيار الذي خان مبادئ أربكان الرافضة لتطبيع العلاقات مع أمريكا وإسرائيل.

* التيار الثالث: ويمثله أكثر من 16 مليون تركي من أصول كردية يعيشون في جنوب شرق تركيا يحدوهم الأمل في الإنفصال التاريخي  بدولة كردستان الكبرى، والحلم بات أدنى أو قاب قوسين على أنقاض هذه الثورات، خاصًة بعد النجاحات العسكرية التي حققها الأكراد في معركة سد الموصل ومعركة جبال سنجار ومعارك عدة في كركوك وتكريت بالعراق منذ احتلال تنظيم داعش للموصل في يونيو 2014، وكذا النجاحات المبهرة في كوباني السورية لقوات حماية الشعب الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، وكلاهما يتمتع بتحالف مع حزب العمال الكردستاني التركي المتحالف بدوره مع حزب الشعب الديمقراطي التركي المعارض لحكم أردوغان، والأن ازدادت صلابة العسكرية الكردية وتضخمت قواته وباتت تُشكل تهديد مباشر للأمن القومي التركي.

يتبقى التيار الرابع والأقوى داخل المجتمع التركي، التيار القومي بزعامة فتح الله جولن الهارب في بنسلفانيا منذ العام 1996 والذي يرى أن استعادة نفوذ الدولة العثمانية يأتي من منظور استعادة نفوذ تركيا القديمة عبر الطورانيين في دول وسط آسيا.

جولن يرى فى أمريكا والغرب عموما قوى عالمية لابد من التعاون معها، وعلى العكس من نجم الدين أربكان الذي يرى ضرورة الوحدة بين العالم الإسلامي، وهى الأفكار التى بلورها عمليًّا فى تأسيسه مجموعة الثمانى الإسلامية، فإن فتح الله جولن لا ينظر إلى العالم العربى وإيران بوصفهما المجال الحيوى لتركيا، بل يعتبر القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى والبلقان هى المجال الحيوى لتركيا، فهذه البلدان تضم أقليات تركية مهمة، ويرى أنه إذا قُدر لتركيا يومًا أن تعود لمكانتها بوصفها واحدة من أهم دول العالم كما كانت إبان الدولة العثمانية، فلابد من نفوذًا قويٍّ لها وسط الأتراك فى كل مكان فى العالم، لكن جولن من البراجماتية والذكاء بحيث لا يستخدم تعبير القيادة التركية فى المنطقة، كما لا يدعو إلى استقلال الأقليات التركية فى وسط آسيا.

  إلى أمريكا تحت رعاية جراهام فولر خوفًا من بطش الجيش التركي بعد ظهور تسجيل مسرب له يدعو فيه أنصاره إلى التحرك ببطء من أجل تغيير طبيعة النظام التركي من نظام علماني إلى نظام إسلامي، كما تحدث عن نشر الثقافة التركية فى أوزبكستان، لا يدعو إلى دولة خلافة أو دولة تطبق الشريعة، فحركة جولن تدعو إلى نظام إسلامى عالمى جديد.

إذ أن مدارس جولن من شمال إفريقيا (مصر- المغرب) إلى الجمهوريات السوفيتية القديمة في آسيا الوسطى ودول القوقاز، تدعو أنصارها من الأتراك الطورانيين داخل مجتمعاتها الاسلامية لإحياء الطورانية بنسختها الاسلامية.

بعد الإنقلاب العسكري الفاشل في تركيا وتوتر العلاقات مع أوربا أصبحت مسألة الخلاص من أردوغان أو الإبقاء عليه رهينة إما لتحركات الجيش داخليًا وهو التيار الموالي لآوربا، ومن جهة أخرى سيعتمد على نفوذ مدارس وأنصار جولن المستقبلية على رقعة الآوراسيا، وربما تحدث  مناورة سياسية بين أطراف عدة تريد اللعب بورقة جولن خلال الفترة المقبلة.

فمشروع أردوغان لا يروق للأوربيين ولا تزال ذكريات الاحتلال العثماني الأليم لدول أوروبا عالقة فى أذهان شعوبها وحكامها ولا يمكن الرضوخ لفكرة استعادة أردوغان حلم الخلافة العثمانية.

كما أن المشروع الأمريكي للاستثمار فى أردوغان بثورات الربيع العربى لم تؤت ثمارها وسقطت كافة مفاتيح اللعبة من يد العثمانليين الجدد في تركيا. أما مشروع جولن فقد يُصبح بمرور الوقت  باب الخلاص من الصراعات الإقليمية، يقبل به كافة الأطراف المعنية من الغرب إلى الشرق، على اعتبار أن حركة جولن فى الأساس مناهضة للفكر التكفيري ولتنظيمات القاعدة، وربما التحركات الأخيرة لمؤسسة الأزهر بالقاهرة وزيارتها للشيشان تأتي في هذا السياق اعتمادا على العلاقات الطيبية والمذهب المشترك بين الأزهر وتيار الجولانيين.

ويظل الصراع التركى مرهونًا بقرار الخيار بين الإسلام السياسى والإسلام الاجتماعى فى تلك المحطة الحرجة من تاريخ العالم، وإلى المدى الذى سوف يظل فيه الارتباك في صناعة القرار الاستراتيجي لأنقرة في مواصلة تآكله للمناعة التركية.

أضف تعليق

إعلان آراك 2