عاطف عبد الغني يكتب: لم تكن أغنية.. كانت صرخة فى تاريخنا المجهول!!

عاطف عبد الغني يكتب: لم تكن أغنية.. كانت صرخة فى تاريخنا المجهول!!عاطف عبد الغني يكتب: لم تكن أغنية.. كانت صرخة فى تاريخنا المجهول!!

* عاجل23-3-2019 | 17:20

يرتدى «الجبة والقفطان» وتعتلى رأسه العمامة الأزهرية، ويحمل فى يده آلة العود، وبينما يمر بقرية مصرية، فقيرة، بائسة، رأى عددًا من الخفراء المأتمرين بأوامر سلطة العمدة، وشيخ البلد، يسحبون شابًا فتيًا يدور عمره حول العشرين، ويعكس مظهره القدرة والجلد على العمل.
ومع إصرار السلطة على تنفيذ الأوامر ولو بالقوة تنهار مقاومة الفلاح الشاب، فيدفعه الخفراء أمامهم، إلى حيث يتم تخزينه هو وأقرانه فى حظيرة مواشى، أو شونة، أو ساحة خلاء، حتى يطلع عليهم نهار فيسلمونهم لسلطة أعلى تقودهم إلى المجهول.
وفى مشهد آخر نرى أم الفتى تتحسَّر، وتنادى ابنها قبل أن يبتعد به الجلادون: «يا ضنايا يا بنى.. يا عزيز عينى»، بينما يردد أب مكلوم: «السلطة اخدت ولدى» فتتولد عند الشيخ الشاب سيد درويش مطلع أغنيته الشهيرة: « يا عزيز عينى، وأنا بدى أروّح بلدى.. بلدى يا بلدى والسلطة خادت ولدى».
هذه المشاهد القصيرة الفقيرة التى وردت فى فيلم «سيد درويش» لخصت فى ثوان معدودة أكبر مأساة وقعت على أبناء الفلاحين الغلابة من هذا الشعب، خلال السنوات العشرة الثانية من القرن الماضى، وبقيت تفاصيل المأساة التى كانت سببًا رئيسيًا فى اندلاع ثورة عام 1919 شبه مجهولة فى تاريخنا الحديث.
(1)
حكاية طويلة، وتفاصيلها متشعبة، وسوداوية، لكن أغرب ما فيها أن السلطة المصرية التى حكمت فى هذا التاريخ اتفقت مع المحتل البريطانى، على كتم أخبارها، ووافقهما فى هذا نفر من «الوفد» الذى اختاره المصريون وجمعوا لأفراده التوقيعات لينوب عنهم فى التفاوض لحل المسألة المصرية، ورأى بعض من هذا الوفد أن المصلحة تقتضى عدم إغضاب السلطات البريطانية بالكشف عن مأساة تسخير رجال مصر لخدمة جيش الاحتلال البريطانى وحملاته أثناء الحرب العالمية الأولى، ليتم دفن المأساة فى البقعة المظلمة من تاريخ المصريين المحدثين.
(2)
وبمناسبة مرور 100 عام على ثورة 19 أصدرت مجلة «المصور» عددًا تذكاريًا ألحقت به عدد تذكارى آخر من نفس المجلة كان قد صدر فى مناسبة مرور 50 عاما على ذات الثورة، عام 1969، وفى هذا التاريخ كان الرئيس عبد الناصر حيًا يرزق ولم نسمع أنه مانع فى الاحتفال بالثورة الشعبية للمصريين، والتى هى ليست حكرًا على فصيل أو أفراد، وكانت فصلاً مجيدًا لغلابة هذا الشعب الذى واجه بصدوره العارية، رصاص الاحتلال، وأعلن بشجاعة رفضه للظلم والطغيان، فلما رحل عبد الناصر طفا على السطح الاختلاف بين الناصريين والوفديين، أو بين من ارتدوا قميص عبدالناصر ومن احتكروا الليبرالية لأنفسهم حصريا.
(3)
عام 1915 فى أتون الحرب الكونية الأولى، وكانت قوات الإنجليز فى مصر تابعة لقيادة الحملة البريطابية فى البحر المتوسط، احتاج المحتل لنحو 5 آلاف عامل مصرى استعدادًا لمعركة كبيرة ضد الأتراك، والتى نشبت بعد ذلك فى جزيرة «جاليبولى» التركية، بهدف غزو اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية والدخول من خلالها الى الجزء الشمالى الشرقى من تركيا بعد أن طلبت روسيا ذلك من ألمانيا وبريطانيا.
ولم يكن لمصر ناقة ولا جمل فى هذه المعركة، لكن المحتل البريطانى، استغل فقر المصريين المدقع وأغراهم بالشغل تحت سلطته، وبدأ التوظيف من بلاد الصعيد لعدد 500 عامل، وعند انتهاء المعركة وصل العدد إلى 3 آلاف، كانوا يقومون بأعمال الحفر وغيرها من الأعمال اليدوية الشاقة، وقد وصفهم كولونيل بريطانى فى كتاب عنوانه: «مصر والجيش» فقال: «إن الصعيد ينتج رجالا ذوى بناء جثمانى رائع، ولا يضارعهم إنسان آخر فى قدرتهم على الاحتمال، إنهم يؤدون كافة الأعمال اليدوية فى يسر وسهولة، لكنهم يبلغون حد الإعجاز فى أعمال الحفر، وعقب أمين عز الدين فى عدد «المصور» الصادر عام 1969 على ما ذكره الكولونيل البريطانى فكتب: «ولسنا نعرف على وجه التحديد كيف تم استخدام هذا العدد الكبير فى (موردوس وجاليبولى وهل عادوا منها (أرض المعركة) حقا بعد هزيمة البريطانيين»؟!.
هل عادوا حقا؟.. لليوم لا يملك أحد إجابة محددة على السؤال، لكن يمكن - إذا أردنا – أن نرجع مثلا للوثائق البريطانية أو نبحث عن حكايات الأجداد من كبار السن الباقين على قيد الحياة، وبالتأكيد هناك من توارثوا حكايات الذين دفنوا أحياء فى ثلوج الشمال، أو فى الحفر التى كانوا يحفرونها، أو تحت قنابل الأتراك والأنجليز، وتحت وطأة العمل الشاق للتخديم على نزوات البريطانيين الاستعمارية.
(4)
انتبه البريطانيون لرجال مصر الأشداء، فطلبوهم للعمل ضمن فيالق نقل المؤن والمعدات الحربية بالجمال أثناء الحرب، وكان الرجل يقود الجمال مترجلاً بجوارها وبدأت خدمة هذه الفيالق فى سيناء وفلسطين ثم انتشرت على كافة الجبهات التى يحارب عليها البريطانيون، وفى الفترة من خريف 1915 حتى ربيع 1916 حشد فى فيلق العمل المصرى للجمال 8500 رجل فى الحملة الهندية (البريطانية) فى العراق و 15 ألف آخرين للعمل وراء خطوط القتال فى الجبهة الغربية بفرنسا!!
وفى عام 1917 لم يعد أسلوب التعاقد الاختيارى مع المصريين كافيًا لمواجهة الطلب المتزايد عليهم من الجيش البريطانى، وذلك بسبب سوء المعاملة، والزيادة الكبيرة فى أعداد المتوفين، وانتشار هذا الأمر من خلال العائدين القليلين، لذلك تقرر اللجوء لأسلوب التجنيد الإجبارى للمصريين  فى صفوف القوات البريطانية.
وفى البداية اقترح الإنجليز على الحكومة المصرية أن يتم الاختيار من بين من تصيبهم قرعة التجنيد الإلزامى، لكن الحكومة رفضت هذا، والمدهش أنها أبدت فى ذات الوقت استعدادها لتجنيد العمالة بقرار إدارى، وباستخدام سلطاتها فى قرى الفلاحين للتنفيذ.
وشهد صيف 1917 أوسع وأبشع عملية لحشد الفلاحين والعمال، للسخرة، وفى كل مركز كان يتم جمع «الأنفار» بقوة الترهيب ويساق الرجال عنوة إلى مصيرهم المجهول.
(5)
وخلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى، (أيام حسن البنا ومصطفى النحاس) ودخول الإخوان فى صراع ضد الوفديين للسيطرة على الشارع تفجرت الغيرة والعداوة بين الفصيلين، ثم جاءت حركة الضباط الأحرار عام 1952 فسحبت السجادة من تحت أقدام الفصيلين، ومع ظهور «الفيس بوك وتويتر» ذهب الإخوان يروجون كذبا للنعيم المفقود، والجنة التى عاش فيها المصريون أيام الملكية والاحتلال البريطانى، ولم يصدقهم فى هذا إلا الجهلاء.. وعذرهم أن أحدا لم يخبرهم بالحقيقة ( !! )
    أضف تعليق

    رسائل الرئيس للمصريين

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين
    تسوق مع جوميا

    الاكثر قراءة

    إعلان آراك 2