إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا»:غرام وانتقام!

إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا»:غرام وانتقام!إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا»:غرام وانتقام!

*سلايد رئيسى3-4-2019 | 16:19

عشقت البحر منذ نعومة أظافرى.. وقعت فى غرامه من أول نظرة كما يقولون.. وليس أمتع عندى من الجلوس على شاطئ البحر أتأمل زرقة مياهه الفريدة وأتابع أمواجه وهى تلاحق بعضها البعض وأملأ صدرى بهوائه المنعش.. وكيف لا يكون وهو أول قطفة لم يسبق لأحد استنشاقه.

والأجازة عندى ليس لها معنى إذا لم يكن فيها بحر.. بحر أتطلع إليه أو أجلس على شاطئه أو أسبح فى مياهه.. ويصل عشقى للبحر وانحيازى له أننى أعتبر أن المدينة التى لا تطل على بحر مدينة تعيسة بائسة.. محرومة من الفرحة والبهجة.

وكثيرًا ما جلست أمام البحر لساعات طويلة.. ولم يحدث أبدًا أن شعرت بملل أو ضجر.. كيف وعيناى تنظران إلى أبعد ما يمكن أن يصل إليه بصر على سطح الأرض.. كيف وأفكارى تنطلق.. تمرح وتجرى وتلعب بكامل حريتها.. ثم إن البحر بالنسبة لى هو المكان الوحيد الذى أسمح فيه لنفسى بالغناء.

وتبدأ وصلة الغناء بالسباحة إلى مسافة بعيدة تضمن لى الانفراد بنفسى تمامًا.. وعلى الفور أنطلق فى الغناء بأعلى صوت وأعيد وأزيد وأشعر بالطرب فأصفق لنفسى.. إذا شعرت أننى شبعت طربًا أعود إلى الشاطئ لاستئناف متعة التطلع إلى البحر فى هدوء وسكينة !.

ورغم كل هذا العشق غير الممنوع للبحر إلا أننى لا أحب ركوب البحر ليس خوفًا وإنما السبب هو دوار البحر.

هل سمعت عن دوار البحر؟ هل جربت دوار البحر؟.. إذا لم تكن فاسمح لى أن أقوم بمهمة التعارف بينكما.

تخيل نفسك فى ملعب لكرة القدم.. تخيل مباراة ساخنة وسط أجواء محمومة مجنونة تملأ مدرجات الملعب.. ثم حاول أن تتخيل نفسك عنصر من عناصر المشهد.. لا أقصد أن تكون لاعبا ولا مدربا ولا حكما ولا حتى واحد من الجمهور وإنما تخيل أنك الكرة.. الكرة التى يلعب بها الفريقان ويركلونها بأقدامهم ورؤوسهم طوال المباراة مضافا إليه وقت إضافى طويل.

إذا تخيلت بعد ذلك شعور الكرة فهذا هو أقرب ما يكون لتوصيف الشعور بدوار البحر!

ويبدو غريبا وعجيبا أن تعرف أن السبب الرئيسى فى دوار البحر هو صراع العيون مع الأذن.

يقول الأطباء: إنه عند الشعور بالحركة تقوم الأذن الداخلية بإرسال إشارات للمخ بأن الجسم يتحرك.. فى نفس الوقت ترسل العيون إشارات للمخ بأن الجسم ثابت وليست هناك حركة.

وعندما يحدث هذا التعارض والتضارب فى المعلومات والإشارات التى تصل المخ.. يضطرب المخ ويحتار ويعتقد أن هناك تسمم أصاب الجسم فيبدأ على الفور فى التعامل مع هذا التسمم.. وهكذا يصاب الإنسان بالغثيان ونوبات القىء.

والحقيقة أننى خضت التجربة ثلاث مرات.. ثلاث مرات أصابنى فيها دوار البحر ولا تزال التفاصيل حاضرة فى ذهنى كأنها وقعت بالأمس.

فى المرة الأولى كنت مسافرًا على إحدى العبّارات من السويس إلى جدة.

كنت فى مهمة صحفية يشاركنى فيها زميل عزيز.. وكنا محل ترحاب القبطان وكل ضباط السفينة.

كانت العبّارة مملوكة للسعودية وكان قبطانها أندونيسى الجنسية، أما نائب القبطان فكان قبطانًا مصريًا وكذلك كان كل ضباط العبّارة.. مصريين.

كانت الرحلة جميلة وممتعة حصلنا خلالها على كل أنواع " الدلع" طعام وشراب وسهر وحكايات ومعلومات وهدايا.

كان طاقم السفينة وكأنه فى حالة تنافس لإرضائنا بأى ثمن.. وكانت زوجة نائب القبطان أحد أهم المتنافسين!

كانت عروس جديد أصرت على اصطحاب زوجها القبطان فى رحلاته البحرية.. ولهذا السبب أطلق عليها البحّارة لقب أم البحارة رغم صغر سنها!

والحقيقة أن أم البحارة كانت تخصنا بإعداد الأطعمة المصرية الشعبية كلما أحسسنا بالملل من طعام السفينة المجمد.. وهكذا كانت تتحفنا بين الحين والحين بطبق كشرى أو طبق عدس أو أكلة فول وطعمية!

ولم نكن نعلم أن كل هذا الدلع سيتوقف عند وصولنا ميناء جدة!

فوجئنا عند الوصول أننا لا نستطيع مغادرة السفينة والذهاب لعمل عُمرة كما كان مقررًا.. وذلك لأن الأوامر صدرت للعبّارة بالرحيل فورًا إلى ميناء بور سودان.. يا نهار أسود.. وماذا نفعل نحن؟! ليس أمامكما إلا تسليم أمركما لله ومرافقتنا.. هكذا أخبرنا ضباط السفينة.. فأسلمنا أنفسنالله .. ولهم .

تحركت السفينة من ميناء جدة فى اتجاه ميناء بور سودان.. وفجأة وبينما كنت مستلقيا على سريرى فى كبينتى هاجمنى دوار البحر.

شعور بالغثيان ورغبة فى القىء فأسرعت إلى سطح العبّارة أشم الهواء النقى لعلى أفيق.. ولم أفيق.. بالعكس زاد الأمر سوءًا.. نظرت حولى وتمنيت أن ألمح قطعة أرض.. مجرد قطعة صغيرة كنت مستعدًا للقفز من العبّارة والسباحة إليها للوصول إلى أرض ثابتة تريحنى من هذا العذاب.. وتذكرت أن من بين طاقم السفينة طبيب فأسرعت بالذهاب إلى كبينته ورحت أدق الباب بقوة لكى أحصل منه بسرعة على دواء يوقف عذابى.

فوجئت بأن الطبيب يفتح لى الباب وهو فى حالة عدم اتزان.. وجهه أصفر.. عيناه زائغتان.. يده على فمه.. وفهمت.. فهمت أنه لم يستطع أن يعالج نفسه فهل يمكن أن يعالجنى؟

وعرفت من نائب القبطان المصرى أن دوار البحر لم يهاجمنا طوال الرحلة من السويس إلى جدة لأن السفينة كانت تسير بطول البحر الأحمر، أى فى اتجاه تياراته البحرية.. ولذلك كانت السفينة طوال رحلتها مستقرة.. أما الطريق من جدة إلى بور سودان فيعنى أن السفينة تقطع البحر الأحمر بالعرض وهو ما يعرض جانبها لتلاطم الأمواج فتهتز السفينة وتتأرجح!

ولاحظت أن أم البحارة كانت تمارس حياتها فى تلك الساعات السوداء بطريقة طبيعية، وسألت زوجها نائب القبطان المصرى: كيف وهى عروس جديد صغيرة السن لم يسبق لها ركوب البحر إلا من شهور قليلة جدًا.. وأخبرنى زوجها عن السر.. قال لى إنها فى البدابة كانت تعانى من دوار البحر لكنه قام بعلاجها بالطريقة الصحيحة.

وما هى هذه الطريقة الصحيحة أبوس إيدك؟!

قال نائب القبطان إن العلاج الوحيد أن تأكل وتتقيأ ما أكلته وتعيد هذه العملية أكثر من خمس مرات.. ووجدت نفسى أتقيأ مما سمعت دون أن أجرؤ أو أقدر على وضع لقمة فى فمى.

استمر هذا العذاب حتى وصولنا إلى بور سودان فتوقفت السفينة وتوقف معها العذاب!.. وعندما تحركت السفينة من بور سودان فى طريقها للعودة إلى جدة.. تجدد دوار البحر وتجدد معه العذاب حتى وصلنا جدة.

المصيبة أننا فوجئنا عند وصولنا جدة بأن الأوامر صدرت للعبارة بالعودة مرة أخرى إلى ميناء بور سودان ونحن على متنها طبعا.. وتكرر ما لقيته من عذاب خلال رحلة الذهاب والعودة مرة أخرى.. بالكربون (!!!)

كانت هذه هى المرة الأولى التى أذوق فيها طعم دوار البحر، أما المرة الثانية فكانت فى الإسكندرية.

كنت فى مهمة صحفية لتغطية موضوع انتشال أسطول نابليون الغارق فى أبوقير.

ركبت زورقًا مطاطيًا تابع لسلاح البحرية المصرية للوصول إلى موقع البحث.. وما أن تحرك الزورق وارتفعت مقدمته إلى أعلى بفعل سرعته حتى أصابنى دوار البحر وشعرت بعد نصف ساعة من الإبحار بأننى فسيخة انهالت عليها المطارق بلا رحمة!

ورفضت بعد ذلك كل دعوة من المسئولين للذهاب إلى موقع انتشال الأسطول مكتفيا بما يخبرونى به من معلومات!

وأما المرة الثالثة والأخيرة فكانت فى دمياط عندما قام الرئيس الأسبق حسنى مبارك بافتتاح ميناء دمياط..

ركبت سفينة صيد من رأس البر للوصول إلى موقع الافتتاح.. وأصابنى دوار البحر لكن ريس السفينة أعطانى ليمونة ظللت أمتصها حتى وصلنا وعدنا إلى رأس البر.

وعرفت من الريس وهو من عزبة البرج المواجهة لمدينة رأس البر أن كل أبناء العزبة إلا قليل يعملون فى حرفة الصيد.

قال لى الريس: إنهم يصطحبون أطفالهم عند بلوغهم سن السادسة فى رحلات الصيد، فإذا لم يصابوا بدوار البحر استمروا فى مصاحبة آبائهم لاكتساب الخبرة ولكى يصبحوا مثل آبائهم صيادين.. أما إذا أصيب الطفل بدوار البحر فهو فى هذه الحالة لا يصلح أن يكون صيادًا وليس أمامه إلا أن يذهب للمدارس ويتعلم.

هذه حكايتى مع البحر.. ومع دوار البحر.. حكاية غرام.. وانتقام.

أضف تعليق

وكلاء الخراب

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2