من مشاكل الإدارة المصرية، ليس الآن فقط، بل من قديم الأزل، أن، كثير، من الإدارات الجديدة، في أي موقع، فور توليها المسئولية، تعمل جاهدة على طمس أعمال، وآثار، سابقيها، أو في أفضل الأحوال، تحاول التقليل من شأنها، دون دراسة وافية لمحاسنها، أو عيوبها، بهدف ترسيخ أفكار ومفاهيم الإدارة الجديدة، وهذا، للأسف، خطأ شائع، يشهد عليه ما سطره التاريخ على جدران معابد الفراعنة منذ آلاف السنين. أما الإدارة الناجحة، فهي ما تستفيد من كل الجهود، والأفكار، والأنظمة، والخطط السابقة، التي تم تنفيذها، خاصة أنها تكلفت جهد وموارد، وتعمل على تحسينها، وتطويرها في ظل المعطيات الحالية.
أتذكر عندما كنت محافظاً للأقصر، أن تقدمت مجموعة من الفتيات بطلب لقائي، لعرض مشكلات العمل في المديرية الصحية، وخلال جلسة الاستماع، علمت أنهم فتيات "منظومة الرائدات الريفيات"، التي أسسها وزير الصحة الأسبق، الدكتور إسماعيل سلام، أحد وزراء الصحة المتميزين في تاريخ الحكومات المصرية، وكانت فلسفته أن هذه المنظومة، تتيح لوزارة الصحة التواجد في قلب كل قرية مصرية، وبالتالي نشر الوعي الصحي بين الأسر المصرية، خاصة وأنها تُكمل منظومة أخرى، متميزة، وهي "الوحدة الصحية"، المنتشرة في قرى مصر، والمعروفة باسم “Primary Health Care Unit”، المعنية بتقديم الرعاية الصحية، الأولية، للمواطن المصري، داخل قريته، بدلاً من الذهاب للمستشفى المركزي.
علمت أن أحد مهام الرائدات الريفيات، في ذلك التوقيت، هو نقل ونشر مفاهيم فكرة تنظيم النسل، استفادة من قدرة هؤلاء الرائدات على الالتقاء بسيدات القرى، والتحدث معهم في أمور خاصة، ومن خلال الإحصاءات، تأكدت من تحقيقهن لدرجة عالية من التوعية المباشرة في مجالات الصحة، والإنجاب، ورعاية الطفل. وكانت شكواهن، أن بمغادرة الدكتور إسماعيل سلام، لمنصبه، تعثرت المنظومة، وتلاشت تماماً، وأصبحن، هؤلاء الرائدات بلا عمل واضح، ولم يعد لديهن أهداف محددة، فضلاً عن توقف المكافآت المادية، المقررة لهن.
بعد الاستماع لشكواهن، رأيت ضرورة إحياء تلك المنظومة الهامة، وبدأت في تحديد مواقع عملهن، وأقر بأن هذه المنظومة أسهمت في تحقيق نجاحات كبيرة لي، خلال تنفيذ أعمال خطة التنمية الشاملة للأقصر، كان منها على سبيل المثال، لا الحصر، أعمال تجهيز ونقل ٣٢٥٠ أسرة، تعيش فوق ٩٥٠ مقبرة فرعونية، في البر الغربي بالأقصر، فيما يعرف بمساكن منطقة "القرنة"، ولإقناع الأهالي بضرورة نقلهم إلى قرية جديدة، تتوفر بها ما لم يتوفر لهم من إمكانات وسبل الحياة الكريمة، من مياه نظيفة، وكهرباء، وصرف صحي، وتعليم، وصحة، كان أمامي ثلاثة محاور، وهم رب الأسرة، وشبابها، وأخيراً المرأة، والتي تمثل ركناً هاماً من أركان الأسرة في الصعيد، على عكس ما قد يظن البعض.
بالنسبة للشباب، كان الأمر سهلاً، فقد التقي بهم، من خلال مشاركتي لهم في الأنشطة والمسابقات الرياضية، واستغل الفرصة لإقناعهم بمزايا الانتقال إلى "القرنة الجديدة"، وما بها من سبل الحياة الكريمة. أما نساء القرية، فلقد وجدت ضالتي في مجموعة الرائدات الريفيات، اللاتي تم اطلاعهن على مزايا القرية الجديدة، ليتمكنوا من نقل الصورة السليمة لسيدات القرية، وما بها من ضمانات لمستقبلهن ومستقبل أولادهن. وبالفعل حقق محور الاتصال بشباب، وسيدات، القرنة نجاحاً كبيراً، واقتنع الجميع، ونجحت عملية نقل سكان القرنة في البر الغربي بفضل مجموعة الرائدات الريفيات.
لم يقتصر نجاحهن على ذلك، وإنما توالى النجاح في مهمة جديدة، لهؤلاء الرائدات الريفيات، بإقناع سيدات قرى الجبل، المنعزلين عن الحياة العامة، بإصدار بطاقات هوية شخصية، تكفلت خلالها موازنة المحافظة، بجميع المصروفات اللازمة، مع صرف مكافآت لانتقالات هؤلاء السيدات، خاصة أن العديد منهن لم تكن لديهن حتى شهادات ميلاد، أو قسائم زواج، وبمجهود كبير من هؤلاء الرائدات الريفيات، حققنا إصدار ما يقرب من ٣٠ ألف بطاقة تحقيق شخصية، وشهادات ميلاد، وعقد زواج لسيدات، لم يكن لديهن أي تواجد في سجلات الدولة.
وجاءت المهمة الثالثة لهن عندما تم تدبير جهاز الكشف المبكر لأورام الثدي للسيدات بالأقصر، وتكلف هذا الجهاز مبلغاً كبيراً، وتم تحديد مقر لإجراء الكشف، مع تخصيص مكافأة مالية، لمن يجري الكشف. وبالفعل نجحت مجموعة الرائدات، باختلاطهن بالأسر، بإقناع عدد كبير من سيدات القرى، بالحضور وتوقيع الكشف عليهن، وبالطبع نجح العلاج المبكر للحالات التي تم اكتشافها.
وفي نجاح جديد، نما إلى علمي وجود قرية بالأقصر تسمى "المهيدات"، كان معدل أطفال الأسرة بها من ٩ إلى ١٢ طفل بالأسرة الواحدة، وهو ما يرجع لموروثات، أو نواحي اقتصادية، فتم وضع خطة شاملة، بمشاركة الرائدات الريفيات، ورجال الدين، والأطباء، وأنشأنا وحدة صحية في القرية، تكاتف فيها الجميع، حتى انخفض معدل الإنجاب إلى النصف، خلال عامين. أعيد الفضل فيها، بعد الله سبحانه وتعالى، إلى جهود هؤلاء الرائدات، اللاتي دخلن إلى منزل كل أسرة، وتمكنوا من إقناعهم بالوسائل العلمية، حتى تم تحقيق المعادلة الصعبة.
وبعيداً عن النواحي الصحية، فقد تمت الاستفادة من الرائدات الريفيات، بإقناع سيدات الأقصر بالمشاركة في الانتخابات العامة للدولة، وأتذكر أنه في انتخابات عام ٢٠١٠، شهدت محافظة الأقصر، أكبر نسبة مشاركة من السيدات. لذلك أقولها دائماً، وبكل فخر، أن منظومة الرائدات الريفيات، في محافظة الأقصر، قد ساهمت بصورة إيجابية في تنفيذ خطة التنمية الشاملة لتطوير الأقصر، ويظل شكري موصول للدكتور إسماعيل سلام وزير، الصحة الأسبق، على هذا الفكر المتطور.
ولكن، للأسف، بعد مغادرة الدكتور إسماعيل سلام لموقعه، كوزير للصحة، تلاشت هذه المنظومة، وأصبح هؤلاء الفتيات والسيدات، بلا عمل، بل اعتبرهم البعض، عائقاً داخل المنظومة الصحية للدولة، دون النظر إلى أوجه الاستفادة الممكنة منهن. وعموماً، مازلت انتظر من وزارة الصحة الحالية، أن تعيد النظر في إمكانية الاستفادة من منظومة الرائدات الريفيات، لأنها بالفعل تستحق أن تساهم في عملية تطوير الرعاية الصحية للمواطن المصري في الفترة القادمة.
Email: [email protected]