[caption id="attachment_8344" align="aligncenter" width="300"]
عمرو عمار[/caption]
مع حالة الانهيار الاقتصادي التي تعاني منه الولايات المتحدة الأمريكية ترى واشنطن في آسيا الباسيفيك الفناء الخلفي لخدمة إستثماراتها كسوق واعد. وهو ما دفع الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة أوباما إلى تنفيذ خطط الانسحاب الاستراتيجي من منطقة الشرق الأوسط والعودة بقوة إلى هذه المنطقة، وهى السياسة التي عبرت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون عام 2011 بالقول : "مثلما كان القرن العشرون هو قرن المحيط الأطلسي، فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن المحيط الهادئ، بالنسبة إلى الولايات المتحدة".
التوجه الأمريكي منفردًا من دون الاتحاد الأوربي، ناحية آسيا الباسيفيك جاء وفق خطة أطلق عليها (إعادة الإتزان الآسيوي) كمنطقة تمدد ونفوذ تاريخي لأمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، فعشرات القواعد العسكرية الأمريكية مرابطة في العديد من جزر الباسيفيك وهاواي على المحيط الهادي وفي اليايان وكوريا الجنوبية واستراليا والفلبين وهي دول تطلق عليها الولايات المتحدة الأمريكية حلفاء واشنطن في آسيا بجوار الهند وإندونيسيا وسنغافورة.
تهدف هذه الاستراتيجية الأمريكية إلى تطويق الصعود الصيني وقطع الطريق الإقليمي الاستراتيجي للحزام الاقتصادي وطريق الحرير الواصل بين المحيط الهادئ وبحر البلطيق. ولذا فقد سعت الولايات المتحدة إلى تعزيز التحالف العسكري مع اليابان واستراليا وكوريا الجنوبية ، وإقامة شراكة مع دول الآسيان والهند، والأخيرة شهدت زيارتين للرئيس الأمريكي السابق أوباما في العام الأخير من ولايته، نفس العام الذى شهد عقد أول قمة بين رئيس أمريكي وقادة دول الآسيان، ما يعكس شعور أوباما بخطورة تراجع النفوذ الأمريكي التائه على جنبات الحزام الاقتصادي وطريق الحرير الصيني.
تبلورت الاستراتيجية الأمريكية في آسيا الباسيفك بإبرام إتفاقية - الشراكة عبر المحيط الهادئ - تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية في نيوزلاندا، فبراير من عام 2016؛ انعكاسًا لخطوات أوباما السريعة قبل مغادرة البيت الأبيض على أمل أن تستكمل المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون ما بدأه.
تستهدف الإتفاقية تعميق الروابط الاقتصادية بين 12 دولة باسيفيكية: المكسيك - تشيلي - بيرو - أمريكا - كندا - نيوزيلاندا - استراليا - بروناي دار السلام - ماليزيا - سنغافورة - فيتنام - اليابان.
وتسعى أمريكا عبر هذه الاتفاقية إلى خلق كيان آسيوى موازي لأهم ممر اقتصادي لطريق الحرير وهو الممر الاقتصادي (الصين - دول الآسيان)، يُمكن واشنطن من تعطيل الصعود الصيني. ولهذا جاء اختيار أكبر قوتين اقتصاديتين من دول الآسيان (ماليزيا - سنغافورة) على رأس قائمة الدول المشاركة في هذه الاتفاقية.
ورغم تصديق الكونجرس سريعًا على هذه الإتفاقية. إلا أن خطوات التفعيل شابها الغموض مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وتخوفات قادة هذه الدول من التصريحات السابقة للمرشح الرئاسي الأمريكي الذى حذر فيها بضرورة دفع المزيد من الأموال مقابل الحماية الأمريكية.
خطاب تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد تبنى سياسة - أمريكا أولًا- ومع إعلان ترمب الانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، ومن غير الواضح احتمالية تراجع الرئيس الأمريكي عن هذا القرار، إلا أنه يمكن تفهم عقلية دونالد ترمب رويدا رويدا.
رجل الأعمال الذي يتفاوض بحرفية شديدة على صفقات تبادلية، يقوم برفع سقف طلباته إلى الحد الأقصى وعند لحظة مناسبة أثناء مراحل التفاوض، يتوقف، ثم يبدأ في الهبوط بسقف الطلبات ليجني ثمار الأهداف المحددة سلفًا قبل الدخول في المفاوضات.
- رفع ترمب المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية سقف طلباته مع المملكة العربية السعودية حينما أشار إلي مليار ونصف المليار دولار تربحها المملكة صباح كل يوم، والولايات المتحدة لا تأخذ سوى القليل مقابل الحماية، وإذا أرادوا الحماية فعليهم دفع 50 % من عائدات النفط، ثم تمكن الرئيس الجمهوري من اقتناص 200 مليار دولار استثمارات سعودية في السوق الأمريكي أثناء زيارة ولى ولى العهد الأمير محمد بن سلمان للبيت الأبيض في مارس الماضي.
- هاجم المرشح الجمهوري حلف شمال الأطلسي وادعى أن الزمن قد تجاوز هذا الحلف وعليهم الدفع إذا أرادوا الحماية. ثم تمكن الرئيس الجمهوري الحصول على إقرار من دول الحلف برفع نفقات الدفاع إلى 2% من إجمالي الناتج المحلي لكل دولة. وفي المؤتمر المشترك بين الرئيس الأمريكي وقائد حلف شمال الأطلسي في 12 إبريل الماضي أقر الاخير بهذه الإلتزامات التي لم يكتف بها ترمب وقال له ضاحكًا :" سنتحدث فيما بعد عن النفقات التي دفعتها الولايات المتحدة في السابق بالنيابة عنكم".
- شن المرشح الجمهوري هجوما لاذعا على الصين،أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، وتوعد برفع الضرائب على المنتجات الصينية في الأسواق الأمريكية في محاولة لتقليص الفارق في الميزان التجاري المائل ناحية الصين، وجاءت أول مكالمة هاتفية له بعد تولي مهام منصبه مع رئيس تايوان في رسالة شديدة اللهجة إلى الصين.
من جهة أخرى سعى ترمب الى فتح مفاوضات سرية مع بكين، تهدف لانضمام الولايات المتحدة إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية لطريق الحرير، وهو البنك الذي رفضه أوباما وضغط على كل من استراليا واليابان وكوريا الجنوبية لعدم التصويت.
قام ترمب بتعيين حاكم ولاية أيوا- تيري برانستاد - سفيرا في بكين، وهو صديق شخصي للرئيس الصيني شي بينغ يانغ، وقد نجح برانستاد في ترتيب قمة تاريخية بين الزعيمين، حينما زار الرئيس الصيني نظيره الأمريكي في السادس من إبريل 2017 في بلدة بالم بيتش الساحلية فى فلوريدا جنوب شرق الولايات المتحدة، رحب الرئيس الصيني خلال هذه القمة بالتعاون الأمريكي في مبادرة الحزام الاقتصادي وطريق الحرير.
سريان الأمور على هذا النحو يعني أن الرئيس الأمريكي سينتقل من لغة التصعيد والتراشق مع الصين إلى سياسة الواقعية والاحتواء والمشاركة.
على الجانب الأخر من سياسة الجزرة. يمسك ترمب بالعصا، ويعلن ميلاد نسخه جديدة من استراتيجية - إعادة الإتزان لآسيا والمحيط الهادئ - حينما حرك حاملة الطائرات الأمريكية "كارل فينسون" القتالية من سنغافورة إلى المياه القريبة من شبه الجزيرة الكورية بعد أيام قليلة من زيارة الرئيس الصيني بذريعة النووى الكوري، واصفًا كوريا الشمالية بـ "المشكلة التي يجب حلها"، ولوح ترامب بالخيارات العسكرية المفتوحة إذا لم تتمكن الدبلوماسية الصينية من نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية بالطرق السلمية.
أسلوب الردع الأمريكي يعد الأقوى في شمال شرق آسيا منذ سنوات عديدة ويخالف الوعد الذي قطعه ترامب خلال حملته الانتخابية بنزع فتيل تهديدات برنامج الأسلحة النووية لكوريا ، حينما أعرب عن استعداده للتفاوض مع الرئيس الكوري - كيم جون أون - وجها لوجه.
اعتبرت كوريا الشمالية أن التحرك العسكري الأمريكي يُشكل تهديد مباشر علي الأمن القومي، يستلزم ردا حاسما وقاسي. وأكدت على أن تهديدات واشنطن العسكرية تبرر تطوير البرنامج النووي لها.
كما حذر وزير الخارجية الصيني وانج يي، من نزاع يمكن أن ينشب في أي لحظة في كوريا الشمالية وأكد أن الطرف الذي سيشعل نزاعا في شبه الجزيرة الكورية ينبغي أن يتحمل مسؤولية تاريخية ويدفع ثمن ذلك.
وحذر وانج في مؤتمر صحفي مع نظيره الفرنسي - جان مارك آيرولت - في بكين، أن تُسمي التهديدات الأخيرة للرئيس الأميركي من أن "المنتصر لن يكون الطرف الذي يطلق أشد التصريحات أو يستعرض عضلاته، إذا وقعت حرب فإن أحدا لن يخرج منها منتصرا"، وأضاف: "لدينا شعور بأن نزاعا يمكن أن يندلع في أي لحظة.
كلمات وزير خارجية الصين تستدعي أجواء الحرب الأهلية الكورية في خمسينيات القرن المنصرم حينما زحفت القوات الأمريكية ناحية الشمال بالتحالف مع قواتها العسكرية المرابطة في اليابان وبمساعدة قوات الجيش الكوري الجنوبي إلى ما بعد خط عرض 38 الفاصل بين الكوريتين، وهو ما دفع الصين إلى الدخول في الحرب لما اعتبرته تهديد مباشر لأمنها القومي؛ فسقوط شبه الجزيرة الكورية تحت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية يعنى الهيمنة العسكرية الشاملة للبحرية الأمريكية على بحر الصين الشرقي، كما أن الزحف العسكري البري للقوات الأمريكية حتى كوريا الشمالية يُعني اقتراب تلك القوات من الحدود الشمالية الشرقية للصين.
بعد يوم من لقاء ترامب بقائد حلف شمال الأطلسي وفي مساء يوم 13 إبريل قام الطيران الأمريكي بإلقاء أكبر قنبلة غير نووية تزن 9.5 طن ويطلق عليها البنتاجون - أم القنابل - على مدينة أشين بمحافظة ننكرهار الأفغانية، تحديدًا في المنطقة الحدودية الواقعة بين أفغانستان وباكستان والتي أعلن داعش منذ شهور قيام الدولة الإسلامية بها، وقد استهدف القصف مجمعا من الأنفاق لخلية محلية تابعة لتنظيم داعش .
وكشف إدوارد سنودن العميل السابق للاستخبارات الأمريكية، والهارب في موسكو، عبر تغريدة له، أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كانت قد مولت في ثمانينات القرن الماضي بناء ما يسمى بكهوف طورا بورا في إقليم ننكرهار الواقع شرق أفغانستان، وحينها ساعدت واشنطن المجاهدين الذين قاتلوا ضد القوات السوفيتية هناك، واليوم تقوم بقصفها.
بغض النظر عما ذكره سنودن، يبدو أن - أم القنابل - هي مجرد عملية تكتيكية تدخل في اطار الحرب النفسية التي تديرها الولايات المتحدة ضد كوريا الشمالية أو سميها استعراض عضلات العجوز الأمريكي. ورسالة إلى بيونج يانج مفاداها :" قنابلنا قادرة على إصابة منصات الصواريخ والمدفعية المخبأة تحت الأرض والتي تريدون استخدامها في ضرب كوريا الجنوبية".
إذن لدينا سيناريو يحمل ضربة عسكرية أمريكية إلى كوريا الشمالية. سترد عليه بيونج يانج بضربة انتقامية موجهة إلى اليابان وكوريا الجنوبية، يمكن أن تورط بكين في حرب تعرقل مساعيها الرامية لاستكمال مشروع القرن الآوراسي ( الحزام الاقتصادي وطريق الحرير)، خاصة أن وكالة - يونيتد بريس انترناشونال - الأمريكية، كشفت مؤخرًا في تقريرلها، أن القوات المسلحة الصينية تلقت أوامر مباشرة من القيادة العامة للجيش بالحفاظ على حالة التأهب القصوى في 5 مناطق عسكرية ووفقا للمركز فإن حوالي 25 ألف عسكري من الجيش - 47 ، المرابط غرب البلاد. أُمروا بالاستعداد للتحرك مع آلياتهم الحربية إلى مسافات بعيدة باتجاه قاعدة حربية تقع بالقرب من الحدود الكورية الشمالية.
إذن احتمالية الحرب قائمة، ومخاوف بكين من ضربة أمريكية استباقية على غرار الضربة الأمريكية لقاعدة الشعيرات السورية، سيطرت على التحركات العسكرية الصينية التي أشار إليها المركز الأمريكي. وربما تتوسع هذه الحرب إلى حرب عالمية ثالثة. خاصة أن العالم يشهد نفس الأجواء السابقة للحرب العالمية الأولى والثانية، تراشق بين رؤساء الدول - دبلوماسية خشنة بين مندوبي الدول في مجلس الأمن - تهديدات عسكرية مباشرة - حشد أساطيل بحرية على البحر المتوسط وغرب المحيط الهادئ...
كما لدينا سيناريو أخر يشير إلى عقلية رجل الأعمال ترمب الذي يمتلك من أدوات فن إدارة الأزمات والتفاوض، رفع سقف الضغوط وفي اللحظة الحاسمة سيبدأ في جني أهدافه الحقيقية. إعادة الاتزان لآسيا الباسيفك. فالعقل المفكر بآروقة صناعة القرار الاستراتيجي داخل الولايات المتحدة والذى عمد إلى تشييد قلاع التقوقع داخل الحدود واستعادة أمريكا الصناعية، لن يتخلى عن الحد الأدنى للطموح الامبريالي، وسيعمل جاهدًا بعد ضياع حلم السيطرة على رقعة الآوراسيا خلال السنوات المقبلة على ترسيخ النفوذ والهيمنة الأمريكية كحارس أوحد على النصف الغربي من الكرة الأرضية، وكأنما تستدعى العقلية الأمريكية من المكتبة التاريخية للقرن التاسع عشر مبدأ مونرو لضمان الحصول على الوضعية الأمريكية ما بعد الحرب العالمية الأولى كأحد أقطاب مستقبلية لعالم متعدد الأقطاب ولكن هذه المرة ستتلاشى هيمنة الدولار الأمريكي على النظام السياسي والاقتصادى العالمي، ولن تبقى مؤسسات بروتين وودز بشكلها الحالي