عاطف عبد الغنى يكتب: فى تفكيك بنية الإرهاب.. (1) الجهاد

عاطف عبد الغنى يكتب: فى تفكيك بنية الإرهاب.. (1) الجهادعاطف عبد الغنى يكتب: فى تفكيك بنية الإرهاب.. (1) الجهاد

* عاجل14-6-2019 | 17:07

يقول العلماء إن الكلمة (اللفظ) هو الحامل المادى والمقابل الحسى المنطوق للمعنى الذى هو فكرة ذهنية مجردة، ويترجم القول السابق بيت الشعر «إن الكلام لفى الفؤاد.. وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا». وبعض الألفاظ لها معنيان معنى لغوى معجمى، ومعنى اصطلاحى، أى ما اصطلح الناس عليه، أو ما اتفقوا على أن اللفظ يؤدى معناه. على سبيل المثال يتبادر إلى الذهن عند سماع كلمة «عصابة» أنها مجموعة من الأشرار اجتمعت على ارتكاب الجرائم، هذا هو المعنى الاصطلاحى الذى اتفق عليه المصريون (قد يعنى اللفظ شيئًا آخر عند شعوب أخرى)، بينما المعنى اللغوى لنفس اللفظ (عصابة) يشير فقط إلى أنها جماعة من الناس، أو الخيل أو الطير، وفى غزوة بدر دعا الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن تُهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، فلن تعبد فى الأرض أبدا».. ولا يمكن أن يصف الرسول أصحابه بالشر ولكن كان عرب الحجاز فى هذا الزمان والمكان قد اصطلحوا على معنى للفظ واستخدامه، قبل أن ينتقل اللفظ ويتغير المعنى، لأن الألفاظ مثل الكائنات الحية تولد، وتنمو، وتتحرك، ويتغير معناها عند استخدامها بمفردها، أو فى جملة، أو سياقات مختلفة. وإذا أردت أن تدرس أو تفهم مصطلح لابد أن تعرفه فى كل أحواله، وحالاته، فما بالك إذا كان هذا المصطلح من الخطورة والأهمية مثل لفظ: الـ «جهاد»؟!

(1)

وتفسر قواميس اللغة لفظ «جهاد» على الإجمال بأنه: «المبالغة واستفراغ ما فى الوسع والطاقة من قول أو فعل»، أما علماء الإسلام فقد أفاضوا فى المعنى الاصطلاحى للفظ، وقد استمدوا تفسيراتهم من النص القرآنى وسُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تم ذكر اللفظ صريحا أو أشير إلى معناه فى كثير من الأحاديث التى وردت فى كتب الصحاح. يقول الله عز وجل: «وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً» (الفرقان 52). والعائد والمقصود من «به» هو الإسلام، الرسالة الخاتمة، والقرآن، ويؤكد فهمنا لما سبق الحديث الصحيح رقم (979) فى كتاب الجهاد الذى أخرجه الحاكم فى المستدرك ويقول: «رأس الأمر الإسلام.. وأما ذروة سنامه فالجهاد»، وفى رواية أخرى عن معاذ بن جبل: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» (أورده ابن رجب الحنبلى فى كتابه جامع العلوم والحكم تحت عنوان: ألا أدلك على أبواب الخير).. فالجهاد باب من أبواب الخير للمسلم لاشك، ومقصد  الرسول الكريم فى الحديث الشريف، لابد وأن يصدق ويتفق فى هدفه مع الوحى والرسالة التى جاء بها رسول الإسلام للبشرية، رحمة تكمن فى الهدى إلى الحق: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».

(2)

وللأسف يأتى القتلة من خوارج العصر الحديث فينزعوا الرحمة من قلب الإسلام، فى ضربة واحدة حين يختصروا الجهاد فى القتال، ويختصروا الأمر بالقتال فى «آية السيف» فيجعلوها وكأنها تنسخ أو تنزع آيات الرحمة من القرآن، وقد خلطوا عن جهل ما بين «النسخ والنسأ» وهناك اختلاف كبير بينهما، ناهيك عن أن أمر الناسخ والمنسوخ يحتاج إلى كثير من الشرح والتوضيح، وله مجال ومقال آخر.

(3)

ورد مصطلح «الجهاد» بلفظه، أو بالإشارة إليه، فى عديد من السياقات القرآنية والأحاديث النبوية، وكان فى أكثرها يدل ويقود إلى معانى تكمن فيها الرحمة بالنفس والغير، وليس بالدعوة إلى القتال فقط. والجهاد حالة يكون عليها المسلم بكل جوارحه وفى كل أوقاته وأحواله أسوة برسوله وقدوته، فساعة يحتاج الحال إلى أن يجاهد المسلم بالقلب، وساعة باللسان، وساعة بالعقل، وساعة بالذراع وقوة بالبدن، وكلها ساعات وأحوال تحتاج إلى الصبر، وأخذ النفس بالشدة، فالجهاد ابتلاء الدنيا لنيل ثواب الآخرة وهو الجنة مصداقًا لقول الله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (آل عمران 142). ولا يمكن أن يقف معنى الجهاد هنا على القتال فى الميدان، بل يؤكد علماء الإسلام أن الجهاد فى هذا الميدان أخف التكاليف الملقاة على عاتق المسلم، فهو الجهاد الأصغر كما وصفه الرسول الكريم، أما الجهاد الأكبر فهو جهاد النفس، وهى المعاناة اليومية التى لا تنتهى فى حياة المسلم، معاناة الاستقامة على أفق الإيمان، والصبر على الضعف الإنسانى منك ومن الآخرين الذين تحتك بهم وتتعامل معهم منذ استيقاظك من النوم كل صباح حتى خلودك إليه كل مساء، وهو صبر لا ينتهى،.. صبر طويل وصبر جميل.

(4)

فى الخطبة الأخيرة التى ألقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت بخطبة الوداع، وقف رسول الإنسانية بين جمع من الشهود الذين حضروها، (ومنهم  من أبلغ بأمرها وتواتر الإبلاغ حتى وصلتنا)، وقال: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من آمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه فى طاعة الله».. قال الرسول الكريم الناس، ولم يحدد فئة أو طائفة، أو قوم، فهذه رحابة الإسلام، تستوعب «الناس»، لا تفرز، ولا تستبعد، بل يطلب للجميع سلام العيش وأمنه، ويقرن هذا بالإسلام، والإيمان وهو أعلى درجة، وينهى عن الأذى باللسان أو اليد، ويوضح معنى الجهاد فى شموله بأنه جهاد النفس فى طاعة الله. ولنا أن نتدبر بعقولنا ونسأل: هل خلق الله الآخر المغاير للمسلم فى الدين أو الملة ليقتله المسلم بدعوى أنه مشرك؟! وأما كان أولى بالمسلم أن يدعوه بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الإسلام، وأن يجعل المسلم من نفسه قدوة.. حتى تصدق الدعوة على الداعى؟!. دعاة الإسلام فى قرونه الأولى كانوا التجار المسلمين، كانوا يبهرون من يشترى أو يبيع لهم من شعوب الأرض، بصدقهم وأمانتهم، وطيب معشرهم، ومظهرهم، أما الآن فقد نصّب تجار الدين، من القتلة، والمجرمين، من أنفسهم دعاة للإسلام، فاتخذهم أعداء الإسلام النهازون حجة على الإسلام، وفى المقابل لا يمكن أن تكون مشاهد الأسر والذبح، والتحريق، التى يرتكبها الداعشيون كل يوم بدم بارد وقساوة قلب لم يعد فيه مكان لذرة رحمة ضد أبرياء لم يرفعوا ضدهم السلاح، ولا يستطيعون.. لا يمكن أن يكون هذا هو دين الإسلام، أو الجهاد الذى يدعو إليه رب الرحمة. والذين يجترأون على آيات الله، ويرتكبون هذه الجرائم، لا يمكن أن يكونوا على هدى من شرع الله وسُنّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. .. وللحديث بقية
أضف تعليق

رسائل الرئيس للمصريين

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2