حورية عبيدة تكتب: كيف تقود الجماهير الجاهلة؟

حورية عبيدة تكتب: كيف تقود الجماهير الجاهلة؟حورية عبيدة تكتب: كيف تقود الجماهير الجاهلة؟

* عاجل1-7-2019 | 20:28

مجموعة من القردة وُضِعَت في قفصٍ؛ عُلِّق في سقفه ثمرة موز، كلما حاول أحدهم الوصول إليها يتم رَشِّه بالماء، فهمَتِ القردة أن عليهم أن يمتنعوا، تم تغيير أحدهم بقردٍ جديد، وما إن بَصُر الموزة حتى هَمَّ بها، فإذ بهم يتولون عقابه ضرباً مُبرحاً ليمتنع، امتثل الوافد الجديد لرأي الجماعة، وثانيةً تم استبدال قرد ثانٍ بآخر، وحاول مثل سابقه؛ فلم يفلح بسبب العقاب ذاته الذي وقع عليه، المدهش أن القرد السابق عليه قام بالمشاركة في ضربه؛ رغم أنه لم يفهم سبب معاقبته حينما حاول من قبل، ومع ذلك انخرط يسلك نفس السلوك الجماعي. في أحد المجمعات التجارية وضعوا شريطاً كعلامة للوقوف في صف، مَر الناس عليه ولم يعيروه انتباهاً، فقام الباحثون بإيقاف رَجل بجوار الشريط، فشاهده الناس؛ فاصطفوا وراءه! المذهل أنه كلما تَقدم شخص ليقف وراءه يسأل عن السبب؛ فلا يجد إجابةً محددةً، لكنه في ذات الوقت يختلق إجابةً من وحي أوهامه وخيالاته؛ وينسج قصة يرويها؛ كي لا يصبح موضع جهلٍ أوسخريةٍ لكونه يقف في طابورلا يفقه سببه! العلماء في مجال علم النفس الاجتماعي؛ يرون أن الناس تنقاد وراء آخرين لا يعرفونهم طالما أنهم جماعة، فيظنون -من نسج خيالهم- أن هناك مصلحة ما وراء هذا الموقف الجماعي، بل وقد يشككون ويقاومون من يمنعهم من ممارسة هذا السلوك الجماعي، ومن هنا عُرفَ أن الجماهير تحكمها العواطف لا العقلانية، وبالبحث والدراسة؛ وجدوها تتسم بسرعة الانفعال والخِفة والنَزَق؛ وعواطفها دائما متضخمة متطرفة؛ فإما تحب بشدة أو تكره بشدة، مما يجعلها ألعوبة في يد من يحرضها، وتتصف بسرعة التأثر والتصديق والسذاجة والخضوع لتصورات ذهنية تصبح وكأنها حقائق واقعية ملموسة. من هنا يمكننا فهم جنون الجماهير وهَوَسِها وتصفيقها الحاد لمطرب ما أو فريق كرةٍ بِعَينه، أو قد تهجم على شخص معين تريد ذبحه؛ دون التأكد من كونه مذنبا أم لا -وهكذا يمكننا تفسير أفعال المتعصبين في بعض المذاهب والديانات- وفي نفس الوقت نجدها غير قادرة على النقاش أو المُحاجَّة العقلانية، ولا تفسح لروح النقد طريقاً، فهي إما تقبل الأفكار أو ترفضها كلية، وهنا تذوب الشخصية الفردية "الواعية" داخل الجماعة، فينصاع الفرد للسلوك الجمعي والعدوى الجماهيرية، وقد يأتي بأفعال لا يرتضيها لو كان يفعلها بمفرده خارج سياق الجماعة، الجماهير هنا تحتاج دوما لاستثارة عواطفها وغرائزها؛ ولا تقبل التسامح مع المخالفين، وهنا يصبح التعصب فضيلة، والأوهام حقيقة، وقد تَفصل رأس كل معارض عن جسده لتصبح سكينا يقطع دابر كل مَن لا يتفق معها. الشعوب الجاهلة (يُصنفها علماء النفس الاجتماعي بأنها ذات مشاعر بدائية)، تربة خصبةً ملائمةً لوجود تلكم الجماهير، وقد قيل "جمهور جاهل لا يعرف مايريد؛ أسهل في القيادة من جمهور متعلم يعرف ماله وماعليه"، وذلك لأن الجمهور" أُنثوي" عاطفياً، وتزداد النكبة كلما كانت الجماهير ضعيفة، كأن تكون منقسمة أو متنافرة غير متجانسة، يهيمن عليهم التردد واللايقين، لذا تتعالى أصواتهم لمن يقودهم بقوة "بالحديد والنار"، ومن هنا نسمع كثيراً عمن يطالب بـ "المستبد العادل"! أو من يترحم على عهد حاكم ديكتاتوري! وقد يتنامى لديهم نرجسية الاعتداد بذواتهم؛ فيرفضون كل جديد أو تطور؛ ويظلون يعيشون في الماضي؛ يتغنون به؛ لأنهم يدمنون الشعارات فقط، ويفشلون في إنشاء المؤسسات لعدم قدرتهم على استخدام العقل، وبذلك تبدأ أولى علامات انهيار حضاراتهم وزوالها، دون أن ينتبهوا أو يدركوا مخاطره. أَذكرُ وقت العمليات الإرهابية التي طالت فرنسا وألمانيا؛ واتُهم فيها بعض المسلمين؛ قدّم التليفزيون الألماني حلقة بأربعة مذيعين مختلفي الديانات والمذاهب، وسط حضور جماهيري كثيف في الاستوديو، تمّت مناقشة العمليات الإرهابية مع ضيف مسلم ملتحٍ، خَلُصَ البرنامج إلى نفي صفة الإرهاب عن الإسلام والمسلمين، وأن كل ديانة ومذهب بها بعض المتعصبين، وليس معنى ذلك أن الدين يتسم بالإرهاب والتطرف، ساعتها انتصب الحُضور وقوفا؛ يُحَيونَ البرنامج بالتصفيق الحاد. أَخلُص مما سبق؛ إلى أن الجماهير بالفعل قوة لا يُستهان بها، خاصة مع التطور المرعب لوسائل الاتصال الجماهيري والتواصل الاجتماعي، لكن تحصين الأوطان لشعوبها للاستفادة من قوتها، لا يتأتي إلا بنظام تعليمي وقيمي وإعلامي واعٍ، يُعلي من شأن العقل والتفكير، ويتقبل النقاش والاختلاف والحوار، مبتعدا عن الاستقطاب والانقسامات، وأن تمارس النخبة المثقفة دورها التوعوي والتثقيفي، في ظل مُناخ يسمح بحرية التعبير والاختلاف وعدم الاعتداد بالرأي الواحد؛ فإنهاض الأوطان لا يكون إلا بأنفسٍ مُتْرَعة بالحب، والحب يتوّلد من الانتماء الصادق للوطن؛ ساعة يكون الفرد مواطناً ذا قيمة.. أتذكر مقولة المفكر البريطاني توماس بِين: "الربُ القاسِي يَخلقُ إنساناً قاسياً".
أضف تعليق

إعلان آراك 2