تقوم، معظم دول العالم، بإجراء المسح السكاني، أو التعداد البشري للسكان، “Population Census”، كل عشر سنوات، ويعتبر هذا التعداد أساس التخطيط القومي للدولة، في كل مراحل الحياة، على مدار عشر سنوات تالية. ولقد قامت مصر، عام 2017، من خلال الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، برئاسة اللواء أبو بكر الجندي، بتنفيذ تعداد مماثل، ببراعة، تحت اسم التعداد العام للسكان والإسكان والمنشآت، “General Population, Housing and Establishment Census”.
يذكر أنه في عام 2009، نفذت ألمانيا مثل هذا التعداد، وخرجت نتائجه، كما أعلنتها وزيرة التخطيط الألماني، بمفاجأة في بعض الأرقام، مضيفة أنها لا تتخذ أية قرارات، تتعلق بمستقبل ألمانيا، إلا بعد الرجوع إلى بيانات وأرقام هذا التعداد. كانت المفاجأة التي تشير لها الوزيرة الألمانية، هي الأرقام العاكسة لموقف المهاجرين الأتراك إلى ألمانيا، فالمعروف أن الألمان يعتبرون أنفسهم من الجنس الآري، المتميز، لذا تجد معظم المواطنون الألمان يعكفون عن العمل في بعض الوظائف، مثل تنظيف الشوارع، أو غسيل الأطباق في المطاعم، وشبيهها من الأعمال المختلفة. ونظراً للعلاقات التاريخية، بين ألمانيا وتركيا، منذ تحالفهما في الحرب العالمية، فلقد فتحت ألمانيا أبوابها لاستقبال عدد من المهاجرين الأتراك، لملئ الفراغ في سوق العمل، من تلك الأعمال والوظائف في ألمانيا.
وأتذكر عندما كنت ملحقاً عسكرياً، لبلادي، في تركيا، كان مبنى السفارة الألمانية، في أنقرة، مجاور لمبنى السفارة المصرية، بها، مما كان يضطرنا للترجل، كل صباح، من أول الشارع، حتى مقر السفارة، تاركين سياراتنا، مع السائقين، حتى نجاحهم في اختراق الشارع، وكان السبب في تلك المعضلة، اليومية، هو الزحام الشديد، الذي يسببه الأتراك، بامتداد طوابيرهم، أمام سفارة ألمانيا، للحصول على تأشيرة دخولها. كان معظم المتقدمين للسفر، إلى ألمانيا، من أكراد تركيا، الهاربين من جحيم، وبطش الحياة، وصعوبتها في تركيا، فلم يكن غريباً أن تجد في جميع شوارع، المدن الألمانية، المطاعم التي تقدم سندويتشات الدونير التركي، والحلويات التركية، بل وأصبح الشعب الألماني مرحباً بهذه المطاعم التركية في بلادهم.
وفوجئت ألمانيا، من نتائج هذا التعداد، بوجود نحو 4 مليون تركي في ألمانيا، حصل، معظمهم، على الجنسية الألمانية، بأساليب عدة، منها مدة العمل، أو الزواج من ألمانيات، وغيرها. كما توقع التقرير، أنه وفقاً لمتوسطات الإنجاب لدى الأتراك المسلمين، الذي يتراوح بين 4 و5 أطفال، للأسرة، في مقابل طفل أو اثنين، للأسر الألمانية، فيتوقع أنه بحلول عام 2050، سيكون أكثر من نصف تعداد السكان في ألمانيا، من أصول تركية مسلمة، وهو ما سينعكس على نسبة التمثيل في "البوندستاج"، أي البرلمان الألماني، حيث ستمثل غالبيته من الألمان ذوي الأصول التركية. كما ذكر هذا التقرير، أن الأجيال الثانية والثالثة، من الأتراك المهاجرين، لن يقبلوا بالعمل في الوظائف البسيطة، التي جاء أباءوهم، إلى ألمانيا، لشغلها، فهذه الأجيال الجديدة، تطبعت بالحياة في ألمانيا، ولم تعان مما عانى منه أباءهم وأجدادهم.
وبناء على ما تقدم، فقد قررت الحكومة الألمانية، إيقاف قبول الأتراك للعمل، في ألمانيا، في الفترات القادمة، فجاء الحل للحكومة الألمانية، على طبق من ذهب، عندما اندلعت، ما يعرف باسم، "ثورات الربيع العربي"، إذ تدفق الآلاف من المهاجرين السوريين، إلى حدودها، وعلى الفور اجتمعت الحكومة الألمانية، وبعد دراسة لطبيعة الشعب السوري، الذي يتصف بالانضباط، والدقة، والأمانة في العمل، فضلاً عن النظافة، والتي تعد أهم متطلبات المجتمع الألماني، إلا أنهم اعتبروا العيب الوحيد، المؤثر عل نسيج المجتمع الألماني، هو أن هؤلاء السوريين، مسلمي الديانة، والذي يتطابق مع مشاكل العمالة التركية في ألمانيا.
إلا أنه، وبعد نقاشات طويلة، داخل الحكومة الألمانية، تمت المواقفة على قبول اللاجئين السوريين، اللذين وصل عددهم إلى مليون سوري، ولم يتم وضعهم في معسكرات مثل باقي الدول الأوروبية، لكن تم توزيعهم على مختلف المدن الألمانية، ومن هذه الأسر، من الشباب والأطفال، من تم دمجهم في المدارس الألمانية، أما السيدات فلقد تم إدراجهم في المؤسسات المجتمعية للتأقلم على الحياه الألمانية، في حين تم توظيف الرجال، على الفور، وفي هذه الأثناء تعالت الصيحات في العالم العربي، عن الاعجاب بموقف ألمانيا، باعتبارها حاضنة للمهاجرين السوريين، بينما الواقع أن ألمانيا كانت تخطط لمستقبلها، فقط.
وبعد عام، ونصف العام، بدأت الحكومة الألمانية مرحلة تقييم أولئك المهاجرين السوريين، البالغ عددهم مليون شخص، وتوصلت لأن نحو مائة ألف منهم، لا يصلحون للحياة، والتأقلم، مع المجتمع الألماني، واتخذت قراراً بترحيلهم إلى خارج البلاد، في معسكرات اللاجئين السوريين في تركيا، التي لديها، الآن، ثلاثة ونصف مليون سوري، يعيشون في معسكرات، ويتولى الاتحاد الأوروبي الإنفاق عليهم، خشية تسللهم لدول الاتحاد الأوروبي. فتجلت الحقيقة من أن موافقة ألمانيا على استقبال مليون سوري كانت لمصلحة ألمانيا، فقط، وليس بدافع إنساني، كما ظن البعض. ولقد وضعت الحكومة الألمانية القوانين الصارمة، لتفادي تكرار مشكلة اللاجئين الأتراك، ومنها عدم منحهم الجنسية الألمانية، إلا بعد مرور 10 سنوات، من البقاء السلمي في البلاد، ودون أي إخلال بأمن البلاد، وغيرها من القوانين، التي وافق السوريون عليها، بالطبع، لأنها الدولة الأوروبية، الوحيدة، التي وافقت على استقبالهم دون احتجازهم في معسكرات لا آدمية.
واليوم، ترى المستشارة الألمانية ميركل، خلال عطلات نهاية الأسبوع، تتناول الأطعمة السورية مثل الشاورما السورية، بدلا من الدونير، أو الشاورما التركية، واذكر أنني منذ فترة جمعني حوار بأحد أعضاء السفارة المصرية في أنقرة، فسألته عن أخبار الشارع الخلفي للسفارة المصرية والألمانية، فرد قائلاً "اطمئن السفارة الألمانية، في أنقرة، لا توافق، الآن، على أي تأشيرات دخول للأتراك، لذلك الشوارع خالية تماماً"، وهكذا نرى أن تلك طبيعة الدول التي تعتمد على المعلومات لرسم سياستها المستقبلية.
Email: [email protected]