بظلال كثيفة من الغيوم ألقى فوز المرشح الجمهورى دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة على العلاقات الأمريكية الأوربية التى بدأت تتلمس طريقها الوعرة نحو القلق والتقلب وتآكل الثقة منذ انهيار ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتى السابق مطلع تسعينيات القرن الماضى.
فبادئ ذى بدء، لعلنا لا نبالغ إذا ما زعمنا بأن وصول ترامب للمكتب البيضاوى قد مثل تهديدا وجوديا للمشروع الاتحادي الأوربي،الذى طالما تملكت الأوربيين شكوك مربكة في مواقف واشنطن الحقيقية حياله منذ الشروع في تدشين مسيرته الاتحادية الطويلة منتصف القرن الفائت، حيث يستبد بأولئك الأوربيين هاجس بشأن وجود رغبة أمريكية فى إفشاله والحيلولة دون بلوغه مبتغاه من الوحدة والقوة على كافة الأصعدة، لاسيما صعيدي الدفاع والسياسة الخارجية، حتى لا تتحول أوروبا إلى قوة عالمية موحدة وضاربة تنافس القطب الأمريكى الأوحد صدارة النظام العالمى، الذى تواصل واشنطن عزفها المنفرد على قمته منذ انهيار ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتى عام 1990. فلا يزال كثير من البريطانيين يتذكرون دور واشنطن فى دفع لندن للالتحاق بالسوق الأوربية المشتركة عام 1975، ثم محاولة توظيفها كذراع لواشنطن داخل تلك المنظومة بغية عرقلة مساعى ألمانيا لتحويلها إلى اتحاد فيدرالى متجانس ومتماسك اقتصاديا وعسكريا وسياسيا. ولعلنا لا نتجاوز حدود الدقة حالة ادعائنا بأن الرفض البريطانى الشعبى للموقف الأمريكى من علاقة لندن بالاتحاد الأوربى، كان أحد العوامل الرئيسة، التى شجعت قطاعا عريضا من البريطانيين على التصويت لأجل خروج بلادهم من الاتحاد الأوربى.
وانطلاقا من هذا التصور، لم يتورع الأوربيون عن شن حملة عنيفة على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذى اعتبروا اعتلاءه سدة الحكم فى واشنطن مؤججا لأزمة الثقة بين بروكسيل وواشنطن، كما ارتأوه ركنا ركينا فى هجوم ثلاثي المحاور يسعى إلى تقوّيض الاتحاد الأوربى. وفى هذا السياق، أكد مؤخرا، غي فيرهوفشتات، وهو مسؤول بارز في الاتحاد الأوروبي وأبرز مفاوضيه لخروج بريطانيا من التكتل، خلال خطاب أمام معهد "تشاتام هاوس" بلندن:"عدت لتوّي من الولايات المتحدة، وقد اكتشفت أنه بالإضافة إلى التهديدين اللذين يتربصان بالاتحاد الأوربى والمتمثلين فى الإسلاميين المتشددين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ثمة تهديد ثالث يلوح فى الأفق يتجلى فى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
وتتفاقم مخاوف الأوربيين من تداعيات فوز ترامب برئاسة أمريكا على مشروعهم الوحدوى، مع تزامن مجىء ترامب وتحديات أوربية باتت تثقل كاهل القارة العجوز، تتمظهر فى أزمة أوكرانيا، التى فخخت علاقات دول الاتحاد مع موسكو، إلى الحد الذى دفع بدول شرق أوروبا الأعضاء في الاتحاد، إلى الوقوع فى براثن الهلع من أن يستغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعهد ترامب بتحسين علاقات واشنطن مع موسكو، برغم العقوبات الأوروبية والأمريكية التى ترزح الأخيرة فى أغلالها، كضوء أخضر للتحرك باتجاه بسط نفوذ روسيا مجددا على هذه الدول التي كانت تدور فى فلك الاتحاد السوفيتى السابق قبل العام 1990، على غرار ما يحدث منذ نحو عامين في أوكرانيا.
ويأتى انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربى، بعد تصويت نسبة 51.9% من الناخبين البريطانيين، بواقع 17.4 مليون شخص، فى استفتاء أجرى فى شهر يونيو الماضى بمشاركة تاريخية للناخبين ناهزت الـ72 %، لمصلحة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد، مقابل 48.1% بواقع16.1 مليون ،عبروا عن تأييدهم للبقاء فيه، وما رافق ذلك من تنامى التوقعات بحذو دول أوربية أخرى حذو بريطانيا على ذات الدرب وفى مسار التمرد الشعبى الغربى على المنظومة السياسية التقليدية والمشروع الوحدوى الأوربي، ليسلط الضوء على التهديد الوجودى الذى يحيط بالاتحاد الأوربى بالتزامن مع صعود ترامب.
وفى حين سبق للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما التأكيد على أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإن أوجد حالة من الغموض في شأن مستقبل المشروع الاندماجى الأوروبي، إلا أنه لن يضر بالعلاقات بين واشنطن وأوروبا، غير أن أوباما حذر من أن أي خلاف بين لندن وبروكسيل في شأن الخروج البريطانى سوف يضعف الأمن الأوربى في مواجهة التهديدات الروسية. و تأسيا على كل ما ذكر آنفا، أكد وزير الخارجية الفرنسي جان مارك ايرو فى تعليق عما وصفه بالزلزال السياسي الذي شهدته واشنطن في ذكرى مرور 27 عاماً على سقوط حائط برلين: "لا يمكن أن يغمض لأوروبا جفن بعد خروج بريطانيا من الاتحاد وبعد انتخاب دونالد ترامب". وفى السياق ذاته، أعرب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، وهو نرويجي الجنسية، عن مخاوفه من أن يتنصل الرئيس الأمريكى ترامب من التزامات بلاده فيما يخص الاتفاقات المتعلقة بالضمانات الأمنية إزاء الحلف.
وجاء الأمر التنفيذي الذى أصدره ترامب بعد أسبوع من أدائه اليمين الدستورية، وحمل عنوان "حماية الأمة من دخول إرهابيين أجانب إلى الولايات المتحدة"، والذى فرض بموجبه حظرا لأجل غير مسمى على دخول اللاجئين السوريين، وحظرا لمدة ثلاثة أشهر على دخول رعايا إيران وست دول عربية، حتى ممن لديهم تأشيرات لدخول الولايات المتحدة، ظنا منه أنه سيبقى من أسماهم "الإرهابيين الإسلاميين المتشددين" خارج الولايات المتحدة؛ ليسكب مزيدا من الزيت على نيران التوجس وأزمة الثقة المتنامية بين بروكسيل وواشنطن.
فمن جهة، لم يحل إعلان الحكومة البريطانية حصولها على إعفاء لرعاياها المجنسين ومزدوجي الجنسية من القيود الأمريكية الجديدة، حيث سيستثنى المسافرين إلى الولايات المتحدة الذين يحملون، إضافة إلى الجنسية البريطانية، جنسية إحدى الدول السبع المشمولة بقرار الحظر الأمريكي (العراق وإيران وليبيا والصومال والسودان وسورية واليمن)، انطلاقاً من دولة أخرى غير الدول السبع، لن يسري عليهم قرار الحظر، حتى ولو تحركت رحلاتهم من إحدى هذه الدول، لم يحل دون تفجر معارضة شرسة لزيارة ترامب المتوقعة هذا العام لبريطانيا، إذ وقع مليون بريطانى على عريضة تطالب بإلغاء تلك الزيارة، وذلك على خلفية إصداره الأمر التنفيذي المثير للجدل، مما يعني أنها حصلت على أكثر بكثير من العدد اللازم من التوقيعات كي يناقش الأمر في البرلمان. وبينما لم تعر الحكومة البريطانية اهتماما الدعوات المطالبة بإلغاء زيارة ترامب إلى المملكة المتحدة، تبقى تلك الدعوات مؤشرا على تنامى حالة من الرفض الشعبى العارم فى أوربا لدونالد ترامب، كما تعكس قلقا شديدا من تأثير سياساته المثيرة على مستقبل العلاقات بين ضفتى الأطلسى.
ومن جهة ثانية، أعلن الناطق باسم المفوضية الأوروبية مارغاريتيس سكيناس أن العواقب القانونية للمرسوم الأمريكي ليست واضحة بعد من حيث انعكاساتها المحتملة على رعايا الاتحاد الأوربى من حملة جنسيتين، وعدم تعرضهم لأي تمييز، بناءً على الجنسية أو العرق أو الدين، سواء على صعيد اللجوء أو في أيّ من السياسات، وذلك بسبب المعلومات المتضاربة التى يتلقاها الأوربيون من الأمريكيين بهذا الصدد. وبدورها، كرّرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تنديدها بهذا الأمر الرئاسى الأمريكى، مشددة على أن مكافحة الإرهاب الضرورية والحازمة، لا تبرّر إطلاقاً تعميم التشكيك بالأشخاص من دين معيّن، وتحديداً الإسلام. واعتبرت أن هذه التدابير تتناقض مع رؤيتها لأسس التعاون الدولى والمساعدة الدولية للاجئين.
ويبقى ملف العلاقات الأمنية بين واشنطن وبروكسيل هو الأكثر إثارة بعد فوز ترامب برئاسة أمريكا، حيث دعا وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير دول الاتحاد الأوروبي إلى عدم التعويل على أمريكا بعد انتخاب ترامب، لاسيما في مجالي السياسة الخارجية والدفاع، خصوصا في ظل حديث ترامب خلال حملته الرئاسية عن ضرورة أن يتحمل الأوروبيون نصيبا أكبر من تكلفة الدفاع عن القارة العجوز، والتى تتحمل واشنطن وحدها نحو 70% منها، وأن ترفع دول الاتحاد نسبة إنفاقها الدفاعى السنوى داخل الناتو إلى 2% من ناتجها القومى الإجمالى.
ولكم كان لافتا ذلك التعاطى غير الودى من قبل ترامب إزاء ألمانيا، التى طالبها بدفع مقابل "ضمان الجيش الأمريكي أمنها منذ عقود، محذرا من عدم إمكانية استمرار هذه الحماية بالمجان"، مؤكدا أنها "مدينة للأمريكيين بالكثير، لكنها لا تتفق معهم في كل شيء لأن لها ثقافتها السياسية الخاصة". وبذلك، بدا ترامب، كما لو كان يمضى فى مسار مغاير لذلك الذى انتهجه أسلافه حيال الحليف الألمانى، خاصة باراك أوباما، الذى حرص على توثيق عرى التحالف الأمريكى الأوربى عبر تعزيز التعاون الاستراتيجى مع ألمانيا، التى اعتبر التحالف معها دعامة غير عادية للعلاقات عبر الأطلنطي، كونها ثالث أكبر مساهم بالقوات العسكرية فى أفغانستان بعد الولايات المتحدة وبريطانيا، كما تقف في قلب الشئون الأوروبية، وتعد شريكا أساسيا في العلاقات بين الولايات المتحدة والأوربيين في الناتو والاتحاد الأوربي. كما ترتبط واشنطن وبرلين بالتزام مشترك وراسخ تجاه قيام اقتصاد عالمي منفتح ومتوسع، باعتبارهما من كبار الدول التجارية فى العالم. و في مطلع تسعينيات القرن الماضى، وبعدما غدت الولايات المتحدة القوى العظمى الوحيدة في العالم، اعتبر الأمريكيون ألمانيا الموحدة "شريكا لواشنطن في الريادة العالمية".
وعلى الصعيد الاقتصادى، فيستبد بالأوربيين هلع من تأثير سياسات ترامب على الشراكة التجارية بين ضفتى الأطلسى، في ظل النزعة الحمائية التي ينطوى عليها خطابه سواء أثناء الحملة الانتخابية أو بعد تقلده الرئاسة. ورغم أنه من المبكر لدول الاتحاد الوقوف على حجم الآثار السلبية المتوقعة لفوز ترامب على العلاقات الاقتصادية بين أوربا وأمريكا، لم يدخر الأوربيون وسعا فى السعى لتعزيز التعاون مع شركاء تجاريين آخرين بعيدا عن واشنطن، إذ حرص سفير الاتحاد الأوروبي لدى الصين على تثمين حرص بكين على الالتزام باتفاقات التجارة الحرة، في مواجهة وعد الرئيس الأميركي ترامب بتقييد الواردات الصينية،وأكد السفير الأوربى أن أوروبا ترحب بدفاع الرئيس الصيني شي جينبينغ عن التجارة الحرة في خطاب له الشهر الماضي، ومشددا على أن الأوربيين يأملون في اتخاذ "إجراءات ملموسة" لفتح السوق الصينية أمام المنتجات الأوربية.
أما سياسيا، فيمكن القول إن فوز ترامب فى انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة قد شكل مصدر إلهام للتيارات الشعبوية واليمين المتطرف فى أوربا، فبالنظر إلى فرنسا، التي تستعد لإجراء انتخاباتها الرئاسية في أبريل ومايوالمقبلين، فيما يعتبر مراقبون فوز ترامب دعما لموقف ماري لوبن مرشحة حزب الجبهة الوطنية، الذي يُعد أقوى الأحزاب القومية المتطرفة في أوروبا. ولذلك اعتبرت لوبان نتيجة الانتخابات الأمريكية نصراً للجماهير على النخبة، وتطوراً يجعل في الإمكان تحقيق ما كان يُروج له في الماضي على أنه مستحيل، كما بدأت على الفور اتصالات بين حزبها وفريق ترامب. ويتلاقى خطاب لوبان مع خطاب ترامب في مناح شتى. أبرزها، النزعة الحمائية التجارية والانغلاق الاقتصادي، وهذا هو أكثر ما يمكن أن يؤذي أوروبا إذا حققت لوبان بدورها المفاجأة، لأن نزعتها الحمائية تشمل السعي إلى إخراج فرنسا من الاتحاد الأوروبي عبر إجراء استفتاء، كما حدث في بريطانيا. كما تتفق لوبان وترامب في اتخاذ موقف حاد ضد المهاجرين، ولكن فيما تبدو لوبن أقل قسوة في موقفها تجاه المهاجرين غير الشرعيين حيث تقبل إمهال من لا يجدون عملاً منهم ثلاثة أشهر للحصول على وظيفة أو الرحيل، فهي تتخذ موقفاً أكثر حدة تجاه المهاجرين الذين صاروا مواطنين فرنسيين يحميهم الدستور ويمنحهم مواطنة كاملة، ويظهر ذلك في تعهدها بأن تكون الأولوية لـلفرنسيين الأصليين في برامح الرعاية والخدمات الاجتماعية.
وبرغم ما ذكر آنفا، يميل خبراء أوربيون إلى قراءة تأثير فوز ترامب برئاسة أمريكا على مستقبل الاتحاد الأوربى، كما شكل علاقته بواشنطن من منظور مغاير، حيث يرون أن ما قد ينطوى عليه صعود ترامب من تحول أو تغير فى علاقات واشنطن مع الاتحاد الأوربى، ربما لا يخلو، فى الوقت ذاته، من بعض الأمور الإيجابية، إذ قد يرغم الأوروبيين على إعادة ترتيب البيت الأوربى من الداخل، ومراجعة المسيرة الوحدوية، مع السعى للاستثمار بشكل فعال في توثيق عرى التعاون بين دول الاتحاد الأوربى، لاسيما على صعيدى السياسة الخارجية والدفاع، عبر توحيد المواقف السياسية وتنسيق الخطط الدفاعية بالتوازى مع زيادة الإنفاق على الدفاع، بما يقود فى نهاية المطاف إلى تحصين الاتحاد وزيادة مناعته وتقليص درجة انكشافه الاستراتيجى إزاء أية تحديات خارجية، الأمر الذى يعينه على إعادة صياغة علاقة الشراكة الاستراتيجية مع الشريك الأمريكى على أسس سليمة وقواعد صلبة، بحيث لا تتغير بتغير الظروف أو القيادات والحكومات.