عندما طاردت إسرائيل موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب

كتبت: نرفانا محمود

١٨٦٩ هو العام الذى يعتبره باحثو التاريخ بداية عصر النهضة لموسيقى مصر الحديثة؛ ففى هذا العام تم إنشاء دار الأوبرا المصرية، وهو الحدث الذى أسهم فى إحداث تطور كبير فى الموسيقى وانفتاحها على الموسيقى الغربية ولو أن هذا التأثير لم يظهر وقتها فى إبداع فنانى القرن التاسع عشر أمثال عبده الحامولى ومحمد عثمان نظرا لاكتمال شخصياتهم الفنية ونضجها الأمر الذى يصعب معه إحداث أى تغيير أو تأثير عليهم، إلا إنه ظهر  فى إنتاج فنانى القرن العشرين بسبب معايشتهم لها منذ الصغر، ويتضح ذلك جليا فى ثلاثة من أهم ملحنى ذلك العصر وهم محمد القصبجى وسيد درويش ومحمد عبدالوهاب الذى تحل اليوم ذكرى رحيله السادسة والعشرين.

ولد عبدالوهاب فى ١٣مارس ١٩٠٢ فى حى باب الشعرية لأب مقرئ ومؤذن كان يأمل فى توريث ابنه تلك المهنة ، إلا أن الابن كان متعلقا بالموسيقى شغوفا بها فأهمل دراسته مخالفا بذلك رغبة والده وأسرته بالكامل.

وتنقل الشاب محمد عبد الوهاب بين العديد من الفرق المسرحية مغنيا بين فصول مسرحياتها، ثم التحق بعد ذلك بنادى الموسيقى الشرقي وتعلم عزف العود على يد محمد القصبجي، و فن الموشحات وعمل في نفس الوقت كمدرس للأناشيد بمدرسة الخازندار، والتقى بعد ذلك بسيد درويش وعمل معه فى فرقته.

علاقته بشوقى

وفى أحدى الحفلات التى كان يقيمها أحمد بك شوقى غنى عبد الوهاب وأعجب بموهبته شوقى أمير الشعراء، فقرر أن يتبناه فنيا، وفيما بعد تساءل كثيرون عن السر فى الارتباط الشديد بين شوقى و عبد الوهاب بحيث كان شوقى يصحب عبد الوهاب معه إلى كل مكان حتى وهو مسافر فى رحلاته إلى لبنان أو فرنسا، وقد بدأت هذه العلاقة وشوقى قد تجاوز الخمسين.

فى البداية كان السر هو إعجاب شوقى بصوت عبد الوهاب، وشعور شوقى الفنان أنه اكتشف اكتشافا كبيرا يدرك هو قيمته ويريد أن يدخل معه التاريخ كشاعر وراعٍ لهذه الموهبة، وبالفعل هذا ماحدث.

كان شوقى بك يدرك أن عبد الوهاب هو الصوت الذى يحقق لشعره الانتشار، فشوقى الشاعر لم يكن يجيد إلقاء الشعر، وكانت الصحف ودواوين الشعر محدودة التوزيع والغناء هو الأكثر انتشارا بين الجماهير، والمطرب يمكن أن يكون للشاعر بديلا عن وسائل الاتصال الأخرى لأنه يصل إلى قلوب الناس، وهذا ما جعل شوقى يقول لعبد الوهاب أكثر من مرة:

« يا محمد لا تهمل شعرى بعد أن أموت.. ودائما غنِ قصائدى فإن خلودى أن يردد الناس شعرى وانت كفيل بأن تجعل الناس تحب شعرى وتردده»..

السر

هذا هو السر فى أن شوقى تبنى عبد الوهاب .. حتى يتبنى عبد الوهاب أشعاره، ويعطيها الحياة والانتشار بألحانه وغنائه، ومن هنا بدأت مسيرة عبدالوهاب الفنية التى دشنها كمغن لألحان غيره.

أما بدايته كملحن فتعود إلى عام ١٩٢٧ فمنذ هذا العام بدأ عبدالوهاب يحلق منفردا فى عالم الموسيقى فيسبق عصره ويقود ثورة فنية على تكرار الجملة الغنائية والنغم البطيء.

لـــم تظهـــر الآلات الغربيـــة فـــي أعمالـــه الأولـــى نظرا لكونه من مدرسـة القــرن التاســع عشــر أي مدرســة الــدور والمواويــل والقصــيدة البعيــدة عــن التــأثر بالموســيقى الغربية. ولكن وبالرغم من ذلك بدأت الآلات الغربية بالظهور مع شيء من الاستحياء في أغنيات محمد عبد الوهاب هذه، ففي سنة 1932 كانـت البدايـة فـي مونولـوج" مريـت علـى بيـت الحبايـب" آلة الأوكورديون لأول مرة .

.. وفى عام ١٩٣٥ تأتى أغنية "جفنــه علــم الغــزل" التى تــدخل فيها ولأول مــرة الآلــة الإيقاعيــة الماراكاس وهي عبارة عن كرة فارغـة بهـا خرزات صـغيرة تصـدر صـوتاً عنـد هـز الكـرة مـن يـــدها، كما تصاحبها فالخلفية الإيقاعية أيضا لأول مرة مجموعـــة التشـــيللو.

أما آلة الأورج الكهربائي فأدخلها محمد عبد الوهـاب لأول مـرة في أغنيـة "لأ مـش أنـا اللـــي أبكـــي" فـــي مقـــدمتها الموســـيقية.

ويحكـــى أن يـــوم التســـجيل لـــم يكـــن عـــازف الأورج حاضرا فعزف محمد عبد الوهاب المقدمة على الأورج بنفسه.

الآلات الغربية

وفى الخمسينيات أدخل عبدالوهاب مجموعة كبيرة من الآلات الغربية فى ألحانه مع مزجها بقالب الطقطوقة العربى فنتج عنها مجموعة من أجمل أغانيه مثل: "أنا والعذاب وهواك"، "أه منك يا جارحنى"، "كان أجمل يوم"، "ظلمونى يا حبيبى"، "لأ مش أنا اللى أبكى".

ويذكر أن أول لقاء جمع عبد الوهاب بأم كلثوم كان فى عام 1925 وكان بمنزل أحد الأثرياء (محمود خيرت) والد الموسيقار أبو بكر خيرت حيث غنيا معاً دويتو "على قد الليل مايطوّل" من ألحان سيد درويش بعد ذلك لحن لها أغنية "غاير من اللى هواكي قبلي ولو كنت جاهلة"، رفضت أم كلثوم أن تغنيها فغناها عبد الوهاب، ومنذ بداية الثلاثينيات وحتى أواخر الأربعينيات كانت الصحف تلقب كلاً من عبد الوهاب وأم كلثوم بالعدوين، إلا أنه جرت محاولات للجمع بينهما حتى تعاونا فى لقاء أطلقت عليه الصحف لقاء السحاب بأغنية "أنت عمرى"، ويذكر أن أم كلثوم كان رفضها قاطع لاستخدام الجيتار فى مقدمة الأغنية، فلجأ عبدالوهاب للمنطق والذكاء الذين عرفا عنه لإقناعها، فسـألها هـل أنـت مقتنعـة بـذوق القصـبجى وعبـده صالح  فأجابـت بالإيجـاب، فطلـب منهـا عـرض لحـن الجيتـار عليهمـا كـل علـى حـدة، فكـان رد القصـبجي بعـد عـزف المقدمـة أن هـذه الجملـة لا تصـلح للعود بل للجيتار، كذلك كان رد عبده صالح، وهكذا دخلت أول آلة غربية على أغـاني أم كلثوم، ثم أثمر تعاونهما فى تسع سنوات عن عشر أغنيات من روائع أم كلثوم وهى  : "أنت عمرى، على باب مصر ، أنت الحب، أمل حياتى، فكرونى، هذه ليلتى، أصبح عندى الآن بندقية، ودارت الأيام، أغدا ألقاك، ليلة حب".

ألحانه لآخرين

ولحن عبدالوهاب لمعظم مطربين تلك الحقبة ، كما أن له عدد من الأناشيد القومية التى تعتبر آلات الأوركسترا السيمفونى ركيزة أساسية فيها: "قولوا لمصر تغنى معايا"، "وطنى الأكبر"، "صوت الجماهير"، "الجيل الصاعد".  حاز العديد من الجوائز والأوسمة منها الجائزة التقديرية فى الفنون، وسام الاستحقاق من الرئيس جمال عبدالناصر، "وسام الاستقلال" وغيرها الكثير.

وكما كان عبدالوهاب حريصا فى ألحانه وأغانيه، كان أيضا حريصا على حياته وصحته فيذكر عنه أنه كان مهووسا بالنظافة  فقد سرد الكاتب أنيس منصور عن الموسيقار محمد عبد الوهاب _ وقد كانت تجمعهما صداقة فريدة من نوعها_ إنه من شدة هوسه بالنظافة كان يغسل الصابون قبل استعماله، مشيراً إلى أنه كان يغسل يديه قبل الأكل وبعد الأكل وإذا كان في نيته أن يأكل وإذا كان في نيته ألا يأكل، بل أنه كان يضع منديلا على أنفه، حتى لا يشم رائحة كريهة يتوهم مصدرها من أي إنسان قريب منه.

إسرائيل تطارده

وأيضا كانت لديه قناعة أن القوات الإسرائيلية تتبعه شخصيًا وتحاول اغتياله بسبب ألحانه ومواقفه الوطنية،  وكان أنيس يعرف ذلك جيدا فاتفق مع العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ على تسجيل شريط كاسيت بصوت الإعلامي أحمد سعيد يفيد باختراق طائرة كوماندوز إسرائيلية للمجال الجوي المصري، ونجاح جنود المظلات في التسلل والهبوط إلى منطقة المهندسين.

وفور الانتهاء من تسجيل الشريط، كان أنيس منصور على موعد مع عبدالوهاب، وبعد أن ركبا السيارة في طريقهما إلى المهندسين لمقابلة خاصة، أدار الأول التسجيل وعندما استمع عبدالوهاب إلى الخبر، ارتجف قائلًا: «توقف» ثم نزل من السيارة وأخذ يبكي، لقد جاء إلى ذهن موسيقار الأجيال أنه في مأزق حقيقي، ولم يعرف أين يذهب؛  ولكن في النهاية علم أنه مقلب من أنيس والعندليب الأسمر، وحظيا بما يليق من الأستاذ «الموسوس».

ورحل الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب عن دنيانا فى  الرابع من شهر مايو عام 1991 إثر وعكة صحيّة ألمّت به، وكان قد أصيب وقتها بجلطة دماغية كبرى إثر سقوط حاد تعرّض له على أرضية منزله تاركا خلفه مكتبة موسيقية حافلة بالثراء الفنى وتطورا لم يعرف له حد بداية من " يا جارة الوادى" وحتى" من غير ليه" ليستحق عن جدارة لقب موسيقار الأجيال. المصادر:

مقال بحثى للمايسترو سليم سحاب.

مقال للأستاذ رجب البنا.

مجموعة مقالات للأستاذ أنيس منصور.