د.ناجح إبراهيم يكتب: المظاهرات..أولها وردى وآخرها دموى

د.ناجح إبراهيم يكتب: المظاهرات..أولها وردى وآخرها دموىد.ناجح إبراهيم يكتب: المظاهرات..أولها وردى وآخرها دموى

*سلايد رئيسى28-9-2019 | 20:09

كان عمرى 28 عاماً عندما كنت في سجن استقبال طره وكان العقيد محسن السرساوى مأموراً للسجن وكان حكيماً وحليماً وينتمى إلي أسرة وطنية عريقة من ضباط الجيش الذين استشهدوا أو أبلوا بلاءً حسناً في حروب مصر الكبرى ومشهود لهم بالسيرة الطيبة ونظافة اليد. ونحن في شبابنا ومراهقتنا الفكرية لم نعرف قدر السرساوى إلا بعد أن حل محله آخر علي العكس من كل صفاته.

كان مكتب مفتش أمن الدولة في السجون وقتها العميد/محمد عبد الفتاح يقابل مكتب المأمور وكان رجل حوار أيضاً ولا يحب العنف ورث ذلك عن أستاذه اللواء/فؤاد علام,ورغم ذلك كانت لدى أكثرنا تخوفات من التحاور معه,دون أن يكون لذلك سبب ظاهر سوى الموروثات البالية التى تورثها الحركات الإسلامية لبعضها جيلاً وراء جيلاً. جلست يوماً مع العميد عبد الفتاح ووقتها راجت في مصر دعوة الشيخ حافظ سلامة - الحائز علي نجمة سيناء أعلي وسام عسكرى مصرى - لحشد مسيرة ضخمة أسماها المسيرة الخضراء كناية عن سلميتها للذهاب إلي القصر الجمهورى لمناشدة الرئيس الأسبق مبارك بالسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية بالتدريج. وشدد الشيخ حافظ ومنظموا المسيرة علي سلميتها التامة وانضباطها وأنها ستخرج من مسجد النور لتسلم عريضة طلباتها إلي الرئاسة

ولكن وزارة الداخلية والمؤسسات الرسمية الأخرى شددت علي منع هذه المسيرة بكل الطرق. قلت يومها للعميد/عبد الفتاح:لماذا المنع ما دامت سلميه؟قال لى:هناك قاعدة مستقرة مفادها"أي مظاهرة ضخمة في القاهرة تعنى تحطيم القاهرة أو حرقها". قلت له:كيف ذلك ما دامت سلمية؟ قال:لا تغرك الكلمة فكل المظاهرات تبدأ سلمية ثم تتحول فجأة إلي العنف والحرق, فكلما سارت المظاهرات في الشوارع اكتسبت أيضاً أنصاراً كثيرين بعضهم عاقل وأكثرهم متهور وغير منضبط ولا حضارى

يكفى أن شخصاً واحداً يلقي حجراً علي أى منشأة يكرهها ليقذف الجميع مبانى كثيرة بالحجارة,أو يلقي واحداً جركن بنزين ثم يشعله فتحترق القاهرة كلها. قلت له كيف؟قال:مظاهرات 17 ,18 يناير التى أشعلها اليسار المصري ضد رفع سعر بعض السلع بدأت سلمية ثم حرقت كل شيء مما استلزم نزول الجيش إلي جوار الشرطة,ذلك فضلاً عن الخسائر فى الأرواح والاقتصاد وسمعة البلاد. مرت الأيام ونسيت الحوار وما جرى فيه وخاصة أن المسيرة الخضراء لم تتم,وتعاقبت الأيام حتى قابلت يوماً بعض المعتقلين الجدد وكنت أحب سماع قصص حياة كل منهم فاختلى بى أحدهم وحكى لى قصة غريبة مفادها أنه وثلاثة آخرين كانوا سيشاركون في المسيرة الخضراء وقد جهزوا قنابل يدوية لإلقائها علي الشرطة إذا تصدت للمسيرة أو أطلقت عليها الرصاص أو الغازات.

ذهلت من هول حديثه وتأكدت منه مراراً وقلت له:هل كان الشيخ حافظ سلامة يعرف ذلك ؟ قال:لا.. وإلا كان رفض مشاركتنا أو سلمنا للأمن. قلت له:المسيرة سلمية فلماذا تحضرون القنابل وتورطون الشيخ والمتظاهرين السلميين؟فقال:كنا نريد حمايتها. قلت : ولكنكم بذلك قد تحدثون مجزرة متبادلة تراق فيها الدماء بغير مبرر . في هذه الليلة استرجعت شريط الحديث مع العميد عبد الفتاح والذى لم أكن مقتنعاً به وقتها. قلت لنفسي:المظاهرات في الجامعة تختلف عن المظاهرات في الشوارع,في كل مظاهرة هناك آلاف العقلاء وعشرات أضعافهم ممن لا يستطيع أحد التحكم في اقوالهم وتصرفاتهم وخاصة إذا شعروا قوة في أنفسهم وضعفاً في الشرطة أو اطلق لهم العنان للتظاهر في الشوارع بحرية,فكل الثورات والمظاهرات تبدأ سلمية ثم تعمد إلي المولوتوفية والحرق والدمار .

وأنا الآن أسترجع شريط المظاهرات في لحظات عديدة في تاريخ مصر ،فثورة يناير بدأت سلمية ثم ركبها العنف فحرقت 90 قسم شرطة,وعشرات الأحياء والمحاكم بما فيها من وثائق تحفظ حقوق المواطنين ، فضلاً عن مقار الحزب الوطنى ،حتى مقار المطافئ التى تخدم الناس بحياد حرقت كذلك دون عقل أو روية,كنت أمر عليها كل يوم بالقرب من منزلي وأعجب لهؤلاء الذين حرقوها,فضلاً عن آلاف من سيارات الشرطة تم حرقها,مع أنها ستشترى بعد ذلك كما ستجدد الأقسام من أموال دافعي الضرائب فضلاً عن المحلات التى نهبت. الثورات والمظاهرات عادة ما يركبها عتاة المجرمين بعدما يلوح نصرها وانكسار مؤسسات الدولة.

لقد تم حرق أكثر من 60 كنيسة و50 نيابة ومحكمة و10 محافظات وقرابة 40 قسم شرطة وأكثر من 60 مجلس مدينة وحى في يوم واحد وكل ذلك تم من خلال مظاهرات حاشدة في اليوم الذى تلا فض اعتصام رابعة.  كانت المظاهرات تسير,تقف أمام الكنيسة,تهتف ضدها فقط بعدها بلحظات تجد بعض المتظاهرين يتسللون وحدهم لحرقها,لا تتحرك المظاهرة إلا بعد الحرق,وهكذا تم مع كل محافظة من المحافظات العشر والنيابات والمحاكم. قد يكون من حركوا المظاهرات لا يريدون حرق هذه الأماكن ولكنها حتما ستحترق. المظاهرات تبدأ سلمية ثم تنجرف دوماً إلي العنف وخاصة إذا كانت في مجتمع محتقن فقير غير متحضر ملئ بالبلطجية ويعاني من الكبت الشديد فيحدث الانفجار الذي لا يسيطر عليه أحد  في مثل هذه اللحظات. تأملت كل تاريخ المظاهرات في الشوارع .

يبدأها العقلاء والثوار الحقيقيون ثم يركبها الجنون والحمق واللاعقل والبلطجية والذي يدفع الثمن دائماً هم المخلصون. صوت الأحمق والغبى والدموى العنيف مسموع في المظاهرات أكثر من صوت العقل والحكمة الجموع الغفيرة لا عقل لها والحشود لا عقل لها,أما إذا ركبتها الجماعات السياسية فهى تستطيع السيطرة عليها أحياناً برجالاتها ونظامها ولكنها توجهها لمصالحها الذاتية وتجهزها بعد ذلك للعنف والحرق,وتدفع الثمن غالياً عليها,وتحاسب علي كل المشاريب وعلى كل الحرق والتدمير. الشوارع في بلادنا بما فيها من كنائس ومحال تجارية وبيوت ليست مكاناً للتظاهر وإلا احترقت أو دمرت أو أريقت فيها الدماء، العقلاء والحكماء يضحون بإخلاص لكن دعوتهم للإصلاح يركبها عادة الأفاقون والانتهازيون والبلطجية.

وهؤلاء يدخلون المشهد سريعاً فيفجرون ثم يخرجون سريعاً قبل أن يحل العقاب فلا يجد سوى الشباب النظيف فيحشرون إلي السجون طوال عمرهم. هذه كانت تجربتى مع المظاهرات وقد شاركت في شبابي في مظاهرات كثيرة في الجامعة,ولم نخرج خارج أسوارها سوى مرتين كانت الأسوأ,رغم أن الشريحة المشاركة كانت من طلاب الجامعة الأكثر رقياً وخلقاً. هذه ذكرياتى المجردة عن المظاهرات والتى حاولت تطبيقها علي كل المظاهرات سواء التى حدثت في 17,18/يناير 1977 أو التى تلت ثورة يناير أو التى  تلت فض رابعة بالقوة. أسوقها للقراء لعلهم يدركون أن المظاهرات الحاشدة لن تكون سلمية أبداً ولن يستطيع أحد السيطرة عليها بعد حين,وأنها ستتحول من السلمية إلي المولوتوفية ولو بعد حين،وهذا الحين معروف ومعلوم هو ظهور انكسار أجهزة الشرطة وشعور الجميع أن المتظاهر سيحظى بالبطولة ولا يناله العقاب,حينها ستدخل المظاهرات كل الأطياف التى ستحول الشوارع إلي جحيم ودماء.

أضف تعليق

إعلان آراك 2