د. ناجح إبراهيم يكتب: المظاهرات .. والوصايا العشر

د. ناجح إبراهيم يكتب: المظاهرات .. والوصايا العشرد. ناجح إبراهيم يكتب: المظاهرات .. والوصايا العشر

* عاجل5-10-2019 | 21:01

مرت الأسابيع الماضية ثقيلة علي الجميع،دعوة للمظاهرات وإحباط لها ،شكاوى مكتومة وظاهرة من طبقات كثيرة أغلبها اقتصادى وأشملها يأس بعض الشباب من قرب تحسن الأحوال،مياه كثيرة جرت في نهر المظاهرات التي أحبطت  يعرفها الجميع ولكن السؤال الملح .. ماذا بعد؟هل ستراجع كل الأطراف حساباتها لتحقق مصالح الأوطان وتدرأ مثل هذه الظروف الصعبة؟هل يمكن أن نضع نقاطاً مضيئة تعلمناها من دروس هذه الأيام ، نسوقها للأخرين في كبسولات دقيقة مثل الآتى:-     أولاً:أي مظاهرة كبرى في ميادين القاهرة والأقاليم ستتحول من السلمية إلي العنف والحرق : كان عمرى وقتها 28 عاماً وقلت يوماً لأحد الضباط الكبار بعد منع مسيرة سلمية في القاهرة:لماذا المنع ما دامت سلميه؟قال لى:هناك قاعدة مستقرة مفادها"أي مظاهرة ضخمة في القاهرة تعنى تحطيم القاهرة أو حرقها وقد يؤدى إلي إراقة دماء كثيرة ".

قلت له:كيف ذلك ما دامت سلمية؟ قال:لا تغرك الكلمة فكل المظاهرات تبدأ سلمية ثم تتحول فجأة إلي العنف والحرق, فكلما سارت المظاهرات في الشوارع اكتسبت أيضاً أنصاراً كثيرين بعضهم عاقل وأكثرهم متهور وغير منضبط ولا حضارى,يكفى أن شخصاً واحداً يلقي حجراً علي أى منشأة يكرهها ليقذف الجميع مبانى كثيرة بالحجارة,أو يلقي واحداً جركن بنزين ثم يشعله فتحترق القاهرة كلها.

قلت له كيف؟قال:مظاهرات 17 ,18 يناير التى أشعلها اليسار المصري ضد رفع سعر بعض السلع بدأت سلمية ثم حرقت كل شيء مما استلزم نزول الجيش إلي جوار الشرطة,ذلك فضلاً عن الخسائر فى الأرواح والاقتصاد وسمعة البلاد.

مرت الأيام ونسيت الحوار وما جرى فيه وخاصة أن هذه المسيرة لم تتم,وتعاقبت الأيام حتى قابلت يوماً بعض المعتقلين الجدد وكنت أحب سماع قصص حياة كل منهم,فاختلى بى أحدهم وحكى لى قصة غريبة مفادها أنه وثلاثة آخرين كانوا سيشاركون في المسيرة الخضراء وقد جهزوا قنابل يدوية لإلقائها علي الشرطة إذا تصدت للمسيرة أو أطلقت عليها الرصاص أو الغازات. تأكدت منه مراراً وسألته:هل كان الشيخ حافظ سلامة "منظم المسيرة"يعرف ذلك؟ قال:لا..وإلا كان رفض مشاركتنا أو سلمنا للأمن. قلت له:المسيرة سلمية فلماذا تحضرون القنابل وتورطون الشيخ والمتظاهرين السلميين؟فقال:كنا نريد حمايتها. قلت : ولكنكم بذلك قد تحدثون مجزرة متبادلة تراق فيها الدماء بغير مبرر . في هذه الليلة استرجعت شريط الحديث مع الضابط الكبير والذى لم أكن مقتنعاً به وقتها. قلت لنفسي:المظاهرات في الجامعة تختلف عن المظاهرات في الشوارع,في كل مظاهرة هناك آلاف العقلاء وعشرات أضعافهم ممن لا يستطيع أحد التحكم في أقوالهم وتصرفاتهم وخاصة إذا شعروا قوة في أنفسهم وضعفاً في الشرطة أو اطلق لهم العنان للتظاهر في الشوارع بحرية,فكل الثورات والمظاهرات تبدأ سلمية ثم تعمد إلي المولوتوفية والحرق والدمار .

استرجعت شريط المظاهرات في تاريخ مصر،فثورة يناير بدأت سلمية ثم ركبها العنف فحرقت 90 قسم شرطة,وعشرات الأحياء والمحاكم بما فيها من وثائق تحفظ حقوق المواطنين،فضلاً عن مقار الحزب الوطنى ،حتى مقار المطافئ التى تخدم الناس بحياد حرقت كذلك دون عقل أو روية,كنت أمر عليها كل يوم بالقرب من منزلي وأعجب لهؤلاء الذين حرقوها,فضلاً عن آلاف من سيارات الشرطة تم حرقها,مع أنها ستشترى بعد ذلك كما ستجدد الأقسام من أموال دافعي الضرائب فضلاً عن المحلات التى نهبت. الثورات والمظاهرات عادة ما يركبها عتاة المجرمين بعدما يلوح نصرها وانكسار مؤسسات الدولة. لقد تم حرق أكثر من 60 كنيسة و50 نيابة ومحكمة و10 محافظات وقرابة 40 قسم شرطة وأكثر من 60 مجلس مدينة وحى في يوم واحد وكل ذلك تم من خلال مظاهرات حاشدة في اليوم الذى تلا فض اعتصام رابعة.

  كانت المظاهرات تسير,تقف أمام الكنيسة,تهتف ضدها فقط بعدها بلحظات تجد بعض المتظاهرين يتسللون وحدهم لحرقها,لا تتحرك المظاهرة إلا بعد الحرق,وهكذا تم مع كل محافظة من المحافظات العشر والنيابات والمحاكم. قد يكون من حركوا المظاهرات لا يريدون حرق هذه الأماكن ولكنها حتما ستحترق. المظاهرات تبدأ سلمية ثم تنجرف دوماً إلي العنف وخاصة إذا كانت في مجتمع محتقن فقير غير متحضر ملئ بالبلطجية ويعاني من الكبت الشديد فيحدث الانفجار الذي لا يسيطر عليه أحد  في مثل هذه اللحظات.

تأملت كل تاريخ المظاهرات في الشوارع ، يبدأها العقلاء والثوار الحقيقيون ثم يركبها الجنون والحمق واللاعقل والبلطجية والذي يدفع الثمن دائماً هم المخلصون. صوت الأحمق والغبى والدموى العنيف مسموع في المظاهرات أكثر من صوت العقل والحكمة,الجموع الغفيرة لا عقل لها والحشود لا عقل لها,أما إذا ركبتها الجماعات السياسية فهى تستطيع السيطرة عليها أحياناً برجالاتها ونظامها ولكنها توجهها لمصالحها الذاتية وتجهزها بعد ذلك للعنف والحرق,وتدفع الثمن غالياً عليها,وتحاسب علي كل المشاريب وعلى كل الحرق والتدمير. الشوارع في بلادنا بما فيها من كنائس ومحال تجارية وبيوت ليست مكاناً للتظاهر وإلا احترقت أو دمرت أو أريقت فيها الدماء. العقلاء والحكماء يضحون بإخلاص لكن دعوتهم للإصلاح يركبها عادة الأفاقون والانتهازيون والبلطجية,وهؤلاء يدخلون المشهد سريعاً فيفجرون ثم يخرجون سريعاً قبل أن يحل العقاب فلا يجد سوى الشباب النظيف فيحشرون إلي السجون طوال عمرهم.

هذه بعض ذكرياتى المجردة عن المظاهرات والتى حاولت تطبيقها علي كل المظاهرات سواء التى حدثت في 17,18يناير 1977 أو التى تلت ثورة يناير أو التى  تلت فض رابعة بالقوة. أسوقها للقراء لعلهم يدركون أن المظاهرات الحاشدة لن تكون سلمية أبداً ولن يستطيع أحد السيطرة عليها بعد حين,وأنها ستتحول من السلمية إلي المولوتوفية ولو بعد حين،وهذا الحين معروف ومعلوم هو ظهور انكسار أجهزة الشرطة وشعور الجميع أن المتظاهر سيحظى بالبطولة ولا يناله العقاب,حينها ستدخل المظاهرات كل الأطياف التى ستحول الشوارع إلي جحيم ودماء. ثانياً : أكبر خسارة حدثت في هوجه المظاهرات السابقة أن هناك عدة آلاف شخص قبض عليه بينهم أبرياء بالتأكيد قبض عليهم علي هامش هذه المظاهرات بعضهم احترازياً قبل المظاهرات وبعضهم لأسباب أخرى  لا نعلمها. وأسرهم تتمزق كل يوم بفقدهم وغيابهم وتتسول فقط أن تراهم أو ترسل لهم الطعام أو تعرف مكانهم وتتواصل معهم,ولا يهمهم الآن سوى خروج عائلهم وابنهم.

إن لم يكن لدعاوى المظاهرات السابقة سوى هذه الخسارة لكفت فضلاً عن خسائر كثيرة لكل الأطراف ووقف كل المصالح التجارية والاقتصادية في البلد في مثل هذه الأيام. أزمة القيادة في الحركة الإسلامية أن قرارات معظم القادة مهما كانت نيتهم تؤدى إلي حشر الآلاف من أبنائهم إلي السجون والمعتقلات أو تودى بهم أو بغيرهم إلي القبور .

القائد الناجح هو الذى يخرج أبناءه وأتباعه من السجون لا أن يحشر الآلاف منهم إلي السجون تباعاً ثم لا يجد طريقة بعد ذلك لإخراجهم. ثالثاً :الدول معروفة لا تتسامح ولا تتهاون في منظومة أمنها مهما كانت النتائج ,ولكن أكثر الإسلاميين لا يعرفون شيئاً عن منظومة الدولة الثابتة في كل العصور رغم تعاملهم معها عشرات السنين.

يريدون منها أن تترك التظاهر في كل ميادين مصر,ثم تضطر بعد ذلك للقيام بمذبحة حين تتحول المظاهرات إلي مليونية تحرق كل شيء,الدول لا تفعل ذلك,والأهون عليها منع المظاهرات في الميادين والشوارع مهما كلفها المنع لأن ذلك أيسر عليها من القادم الأسوأ  ,لو أنها  تركت هذه الحشود تزداد تدريجياً حتى تحتل كل الميادين فيكون الخراب للجميع. رابعاً :يضع البعض سيناريو خيالي ثم يحاسب الكون كله عليه,الأولي أن ننظر إلي الواقع وما سيجرى فيه مهما كانت مرارته ونتعامل معه بالحكمة والروية والأناة والعقل والنظر الدقيق في فقه المصالح والمفاسد,وفقه المآلات,وتقديم مصالح الإسلام والأوطان علي مصالح الجماعات والأحزاب,ودرء المفاسد العظمى,وإحلال السلام والوئام واستدامته لأن الشعوب تستفيد من السلام أكثر من الحكومات. خامساً:الآن وبعد انتهت أزمة المظاهرات فعلي الدولة المصرية أن تراجع الكثير من سياستها وتعمل علي الإفراج عن الشباب الذى قبض عليه قبل أن يتلوث فكره في السجون أو يلتقط أفكار التكفير والتفجير والعنف والكراهية أو تدمر نفسيته تدميراً. سادساً:إعطاء قسط أكبر من الحريات العامة,والموازنة بين قوة الدولة ومؤسساتها وقوة المجتمع ، فلا يمكن أن تكون الدولة قوية والمجتمع ضعيف جداً ، والمؤسسات قوية والفرد في حالة هوان وفقر. سابعاً: تحسين الخدمات قبل أن ترفع أسعارها فهل يعقل أن أجر المكالمات الأرضية يكون سبعة جنيهات وتكون الفاتورة 110جـ,أسعار الخدمات ارتفعت وفي نفس الوقت ساءت الخدمة لغياب المنافسة الحقيقية، وقس علي ذلك خدمات كثيرة مرتفعة جدا ً ومتدنية في الوقت نفسه. رفع المعاشات وخاصة المتدنية منها فهناك معاشات أقل من ألف ونصف لا تكفي أصحابها لعدة أيام. ثامناً :الاهتمام ببناء الإنسان قبل الحجر لأن سنغافورة,واليابان وغيرهما بدأوا بالإنسان أولاً,الإنسان هو محور الإصلاح الحقيقي,والإنسان المصرى أراه تائهاً. الاهتمام بالصناعة لأنها قاطرة التنمية الحقيقة,فهناك اهتمام بمجالات كثيرة ولكن الصناعة لم تأخذ حقها حتى الآن. وتشجيع الاستثمار المصرى مع الأجنبي وخاصة أن عدداً لا بأس به من المستثمرين المصريين يستثمر الآن معظم أمواله خارج مصر فإذا عاد هؤلاء دارت عجلة الاقتصاد التى لن تدور إلا بفتح استثمارات كثيرة وخاصة في مجال الزراعة والصناعة. تخفيف الأحمال علي الفلاحين والمزارعين الذين أصبحوا يخسرون في زراعاتهم نظراً للتكاليف المرتفعة للتقاوى والبذور والكيماويات,هذا ما أعرفه ولعل غيرى يعرف أفضل منى في مثل هذه المجالات. تاسعاً:بعيداً عن الحملات الكبرى الصحية مثل حملة 100 مليون صحة لمواجهة فيروس C وغيرها من الحملات المدعومة من مؤسسة الرئاسة فإن منظومة الصحة  المصرية ضعيفة ومهترئة,والمريض المصرى لا يلقي معاملة طبية ولا إنسانية جيدة في كل المستشفيات الحكومية بدءً من الوحدة الصحية القروية وانتهاءً بالمستشفيات الجامعية التى تعانى من إهمال وتكدس وفوضي وغير آدمية حتى أنك تسمع جميع المرضي وأهلهم يقولون إن أسوأ أيام قضيناها في حياتنا هي في المستشفي الجامعى الفلانى. فالمصرى يعالج في الحقيقة علي نفقته الخاصة,ويتعلم ابنه علي نفقته الخاصة,فلا تعليم الآن إلا بالدروس الخصوصية,والمدرسون يطردون طلاب الشهادات من المدارس بطريق مباشر أو غير مباشر ليتفرغوا للدروس الخصوصية,فالعلاج والدروس الخصوصية قصمت ظهر ميزانية الأسرة المصرية التى لم تعد تتحمل شيئاً,وأتحدى أن تجد مصرياٍ لا يعطى أولاده دروساً خصوصية ثلث دخل أسرته  أما مليارات وزارتى الصحة والتعليم فتنفق بطريقة خاطئة . عاشراً:تغيير لغة الإعلام من التعبوية والحماسية إلي مخاطبة وتنمية العقول والأفهام وعرض النماذج الشريفة والمشرفة باستمرار وما أكثرها في مصر.

أضف تعليق

إعلان آراك 2