أمس الأحد كانت الذكرى الـ (46) لحرب اكتوبر..
ياترى اليوم ده مر علينا ازاي؟
ناس كتير كانوا مبسوطين أنه وافق اﻷحد.. يعني 3 ايام أجازة .. جمعة وسبت وأحد.. وبعضنا بدأوا يومهم بتبادل التهاني.. من التهاني الجميلة اللي وصلتني : "كل 6 أكتوبر ومصر من نصر لنصر.."
في منتصف النهار.. رقرقة نهر عميق من الحب داعبت أذني من بيت الجيران.. ياحبيبتي يا مصر.. يا مصر ..
مين فينا ما بيتهزش وجدانه لما بيسمع نبضات قلبك ياشادية : يا حبيبتي يا مصر يامصر؟!
وأنا زي الناس.. اتهزيت بعنف مع سرسبة كلمات اﻷغنية في أذني.. وحسيت بجنين دمعة بيتشكل في وجداني.. لكن الجنين تم إجهاضه بسؤال باغتني فجأة: مفيش مصري ما بيحبش الأغنية دي.. باستثناء حملة شعار طظ في مصر!
بس يا ترى حبنا لمصر حقيقي ؟
يوم 18 أكتوبر 73 على ما أتذكر.. واحد من اهل قريتي المعصرة/ بلقاس، داهم أبويا وأمي بالخبر التالي: البقاء لله.. ابنكم عبدالعاطي استشهد وأربعة من شباب القرية.. الخبر لسه واصل مركز الشرطة النهاردة الصبح.
أبويا وأمي استقبلا الخبر بصمت..ه ل شلت الصدمة لسانهما ؟!
لكن أبي اﻷمي.. تاجر الغلال البسيط.. لم يكف أبدا عن عادته.. متابعة مايجري عبر الإذاعات.. وما كانش في انتظار خبر عن ابنه.. إنما خبر عن مصر.. أن الثغرة مش هتقضي عليها.
في يوم الصبح قلت له أنا رايح المستشفى.. نظر إلي في تأمل.. وماردش.. كملت: اتفقت أنا واصحابي من طلبة الجامعة أننا نروح نتبرع بالدم.. تابعني وأنا أغادر أيضا في صمت.. ماكانش من الصعب أن أقرأ مباركة في عينه لما أنا مقدم عليه وأصحابي.
ولما رحنا مستشفى بلقاس ..كانت سعادتنا بالغة.. لأنهم استقبلونا بحفاوة.. مدير المستشفى أشاد أمام الأطباء والممرضين والممرضات بوطنيتنا.
واتذكر أنه قال: مصر لما يبقى فيها شباب زيكم.. ربنا هينصرها إن شاء الله..
لكن في الحقيقة لم نكن استثناء.. هكذا كان حال الجميع.. منتمون.
كل أجواء مصر.. كانت أحادية العبق.. عبق اﻻنتماء الحقيقي.. أي تصرف ينم عن اﻻنتماء.. ﻻيقابل أبدا بالدهشة.. حتى لما نساء القرية الفقيرات تبرعن قبل ذلك، وعقب كارثة يونيو، للمجهود الحربي بما تبقى لديهن من بقايا حلي الزواج.. حلق..غويشة ..خاتم.. دبلة.. كانت كلها أمور طبيعية تفيض من روح اﻻنتماء العادية جدا والشائعة بين الناس.
لما رجعنا القرية من المستشفى ماكناش عارفين هنعمل بعد كده أيه.. واحد منا نصح أننا ننظم المرور على الطريق الزراعي.. وممكن نفتش السيارات موضع الشبهة خاصة أن فيه كلام عن جواسيس إسرائيليين تسللوا داخل مصر.. علشان ينفذوا عمليات تخريبية.
وقفنا ونظمنا المرور.. السواقين كانوا متعاونين جدا واثنوا على اللي بنعمله.. ضابط نقطة الشرطة في القرية جه ومعاه الخفر وشجعنا على اﻻستمرار في عملنا.
واحنا واقفين جاللنا خبر أن فيه خناقة كبيرة عند المسجد الكبير.. رحت وعدد من أصحابي لمكان المشاجرة.. عشرات من اﻷهالي اتجمعوا أمام محل بقالة.. عاوزين يفتكوا بصاحبه.. وهو قفل على نفسه الدكان من الخوف.. السبب عرفناه البقال استغل ظروف الحرب ورفع أسعار السلع اللي بيبيعها، كان التاجر الوحيد اللي عمل كده في القرية، تصرف بشع.
والد شهيد صرخ: أوﻻدنا بيموتوا على الجبهة واللي ماعندوش دم بيتاجر في دمنا.. أيه الفرق بينه وبين الإسرائيليين ؟!!!.
ماكانتش مشاجرة علشان الناس ظروفها وحشة.. وماتتحملش رفع اﻷسعار.. إنما مشاجرة علشان اﻻنتماء.. القرية زي مصر كلها أيامها كانت قلوبها بتنبض باﻻنتماء.. ماعدا البقال الشاذ.. علشان كده الكل كان مستغرب من تصرفه.. وكأن تجمع أهل القرية للفتك به حكم بالإعدام عليه بتهمة الخيانة العظمى.
حكاية المشاجرة بفتكرها وانا بالتفت حولي دلوقتي وأشوف تجار ورجال أعمال استغلوا إجراءات الإصلاح اﻻقتصادي القاسية.. ورفعوا أسعارهم أضعاف ما تتطلب تداعيات التعويم.
وغيرهم .. رموز إعلامية وثقافية وبرلمانية وفي مجاﻻت كتيرة.. في حياتهم الخاصة.. وفي إدارتهم لمؤسساتهم.. لمواقعهم الوظيفية.. عينهم مش أبدا على مصر.. إنما على الخزنة.. على كشوف المكافآت واﻻمتيازات.. على سفرية وبدلات سفر بآﻻف الدوﻻرات.. على منصب أعلى.. امتيازاته أكتر.
بس أكيد لما سمعوا زيي شادية بتغني النهاردة.. غنوا معاها: يا حبيبتي يا مصر ..!!!
والمذهل إن محدش مستغرب.. مش حاسين إن فيه مشكلة.. زي الزبالة اللي بنرميها إينما كان.. ومفيش مشكلة.. بل تآلفنا مع كل ماهو سيء من القبح إلى الفساد.. وفي نفس الوقت كلنا بنغني: ياحبيبتي يامصر ..!!!!
ملحوظة..
تبين أن هناك خطأ في خبر استشهاد أخي وأربعة من أبناء القرية.. وقد كانوا ضمن الجيش الثالث.. المحاصر شرق القناة.. وقد عادوا بعد انتهاء الحرب سالمين.
......................
كل سنة ومصر بخير والمصريين أكتر انتماء.