استقر قطب في جامعة Leland Stanford Junior جنوب شرق مدينة سان فرانسيسكو بالقرب من Silicon Valley فى ولاية كاليفورنيا وفي تلك الأثناء أجرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA أولي اتصالاتها الموثقة مع الدارس المصري غريب الأطوار.
حيث لجأت قيادة العملية الأمريكية إلي أسلوب الاتصال المباشر بالهدف وقبلها لقنت رئيس جامعة ستانفورد John Ewart Wallace Sterling بالتعليمات فأدرك بعقلية وخبرة العالم أهمية قطب لدي CIA وكان Sterling الذي شغل منصبه من عام 1949 حتي عام 1968 من الأكاديميين الأكثر نفوذاً خلال تلك الفترة بكل الجامعات الأمريكية وربما الأوروبية علي حد السواء.
[caption id="attachment_34889" align="aligncenter" width="300"]
جون إيورت والاس ستارلنج[/caption]
مثلما فعل البروفسور Ross في جامعة ولاية كولورادو قلده Sterling في ستانفورد حيث خصص للوافد المصري السكن والوظيفة في مكتبة كلية الآداب التابعة للجامعة لأنها كانت الأقرب إلي خبرات سيد قطب المتخرج في كلية دار العلوم المصرية عام 1932
وطد Sterling علاقته بالوافد الشرقي المنطوي علي نفسه، وأولاه رعاية أكاديمية خاصة ومميزة وفي المقابل وثق قطب به وفتح له مكنون صدره وقص عليه مشاكله ومسؤولياته وحاجته لإعالة أسرته في مصر ثم نفي عن نفسه صفة "غريب الأطوار" التي سبقته من جامعة ولاية كولورادو إلي كواليس مجتمع جامعة ستانفورد.
كتقدير خاص منه قرر البروفسور John Sterling الاحتفاء بصديقه المصري فمنح قطب بشكل استثنائي شهادة الوافد المخلص لعام 1949 وهي شهادة تقدير أكاديمية رفيعة حملت شعار الجامعة الشهير "هواء الحرية يَهُبُ" مع خاتم شجرة الصنوبر البرية التقليدية لولاية كاليفورنيا.
وأثناء مراسم الحفل المرتجل لتكريم سيد قطب طلب Sterling منه بسبب خبراته المكتبية والتعليمية التعاون مع بعض أساتذة الجامعات الأمريكية الوافدين ساعتها لدي فرع جامعة ستانفورد للدراسات المتخصصة اختص Sterling أحدهم بالتوصية والإشادة المخلصة.
[caption id="attachment_34891" align="aligncenter" width="300"]
ستارلنج يسلم شهادة لأحد الخريجين[/caption]
"كبير الكهنة"
سارت المقادير في جامعة ستانفورد طبقاً لترتيب وتخطيط دقيق رسمته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA التي أوكلت إلي البروفسور Sterling تنفيذ الخطوة الأولي لتمهيد الاتصال المباشر الأول من نوعه مع الهدف المصري الواعد.
وفي التفاصيل وصل إلي مكتب البروفسور John Sterling في منتصف شهر يوليو 1949 أكاديمي أمريكي في الأربعينيات من عمره لدراسة تكميلية في الآداب الشرقية والإسلاميات قدمه رئيس الجامعة إلي قطب في أجواء من الود والصداقة الرائعة بلقب "كبير الكهنة".
تعجب سيد قطب من اللقب فأخبره Sterling أنها مجرد مزحة عابرة وأن اللقب نسبة لاسم "Dean" الخاص باسم عائلة الأكاديمي الضيف فمر الموقف بشكل طبيعي بينما كان اللقب شائعاً عام 1949 بين أروقة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA وطالما تلقب به ضباط "فرع مصر" البارزين بالوكالة أثناء مباشرتهم لعملياتهم السرية للغاية حول العالم.
شرع سيد قطب بسعادة بالغة في تنفيذ تعليمات صديقه Sterling لمعاونة السيد "Dean" مع توجيهه لتحديد المصادر العلمية التي تحتاجها دراسته من مكتبة كلية الآداب بعدما حَلَّت العطلة الصيفية وأصبح لدى قطب متسع من الوقت لأداء مهمته.
أمضى قطب بصحبة "كبير الكهنة" ساعات طويلة وحرص الضابط الأمريكي المخضرم الذي حمل رتبة الرائد لدى "فرع مصر" في CIA علي الانصات إلي آراء وأفكار قطب المثيرة عن الإسلام بدعوى أهميتها العلمية البالغة لديه.
أفاد الحوار الجاد مع ضابط الاستخبارات الأمريكية سيد قطب وساعده علي استعادة اتزانه النفسي والفكري حيث وجده متنفساً لأفكاره ونظرياته الغريبة وقد مكنه الضابط المخضرم من التعبير عن رؤياه لسياسة الشرق الأوسط والإسلام الحديث وتعمد بحرفية عالية إفراغ كل ما بجعبة قطب من مشاعر سلبية أدت إلي وحدته وانعزاله ثم إحباطه وتدهور نفسيته.
توثيق العلاقة
تعددت اللقاءات بين السيد "Dean" والوافد المصري الجنسية وتطور الحوار الأكاديمي بينهما حول الحضارة والفكر الإسلامي ومفهوم دولة الخلافة والسلفية الجهادية وغيرها خاصة الموضوعات الجدلية التي اشتهر بها قطب الجديرة بكشف حقيقة هويته الفكرية.
في تلك الأجواء الحميمية تحول سيد قطب إلي مساعد لأبحاث السيد "Dean" الإسلامية وطبقا لما ورد بملف العملية الأمريكية اعتبرت تقارير ضابط الاستخبارات الأمريكية عن قطب تلك الفترة بمثابة التحذير المعلوماتي الرسمي الأول عن التشدد الإسلامي المتصاعد في مصر ومنطقة الشرق الأوسط.
اهتمت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA بالتطور النفسي الطارئ والملحوظ علي قطب كنتيجة لعلاقته مع السيد "Dean" رائد الجهاز الأمريكي واعتقد البعض عن طريق الخطأ في التقدير أن الدارس المصري ربما كان لديه ميول جنسية شاذة ودفينة.
تشابك ذلك التقدير مع تشخيصات الأطباء وتأكيدهم أن قطب ضعيف أمام المرأة لا يمكنه تلبية رغباتها الجسدية وساهمت حالته الصحية المهترئة ومشاكل أمراض الجهاز التنفسي التي عاني منها والاكتئاب المزمن والقلق المرضي الذي سبب له الشحوب الدائم بترسيخ ذلك التقدير الخاطئ المتطرف لدي وكالة المعلومات الأمريكية الأكبر علي مستوى العالم.
وربما دفعهم سيد قطب نفسه لذلك التفكير والتقدير مثلما أظهرت التفاصيل الدقيقة الواردة بملف العملية الأمريكية التي سجلت مراحل خطة تجنيد موظف وزارة المعارف العمومية المصرية خلال مباشرته منحته الدراسية في جامعات الولايات المتحدة.
حيث تعرف فور وصوله إلي سكن نزل الطلبة الملحق بجامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا علي طالب يهودي - أمريكي شاب يدعي Benjamin في الثالثة والعشرين من عمره كان شاذاً جنسياً من النوع السالب متعدد العلاقات وكان معروفاً لدي معظم طلبة الجامعة بميله الجنسي والعاطفي إلي الذكور.
الغريب أن الملف الأمريكي أكد أن سيد قطب علم تلك المرة منذ البداية بديانة زميله الجديد وميوله الجنسية السالبة ومع ذلك كان Benjamin الصديق المفضل لديه وقد شوهد الأخير يتجول مع قطب بشوارع مدينة سان فرانسيسكو كما زار الاثنان منطقة Silicon Valley الصناعية الشهيرة في ولاية كاليفورنيا عدة مرات خلال الإجازات الدراسية الأسبوعية.
والأغرب أن عدد من الأساتذة المقربين من البروفسور John Sterling رئيس جامعة ستانفورد لفتوا انتباهه لتصرفات الوافد المصري التي وصفوها بالمريبة بسبب صداقته وانفراده المتكرر داخل غرفته في نزل الطلبة لساعات مع Benjamin الطالب الشاذ.
لكن البروفسور Sterling قابل الشكوى بعدم الاكتراث بل جدد ثقته في أخلاق صديقه المصري أمام من أبلغوه وعلي العكس أكد من واقع معلومات موثقة لديه أن سيد قطب عاني من مشاكل جنسية علي مستوى القدرة والصحة ولذلك استبعد تماماً كل الشكوك.
الشك فى ميوله الجنسية
بسبب شك وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA وتضارب تقديراتها بشأن هوية وميول سيد قطب الجنسية اضطر السيد "Dean" المتخفي تحت هوية الأستاذ والباحث لاستدراج مساعده موظف مكتبة جامعة ستانفورد إلي إبداء رؤيته للشذوذ الجنسي في المجتمعات الغربية.
فصَّعد قطب من نقده وهجومه علي النظام الغربي والمجتمع الأمريكي لدرجة وصفه إياه بالبدائي والشهواني المُلحد أما المرأة الأمريكية فقد نالها منه شر النقد لدرجة وصفه إياها بالعهر والشذوذ والانحلال الأخلاقي كما دعا قطب صراحة إلي ضرورة نفي الشواذ من الرجال في الجبال والغابات مع الحيوانات الضالة بل وإعدامالميؤوس في شفائه منهم.
جارى ضابط وكالة CIA مساعده المصري وتحاور الاثنان بشتي الموضوعات الاجتماعية والسياسية والدينية حتي حرر "Dean" في نهاية شهر أغسطس عام 1949 تقريراً أكد فيه أن أفكار سيد قطب كارثة مؤجلة علي المجتمع المصري وربما المصالح الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط.
علي ضوء تلك التطورات قررت قيادة العملية في بداية شهر أكتوبر عام 1949 توريط سيد قطب للتعاون مع CIA مباشرة بعدما أبدى قبولاً لافتاً تجاه الولايات المتحدة بعكس رفضه التام لكيان الاتحاد السوفييتي الذي رأي فيه العدو الأشرس للإسلام في العالم.
طبقاً للخطة كلفت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA السيد "Dean" بالاحتفال بعيد ميلاد صديقه المصري الثالث والأربعين بهدف رفع معنويات سيد قطب ودعوة صديقهما المشترك البروفسور John Sterling رئيس جامعة ستانفورد إلي الحفل علي أن يستغل "كبير الكهنة" تلك المناسبة لمفاتحة هدف العملية بشكل رسمي في موضوع التعاون مع CIAمقابل امتيازات شخصية خاصة عاجلة وبالتأكيد لقاء مكافآت مالية سخية.
اللجوء للخطة B
غير أن تطور سير الحوار خلال الحفل أجبر رائد الاستخبارات الأمريكية السيد "Dean" في اللحظة الأخيرة علي التراجع عن مفاتحه قطب فلم يطلب منه صراحة العمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIAلكنه أبدل خطته إلي ما يُعرف بالخطة B
لجأ السيد "Dean" إلي الخطة B حيث اقترح علي صديقه المصري العمل معه بوظيفة مساعد باحث لحساب مركز أبحاث استراتيجية دولية في العاصمة الأمريكية واشنطن مقابل عائد مادي دوري محترم كان قطب في حاجة ماسة إليه للمعيشة في تلك الفترة.
علي أن يتولى وضع الدراسات السياسية الملخصة عن أساليب محاربة التطرف الإسلامي وصراع الحضارات في مصر ومنطقة الشرق الأوسط كذلك الدعوة إلي السلام عن طريق جمع المعلومات النوعية التي تخدم أقسام البحوث والتقديرات عن توقعات نشوب الحروب بذلك الجزء الهام من العالم مع سُبُل نزع فتيل المواجهات المسلحة بين شعوب المنطقة.
قبول العرض
أُعجب سيد قطب بالفكرة وأعلن قبوله العرض وقرر استغلال الصيف لإشباع تطلعاته ونشر أفكاره الإسلامية العصرية من وجه نظره مع تحقيق الدخل المادي الذي احتاجه لإعالة عائلته في مصر ولتسهيل حياته وإقامته للدراسة بالولايات المتحدة الأمريكية.
وعند نهاية الحفل اتفق علي التفاصيل مع صديقه السيد "Dean" ووافق علي توكيله لتوثيق أبحاثه وتسليمها نيابة عنه إلي إدارة المعهد المزعوم في العاصمة الأمريكية واشنطن الذي لم يزره قطب أو يتصل به حتي ولو مرة واحدة في حياته.
ثمَّنت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA القرار الحكيم الذي اتخذه ضابطها بآخر لحظة مع تعديله لخطة تجنيد الوافد المصري سيد قطب ولجوئه إلي الخطة Bلتحقيق إقناع الهدف ونجاحه بنهاية الأمر في تجنيده للتعاون مع CIA ولو بطريقة ضمنية ملتوية وغير مباشرة.
المثير أن CIA اعتمدت علي أبحاث سيد قطب في تلك المرحلة لوضع الكود الأول لمكافحة التشدد والتطرف الإسلامي علي مستوى العالم كتبه قطب بخط يده وكشف فيه للوكالة دون علمه - حقيقة بحثه لحسابها - أدق أسرار وتفاصيل التنظيمات الدينية الإسلامية السرية في مصر ومنطقة الشرق الأوسط.
الأغرب أن إدارة الرئيس هاري ترومان تبنت نتائج دراسات سيد قطب التي أفرغتها وكالة CIA وترجمتها لحساب الإدارة الأمريكية ككود لملف محاربة الإرهاب والتطرف الإسلامي وعملت الإدارة والرئاسة الأمريكية علي أساس ما خطه المفكر المصري حتي عام 1975
وبمناسبة الإشارة للشخصية فقد شغل "هاري جون أندرسون ترومان" الرئيس الديمقراطي الثالث والثلاثين مهام منصبه خلال الفترة من 12 إبريل 1945 حتي 20 يناير 1953