ناجح إبراهيم يكتب: حاكمية الله وحاكمية البشر.. توافق لا تعارض
ناجح إبراهيم يكتب: حاكمية الله وحاكمية البشر.. توافق لا تعارض
يعتبر اصطلاح ومفهوم «الحاكمية» هو نقطة الانطلاق الكبرى والركيزة الأساسية فى فكر كل الجماعات الإسلامية التى انتهجت نهج التكفير والعنف.
ويعد الاستاذ/ سيد قطب من أوائل من صكوا هذا المصطلح وأذاعوه ونشروه وساعد على ذلك تبنى مئات الحركات الدينية فى العالم لهذا المصطلح، رغم أن الصحابة والتابعين والفقهاء الأربعة وتلاميذهم لم يستخدموا هذا المصطلح.
والمفهوم فى حد ذاته إن وضع فى مكانه الصحيح فلا غضاضة فيه.
ولكن أ/ قطب ومن تابعوه حولوا المصطلح والمفهوم من كون الله صاحب الحاكمية والمشرع الأعظم إلى مادة لتكفير الخلائق وخاصة الحكام، فحاكمية الخالق لا علاقة لها بتكفير الخلائق، وإفراد الله بالطاعة والعبادة لا تبيح تكفير عباد الله.
وقد تطابقت دعاوى الحاكمية وفهمها الخاطئ مع دعوة الخوارج الأولى التى خلطت الحق بالباطل فى قوله تعالى «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» فالآية حق ولكنهم وضعوه موضع الباطل، وقد أنكر هؤلاء أن للبشر حاكمية تنبثق من حاكمية الله وتتوافق معها وتكملها.
ولم يفهموا أن حاكمية الله لا تتم ولا تطبق إلا بحاكمية البشر، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذى منح البشر هذه الحاكمية وشرفهم بها، وأنه لا تناقض بين حاكمية الله وحاكمية البشر.
حاكمية الله تدعو للرحمة بالخلائق ومحبة هدايتهم والشفقة عليهم وتدعو إلى حرية العبادة والعقيدة ولا تكره الآخرين على الدخول فى الإسلام لأن الله صاحب الحاكمية العليا لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين وهو الذى قرر فى كتابه «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ»
و«أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» فى سياق استنكارى بديع.
حاكمية الخالق لا يمكن أن تكون مبررا لتكفير وتفسيق وتبديع أو قتل أو اغتيال الخلائق.
والذى يريد إلغاء حاكمية البشر مطلقا، إنما يضر بشريعة الإسلام ضررا بالغا بما لا يقل عمن يريد التنكر لحاكمية الله، وإلغاءها من الوجود.
فحاكمية الله تعالى لا تقوم أساسا إلا بالبشر.. ولا يمكن لها أن تكون موجودة فى الواقع، ومتحركة فى الحياة إلا على أيدى البشر.
أو ليس البشر هم الذين يقومون بتطبيق النصوص فى الواقع؟
أليسوا هم الذين ينزلون الأحكام ويحققون مناطها؟
أليسوا هم الذين يقولون إن هذا الحكم الشرعى يطبق ها هنا، ويمنع تطبيقه هاهنا؟! ويصلح هاهنا، ولا يصلح ها هنا؟!
أليسوا هم الذين يعملون عقولهم فى استخراج علل الأحكام، ويقيسون عليها؟!
أليسوا هم الذين يشرعون فى مساحة العفو التشريعى التى تركتها لهم عمدا حاكمية الله تعالى؟! وهم الذين ينشئون من الأحكام ما يوافق المصالح المرسلة؟!
أليسوا هم الذين يختارون من أقوال الفقهاء ما يحقق أعظم المصالح، ويتناسب مع الواقع الذى يعيشون فيه؟!
أليسوا هم، وهم، وهم؟؟!
إن حكم الله تعالى لن يسرى فى الحياة إلا إذا قام به البشر.. وإلا إذا تكفل به العلماء والمفكرون، وأعضاء مجالس التشريع تقنيا وتشريعا.. وكذلك الحكام تنفيذا وتطبيقا.
بل إن القيام بحاكمية البشر فى إطارها الصحيح هو واجب شرعى لا ينبغى للحكام وولاة الأمور أن يتخلوا عنه.. فلو تخلى أحد منهم عن هذه المسئولية الجسيمة لكان مقصرا فى نظر الشريعة.. ومفرطا فى حق الشعوب والأوطان المسلمة.
فهل يدرك إذن من يزعم عدم وجود حاكمية للبشر أنه بذلك الزعم لا يريد الخير بالشريعة.. ولا يريد الخير بالبشر أيضا؟!
ولو أننا أخذنا بقوله وصدقنا زعمه، فكيف يكون العمل فى المسائل والقضايا التى سكتت عنها الشريعة وهى كثيرة؟!
ومن أين لنا فيها بالحكم الشرعى؟!
أم يا ترى سيتم إهمالها؟!
بل من ذا الذى سيقوم بمهمة قياس المسائل الجديدة الحادثة على نظائرها مما له حكم وفيه نص فى شريعة الإسلام؟!
بالطبع لن يقوم بذلك سوى البشر من خلال ما أذن الله لهم فيه من حق فى التشريع.. وما وهبهم إياه من حاكمية.
ولولا حاكمية البشر لظلت كثير من الأمور المحدثة دون حكم شرعى.
فلولا هذه الحاكمية لما قال أحد بحرمة الحشيش بيعا وتعاطيا.. وكذلك الهيروين والمورفين «الأفيون».
ولولا حاكمية البشر ما حرم التدخين.
ولولاها ما قيست سرقة السيارة غيرها من المسروقات.. ولخرج علينا بعض المتفلتين من أحكام الشريعة، وقالوا: إن سرقة السيارة ليس فيها حد لأنها لم ترد فى كتاب ولا سنة، وليس لها حرز.. بل لم تكن السيارات موجودة أصلا عند نزول الوحى.. ونحن لا نقبل القياس لأنه نوع من حاكمية البشر.. ولا حاكمية إلا لله وحده.
فهل لأصحاب مثل هذا القول مسكة من عقل فضلا عن أن يكون فيهم بقية من دين؟! وعلى ذلك يمكننا أن نقرر بكل وضوح: إن الذين يريدون إلغاء حاكمية البشر على الإطلاق إنما يريدون تعطيل الشريعة وإلغاءها من الوجود.. تماما كالذين يريدون إقصاء حاكمية الله تعالى من حياة البشر.. فكلاهما.. أى حاكمية الله وحاكمية البشر.. لازم للآخر.. وكلاهما من لوازم بقاء الشريعة وحياة الدين.
حاكمية البشر تحفظ الشريعة من الامتهان، وتقى شريعة الإسلام من أن توجه لها سهام النقد والتجريح والاتهام بالخطأ والقصور حين يقع من المجتهدين أو القضاة أو الحكام نوع خطأ فى الاجتهاد أو التطبيق أو تنزيل أحكام الشريعة على الواقع.
وبذلك تبقى حاكمية الله فى موضعها اللائق معصومة مقدسة.
بعكس حاكمية البشر التى هى اجتهادهم فى العمل بحاكمية الله.. فهى محض اجتهاد بشرى قابل للخطأ والصواب.. وحينئذ لا تحمل حاكمية الله قصور البشر.. ولا تنسب إليها أخطاءهم.
والخلاصة أن حاكمية الخالق لا تعنى تكفير الخلائق، وأن حاكمية الله وحاكمية البشر التى أذن بها الله، صنوان وتوءمان لا يتضادان.