إسماعيل منتصر يكتب: شاهدت الراديو وسمعت التليفزيون!

إسماعيل منتصر يكتب: شاهدت الراديو وسمعت التليفزيون!إسماعيل منتصر يكتب: شاهدت الراديو وسمعت التليفزيون!

*سلايد رئيسى17-12-2019 | 13:30

ليس هناك خطأ فى العنوان.. صحيح أنه ضد المنطق فالإنسان لا يرى ما يسمع ولا يسمع ما يرى.. لكننى بالفعل سمعت الراديو كأننى أراه.. ورأيت التليفزيون كأننى أسمعه!.. كان الراديو بالنسبة لطفل مثلى مصدرًا للمتعة والخيال.. كنت أتظاهر بالنوم تنفيذًا لتعليمات أبى وأمى فأغمض عيناى بينما كل حواسى مستيقظة انتظارًا لإذاعة مسلسل ألف ليلة وليلة.. فإذا جاء وقت إذاعته وكان عادة فى ساعة متأخرة من الليل.. وجدت نفسى وكأننى واحدًا من أبطال المسلسل.. أشاهد ما يشاهدوه وأسمع ما يسمعوه.. وأواجه كل ما يواجهوه من مواقف ومخاطر! كانت كل برامج الإذاعة وليس مسلسل ألف ليلة وليلة وحده.. مصدرًا للمتعة والخيال.. التمثيليات الإذاعية.. البرامج الحوارية.. الأحاديث.. وحتى مباريات الكرة.. كلها تمتع من يسمعها وتمنح عقله تذكرة طيران مجانية يسافر بها فى عالم الخيال!.. عاصرت الراديو طفلاً وصبيًا عندما وصلت الإذاعة المصرية إلى قمة التألق فى فترة الخمسينيات والستينيات.. ولا أزال أحتفظ فى مخزن الذكريات بكل ما كنت أسمعه.. أو بمعنى أدق.. بكل ما كنت أراه.. كيف أنسى؟!.. كيف أنسى صوت محمد محمود شعبان أو "بابا شارو" الذى كان يجمع الأطفال حول أجهزة الراديو للاستماع لصوته الجذاب وهو يسرد حكاياته الممتعة وأوبريرتات الأطفال الساحرة مثل عيد ميلاد أبو الفصاد.. وكيف أنسى صوت أبلة فضيلة وأصوات الأطفال وهم يغنون فى مقدمة برنامجها.. يا ولاد يا ولاد.. توت توت.. تعالوا تعالوا.. علشان نسمع أبلة فضيلة.. راح تحكيلنا حكاية جديدة!.. وكيف أنسى برنامج إلى ربات البيوت الذى كانت تقدمه المبدعة سامية صادق.. والذى كان يخاطب ربات البيوت لكن الحقيقة أن أطفال البيوت وأولاد البيوت وشباب البيوت ورجال البيوت يسمعوه قبل ربات البيوت!.. وكيف أنسى المسلسل الإذاعى "عائلة مرزوق أفندى" الذى كان يشغل الخمس دقائق الأولى من برنامج إلى ربات البيوت والذى يعتبر أشهر وأطول مسلسل إذاعى حيث بدأت إذاعته فى عام 1959 ولم يتوقف حتى عام 2009. كان سر نجاح هذا المسلسل تحديدًا هو أنه كان يرصد المشاكل الاجتماعية التى يمر بها الشعب المصرى والتى كانت تختلف باختلاف الوقت والأحداث التى تمر بها مصر.. وكيف أنسى البرنامج الكوميدى الشهير "ساعة لقلبك" الذى يعتبر أحد أهم العلامات فى تاريخ الإذاعة المصرية.. كيف أنسى نجومه.. يوسف عوف وأمين الهنيدى وفؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولى وخيرية أحمد وجمالات زايد ومحمد أحمد المصرى (أبولمعة) وفؤاد راتب (الخواجة بيجو).. وكيف أنسى البرنامج الذى كان يحظى بأكبر عدد من المستمعين.. والذى كنا نتمنى جميعًا أن تجمعنا المصادفة بمذيعته آمال فهمى التى كنا نلتف حول أجهزة الراديو الساعة الواحدة والنصف ظهرًا من يوم الجمعة للاستماع لصوتها الجذاب وهى تحاور من تقابلهم على الناصية ونستمع إلى الأغانى التى كانوا يختاروها.. وكيف أنسى صوت سامية صادق التى كانت تبعث الأمل فى نفوس المرضى من خلال برنامجها الشهير.. حول الأسرة البيضاء.. وكيف أنسى صوت عبد البديع قمحاوى الذى كان يقدم برنامج محو الأمية.. والذى كان يسمعه الأميون والمتعلمون.. ويستمتعون جميعًا بالطريقة المميزة التى كان يقدم بها البرنامج ومقدمته الغنائية التى تقول: يلى اتحرمتوا من التعليم.. الفرصة لسه قدامكوا.. من غير ما تغرموا ولا مليم.. إذاعتنا جاية تعلمكوا.. كيف أنسى حتى مباريات الكرة التى كان يقدمها "بدر الدين" أشهر معلق كروى عرفته مصر.. كيف أنسى صوته وهو يذيع مباراة للأهلى والزمالك فى أواخر الخمسينيات.. وكان الأهلى متقدمًا فى هذه المباراة بهدفين لهدف.. عندما انفرد أحمد سليم مهاجم الزمالك بحارس مرمى الأهلى الأشهر عبد الجليل الذى يصد الكرة فنسمع بدر الدين يقول: برافو جيلا (دلع عبد الجليل) أنقذ فريقه من التعادل!.. وكيف أنسى الأوبريتات الغنائية البديعة التى كانت تحظى بشهرة كبيرة فى الأوساط الشعبية وأوساط الطبقات الوسطى والعليا مثل أوبريت السلطانية وأوبريت دوق الدندرمة وغيرهما.. ثم كيف أنسى الأعمال والبرامج والتمثيليات الإذاعية الجميلة مثل مجلة الهواء لفهمى عمر وفنجان شاى لسامية صادق وكلمتين وبس لفؤاد المهندس وتمثيلية سمارة التى لعب دور البطولة فيها النجمة سميحة أيوب والنجم محسن سرحان.. وكيف ننسى أصوات مثل طاهر أبو زيد وجلال معوض والشيخ محمد رفعت وفاروق شوشة ونادية صالح وعبد الرحيم الزرقانى وإيناس جوهر وغيرهم الكثير.. جدا!.. وقد لا يعرف كثيرون أن الإذاعة المصرية تم افتتاحها فى عام 1934 عندما استمع المصريون لأول مرة لصوت المذيع الشهير أحمد سالم يقول: هنا القاهرة.. ومنذ ذلك الحين ارتبط المصريون بالإذاعة ارتباطًا وثيقًا.. وقد ساعد على ذلك تفوق ونبوغ العاملين فى الإذاعة المصرية سواء الفنيين أو المذيعين والمخرجين ومعدى البرامج وغيرهم.. وهكذا كان جهاز الراديو.. مصدر السعادة والمتعة والخيال لكل المصريين.. وحتى بعد ظهور التليفزيون ظلت الإذاعة تحتل مكانها ومكانتها فى قلوب المصريين.. واستطاعت الإذاعة الاستمرار فى منافسة التليفزيون لعدة سنوات.. لكنها أخيرًا سقطت من فوق العرش!.. بعد حرب أكتوبر بسنوات قليلة بدأ المصريون ينصرفون عن الإذاعة ويعتمدون على التليفزيون.. ولم يعد أحد يسمع الإذاعة إلا أصحاب السيارات الخاصة الذين كانوا يستمعون إلى الإذاعة أثناء قيادة سياراتهم على سبيل التسلية.. والحقيقة أن الإذاعة نفسها ساهمت فى هذه الخسارة بعد أن بدأت برامجها تفتقد إلى الجاذبية ثم سيطرت عليها أجيال ساهمت فى تسطيح برامج الإذاعة والتركيز على البرامج التافهة الخالية من أى مضمون.. وفقدت محطات الإذاعة الوقورة كل وقارها فأصبحت تعتمد على برامج يقدمها شبان وشابات لهم قدرة عجيبة على كسر قواعد اللغة العربية والتحدث بميوعة ودلع.. والغريب أن كل محطات الإذاعة عدا محطة القرآن الكريم بالطبع أصبحت تقدم برامجها بهذا الأسلوب فأصبحت كلها متشابهة وأصبحت كلها كالطعام المسلوق.. لا طعم ولا رائحة!.. وهكذا انفرد التليفزيون بالعرش!.. كانت المرة الأولى التى يشاهد فيها المصريون التليفزيون المصرى فى عام 1960.. بالتحديد فى الساعة السابعة من مساء يوم 21 يوليو.. ولا أزال أذكر هذه اللحظات المثيرة التى توقفت فيها أنفاسنا ونحن نشاهد صورة العلم المصرى ونسمع السلام الوطنى فى أول بث للتليفزيون المصرى.. سمعت عن التليفزيون قبل عام من دخوله مصر.. ولم أكن أعرف أنه اختراع يشبه السينما بشكل مصغر.. وقد صور لى خيالى الساذج أن التليفزيون سيجسد لنا المناظر وأننا سنراها وكأننا أمام عرض مسرحى حى.. وكنت أتساءل وأسأل أصدقائى.. كيف سنتابع مباريات الكرة إذا كان فى مقدور المتفرجين على التليفزيون أن يمدوا أيديهم ليمنعوا الكرة من دخول المرمى (!!!) المهم أننا بدأنا عصر التليفزيون وقد قام والدى – رحمه الله – بشراء جهاز تليفزيون قبل بدء الإرسال بحوالى ثلاثة شهور.. فكنا نفتح التليفزيون ونشاهد الشاشة المليئة بآلاف النقط التى تتحرك بسرعة ونسمع صوت "الوش" ونجلس بالساعات نبحلق فى هذه النقط المتحركة ويقسم بعضنا بأنه شاهد أناس يظهرون على الشاشة (!!!) ولابد أن نعترف بأن التليفزيون فى بداياته كان ممتعًا وأن الناس كانت تتابعه من بدء الإرسال فى الرابعة عصرًا وحتى نهاية الإرسال فى الحادية عشرة مساءً.. وكان من المألوف أن يجتمع كل الجيران فى البيت الذى يوجد فيه تليفزيون ويتابعون برامجه.. حتى انتشر التليفزيون وأصبح فى مقدور الجميع امتلاكه.. وقد استمرت سنوات المتعة لفترة طويلة ثم بدأت الاختراعات تقفز كالعفاريت.. التليفزيون الملون.. الفيديو.. القنوات المتعددة ثم ظهر "الدش" وتطورت إمكاناته بشكل مذهل.. وأصبح فى مقدور المشاهد أن يتابع مئات القنوات.. وليس غريبًا أننا أصبحنا نمضى وقتًا أطول فى تقليب القنوات الفضائية.. أكثر من مشاهدة برنامج أو فيلم أو مسلسل تليفزيونى.. ولأن معظم البرامج التليفزيونية لا تحتاج إلى متابعة بصرية.. ولأن معظم الأفلام والمسلسلات المعروضة معادة وسبق إذاعتها عشرات المرات فقد أصبح من السهل متابعة التليفزيون بالسمع دون الحاجة للرؤية والمشاهدة. وهكذا أصبحت أسمع التليفزيون.. وهكذا كنت أشاهد الراديو!..
أضف تعليق

خلخلة الشعوب و تفكيك الدول

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2