ما تشهده المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط في الفترة الحالية هو أكبر معركة من معارك «خلخلة الشعوب».
فحروب الشائعات، وتدمير الثقة بين الأنظمة والشعوب، وعملية استهداف مؤسسات الدولة، وتدمير الثوابت المجتمعية، ونشر الفكر المتطرف، وتدمير الهوية هي وسائل تلك الحرب التي تسري داخل المجتمعات لتقطع أوصالها.
كما أن عمليات تغذية النزاعات العرقية والطائفية، وعدم الاهتمام بالدولة الوطنية، هي أحد سبل التحرك فى تلك المعركة.
فعقب إنهاء الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة بدأت عمليات التوجه للحروب غير التقليدية، فالتقطت أجهزة استخبارات الدول الكبرى الخيط منتهجة منهج الحروب النفسية والثقافية والإعلامية.
بدأت عمليات تطحن خلالها الشعوب وتعلّب العقول المستهدفة من أجل تحقيق النصر دون خسائر فى الذخائر أو المعدات والأرواح؛ لكن على الجانب الآخر المستهدف تهدم الدول وتخرّبها شعوبها بأيديهم.
الأمر الذى جعل شكل الحروب يتغير ومسمياتها تختلف من مرحلة إلى أخرى، حاملة معها أجيال الحروب مطلقة عليها أسماءً مثل، حروب الجيل الرابع، والحروب اللا متماثلة، وغيرها.
المشهد لم يكن بعيدًا عن مشروع «مونارك» للتحكم فى العقول بل كان امتدادًا له وهو ما عكفت عليه عناصر أجهزة الاستخبارات لدى تلك الدول، وعملت الوحدات الخاصة على الاستعانة بالباحثين والمتخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس السلوكي من أجل السيطرة على الأدمغة.
الأمر الذي حذر منه الكاتب الأمريكي «هربرت ايرفينج شيلر» في كتابه «المتلاعبون بالعقول» فى أوائل السبعينيات من القرن الماضي.
لقد استخدمت عمليات خلخلة الشعوب لأجل تدميرها من الداخل فى الوقت ذاته يتم إضعاف القوة العسكرية حال ضعف المساندة الشعبية لها.
لقد كانت ولا تزال الحروب النفسية هي أحد مسارات معارك تدمير الشعوب من الداخل للوصول إلى عمليات هدم الدول دون إطلاق رصاصة واحدة فى عمليات نوعية تستهدف العقول والسلوكيات وتؤثر على حالة الوعي لدى الشعوب المستهدفة.
فخلال الحرب العالمية الثانية كانت الرسائل الأمريكية إحدى أدوات الحرب النفسية ، وقد تضمنت منشورات دعائية ومواد ذات صلة أنشأها فرع الحرب النفسية .
تم استخدام «الرصاص الورقي» من خلال فرع الحرب النفسية (PWB)، تحت قيادة الجنرال دوجلاس ماك آرثر، فى ساحة جنوب غرب المحيط الهادئ، استخدمت منظمة PWB منشورات ضد الجنود اليابانيين الذين يحتلون الفلبين ثم لاحقًا تجاه الجنود والمدنيين اليابانيين فى اليابان ، تلقى أفراد عسكريون مختارون تم تعيينهم فى برنامج العمل والميزانية تدريبًا على الحرب النفسية .
تم تدريب «ج. روبرت ساندبيرج وفرانك إم. هالجرين» وكلاهما من لينكولن ، نبراسكا ، على العمل مع أطقم قاذفات الطائرات وإسقاط المنشورات فوق المناطق المستهدفة فى الفلبين و اليابان .
ولأن المنطقة العربية من المناطق المستهدفة نظرًا لموقعها الاستراتيجي وحجم الموارد التي تمتلكها؛ كانت أحد الأهداف المهمة لتلك الحروب ومسرحًا من مسارح عملياتها.
بل إنها كانت ولا تزال مسرح العمليات الأهم لتلك الحروب، رغم انتقالها إلى مناطق أخرى مثل بعض دول شرق آسيا وكذا بعض الدول الإفريقية، مستهدفة السيطرة على مواردها بإشعال النزاعات ودعم الجماعات المسلحة فيها.
إنها أكبر عملية تأثير على الشعوب من الداخل مستهدفة خلخلتها نظرًا للتكلفة الباهظة للحروب التقليدية.
ولأن خلخلة الشعوب من الداخل تعتمد على عمليات التأثير على الوعي وكذا العقل الجمعي للشعوب، كان الإعلام إحدى الوسائل المهمة في تلك المعركة وقد استخدم سلاح الإعلام فى نشر الأخبار الكاذبة وترويج الشائعات والتأثير على الروح المعنوية للشعوب.
وقد تم استهداف المنطقة العربية عقب حركات التحرر في الخمسينيات من القرن الماضي، ثم ارتفعت وتيرة تلك المعركة باتجاه الدولة المصرية لكنها فشلت نظرًا لالتفاف الشعب خلف قيادته ومشروعه الوطني، وظل هذا الأمر حجر عثرة أمام مشروع إعادة تقسيم المنطقة من جديد لكن المحاولات لم تتوقف.
ولأن مصر هي دائمًا بمثابة رمانة الميزان وعمود الخيمة للمنطقة العربية كانت ولا تزال هدفًا أساسيًا لتلك الحروب ويبقى السلاح الأقوى فى المواجهة هو وعي الشعب وإدراكه لتفاصيل ما يحدث.
فعقب يونيو 67 عمدت آلة الحرب النفسية الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية على زرع مجموعة من المفاهيم وتصدير حالة نفسية خطط لها بحنكة شديدة للسيطرة على العقل الجمعي للمصريين.
واستهدف ذلك العمل ترسيخ مجموعة من العبارات منها أن الهزيمة جاءت نتيجة فساد الحكم، لإفقاد الشعب ثقته فى قيادته.. فقد كان الرئيس جمال عبدالناصر فى ذلك الوقت هدفًا استراتيجيًا لتلك المعارك، نظرًا للالتفاف الشعبي حوله، وثقته فى قيادته، وفشلت القوى الغربية و إسرائيل فى تلك المهمة.
فقد قَوي اصطفاف الشعب خلف قواته المسلحة وزعيم الأمة مطالبًا إياها بعدم التنحي والاستمرار فى الحكم حتى يتم تحرير الأرض.
انتقل العمل بعد ذلك عقب تولي الرئيس السادات حكم البلاد فتم التشكيك فى قدرته على قيادة الدولة، ثم بعد ذلك التشكيك فى قدرته على خوض الحرب والانتصار.
مُورست الضغوط على الدولة المصرية خلال تلك الفترة لكن الشعب كان أكثر صلابة والقيادة أكثر حكمة وقدرة على تحديد اتخاذ القرار المناسب فى الوقت المناسب.
فكان قرار العبور مفاجأة لمحركي أدوات الحرب النفسية بل إن الدولة المصرية استطاعت أن تدير أكبر عملية خداع استراتيجي باحترافية فى ذلك الوقت، وكان لاصطفاف الشعب ووحدته دور مهم فى معركة أكتوبر وتحقيق النصر واسترداد الأرض.
لقد كانت قدرة الشعب المصري على مواجهة محاولات خلخلته من الداخل هي حجر الزاوية فى ذلك النصر.
فقد اصطف الشعب خلف قواته المسلحة لـ 6 سنوات عاش خلالها قسوة اقتصاد الحرب وندرة السلع ومواجهة الأزمات، والتشكيك فى قدرة الجيش المصري على العبور؛ لكن الشعب كان مؤمنًا أن أبناءه فى القوات المسلحة هم من سيأتون بالنصر.
ولأن عملية خلخلة الشعوب تعتمد على أساليب الحرب النفسية والتي تأتي ضمن حروب الجيل الرابع التي تشمل حروب الجيوش النظامية فى مواجهة العناصر الإرهابية، أو ما أطلق عليها بعد ذلك الحروب .
اللا متماثلة، استهدفت عملية خلخلة الشعوب مزيدًا من نشر الشائعات والأخبار المغلوطة فى ظل تزامن تلك الحروب مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي.
وقد استخدمت الولايات المتحدة وسائل التواصل الاجتماعي فى حربها ضد العراق خاصة مع ظهور موقع فيس بوك عام 2003 فى المنطقة العربية، واستهدفت الشعب العراقي بعدة رسائل كما استهدفت عددًا كبيرًا من ضباط الجيش بمجموعة رسائل أخرى من أجل التخلي عن مساندة الرئيس العراقي فى ذلك الوقت صدام حسين .
ليسقط النظام العراقي وتنهار معه الدولة بعد أن كان مخطط خلخلة الشعوب قد أتى ثماره بتأجيج نزعة الطائفية فى العراق، والذي كان مؤهلاً بقوة لذلك خلال تلك المرحلة.
كما مُنحت التنظيمات الإرهابية فرصة للتمركز فى عدد من المحافظات الشمالية بالعراق، وسط غياب الدولة الوطنية ومواجهات مسلحة بين القوات الأمريكية وبقايا الموالين للرئيس صدام حسين من الجيش العراقي، لتغرق العراق فى حالة من عدم الاستقرار والفوضى من 2003 لتعلن أمريكا الانسحاب الجزئي من العراق فى ديسمبر 2019 وأوائل عام 2020 بعد أن أغرقت العراق فى الطائفية والنزاعات المسلحة 17 عامًا.
كما استهدفت عملية خلخلة الشعوب عقب، أحداث 2011 فى المنطقة العربية، عددًا من الدول سبقتها عملية تجهيز لبعض تلك الدول، وكان الهدف إعادة تقسيم المنطقة عقب إشعال الفوضى، بعد فشل عملية نقل النموذج اللبناني – أو ما أطلق عليه بنموذج اللبننة - الذي يعتمد على المحاصصة وفق الطوائف والمذهبيات.
ولأن النموذج اقتصر على لبنان ولم تنجح عملية نقله إلى باقي الدول فتم العمل على الشعوب مستغلة الأزمات التي ضربت عددًا من الدول.
لتتم عملية خلخلة الشعوب بدءًا من عام 2004 عقب سقوط العراق، لتبدأ عملية التشكيك فى الأنظمة الحاكمة وفسادها وتدمير الثقة فى مؤسسات الدولة المختلفة ونشر ثقافة الفوضى تحت مسمى الفوضى الخلاقة.
عقب أحداث 2011 وبعد انهيار عدد من الدول الوطنية وتفككها على أيدي شعوبها، بدأ التحرك بقوة باتجاه إثراء ودعم النزعات الطائفية والعرقية. ومع انهيار الجيوش وانتشار الأسلحة لدى الأفراد خارج إطار المؤسسات المخول لها حمل السلاح، تقطعت أوصال الجيوش الوطنية مع تقطع أوصال الدول ونجحت عملية خلخلة الشعوب فى تدمير الأوطان.
فانهارت العديد من دول المنطقة بعد أن دخل البعض منها فى نزاعات مسلحة داخلية مثل ليبيا والسودان واليمن وسوريا؛ أو انهارت اقتصاديًا مثل لبنان، أو وقعت فريسة للتنظيمات الإرهابية مثل العراق.
لكن الدولة المصرية استطاعت أن تنجو من ذلك الآتون المهلك سواء الفوضى أو تدمير الدولة الوطنية.
فما حدث فى 2011 من قيام المجلس العسكري بإفشال محاولات تنظيم الإخوان لإدخال الجيش فى العملية السياسية (التصويت فى الانتخابات) وهو ما رفضه المجلس العسكري على لسان المشير محمد حسين طنطاوي مؤكدًا أن الجيش المصري دوره هو حماية الدولة والحفاظ على مقدراتها وحفظ الأمن القومي المصري.
وسرعان ما أدرك الشعب المصري خطورة المسار الذي اتخذه ذلك التنظيم الإرهابي للدولة، متجهًا بها نحو اللا دولة، لأنه لا يؤمن بالدولة الوطنية من الأساس ويعتبر الوطن «حفنة من تراب عفن» كما جاء على لسان سيد قطب.
فالتفَّ الشعب المصري حول دولته الوطنية واستردها من أيدي التنظيم الإرهابي وعزل الرئيس محمد مرسي.
بدأت بعد ذلك عقب 30 يونيو 2013 عملية إعادة بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها وتثبيت أركانها. هنا اتخذت قوى الشر منهجًا هجينًا ل خلخلة الشعوب باستهداف الدولة المصرية من خلال نشر الشائعات والتشكيك فى كل المسارات التي يتم العمل عليها.
كما تم تغذية التنظيمات الإرهابية لإحداث حالة من عدم الاستقرار والأمن داخل الدولة.
لكن المصريين كانوا أكثر فِطنة لما يحاك لوطنهم فى تلك المرحلة الدقيقة ولم يلتفتوا لتلك الشائعات واصطفوا خلف القيادة فى معركة لم تحقق فيها أي دولة انتصارًا حقيقيًا سوى الدولة المصرية معركة الحرب على الإرهاب والتي لولا اصطفاف الشعب خلف قيادته وقواته المسلحة والشرطة لما تحقق هذا النصر.
ثم واصل الشعب المصري بناء دولته واستكمال مشروعه الوطني الأمر الذي جعله هدفًا استراتيجيًا مرة أخرى لعمليات الخلخلة من الداخل، من خلال استغلال أثر الأزمات الاقتصادية على المواطن ومحاولات التشكيك الدائم فى أثر ما تم من إنجاز والتشكيك في المسارات التي تعمل عليها الدولة بهدف التأثير على الثقة بين الشعب والقيادة وكذا ثقة الشعب فى مؤسسات الدولة.
الأمر الذي يستلزم أن نعي جميعًا أهمية الاصطفاف حول الوطن والحفاظ على المشروع الوطني ومؤسسات الدولة والثقة في القيادة.
فالتحديات ليست بالقليلة والتوترات على كل المحاور الاستراتيجية تزداد حِدَّتها.