لم يكن حديثي مع الشيخ حسن خلف حديثًا عاديًا لكنه كان بمثابة مفتاح لكنز من البطولة التي سطّرها أبناء سيناء على الأرض المباركة.
كانت نصيحة اللواء فؤاد حسين لي أن أدوّن كل ما أسمعه من شيخ المجاهدين أو كما كان يلقبه (النمر الأسود) وبالفعل حرصت على ذلك، فكل كلمة قالها لي الشيخ حسن خلف شيخ قبيلة السواركة و شيخ المجاهدين وعضو منظمة سيناء العربية، كان بداية طريق للبحث عن تفاصيل الدور البطولي لأبناء سيناء خاصة بعد يونيو 1967، وخلال حرب أكتوبر 1973، وعقب أحداث يناير 2011 وما تلاها من مواجهات مع التنظيمات التكفيرية الإرهابية، فى معركة من أصعب المعارك.
استكملت حديثي مع الشيخ حسن خلف الذي قال تفاصيل العمليات التي قمنا بها ضد قوات العدو ستجدها فى سجلات القوات المسلحة موثقة، لكن رغم ما قمنا به وما قدمه الأبطال فى معارك الاستنزاف وأكتوبر 1973، إلا أن الدولة لم تلتفت إلى سيناء أو تعطيها ما تستحقه من الاهتمام (كان ذلك فى الأول من أبريل عام 2009) وأتمنى أن تتغير نظرة الحكومة المصرية ل سيناء خلال الفترة المقبلة خاصة شمال سيناء.
توقف الشيخ المجاهد قليلاً عن الحديث ثم عاد يقول لي « العريش فى يونيو 67 لم تسقط فى اليوم الأول أو الثاني أو الثالث للمعركة بل ظلت صامدة بأبنائها والأبطال، فقد قصفت إسرائيل المدينة بالصواريخ بعد حصارهم لها لمدة 3 أيام ولم تسقط، كانت مقاومة أبناء العريش قوية ووقف أكبر عدد من السكان مصطفين مع الشرطة، وعدد من قوات الجيش كان لا يزال بالعريش.. فتحت الشرطة مخازن السلاح للدفاع الشعبي لصد اليهود وتصدى أبناء العريش لعملية الإبرار الجوي المظلي للقوات الإسرائيلية بالعريش، وسقط عدد كبير من القوات المظلية الإسرائيلية فى هذه العملية، وامتلأ ميدان «المالح» بجثث القتلى من قوات العدو وفى يوم الأربعاء 7 يونيو 67 وجه قائد المنطقة الإسرائيلي القوات المحاصرة للمدينة تعليماته بتشديد الحصار وضرب بعض الأحياء بالمدفعية.
كما طلب من بعض قواته اقتحام المدينة من اتجاه الغرب وإخراج الأهالي من المنازل، وقتل عدد من كبار السن والسيدات فى الشارع لإحداث حالة من الانهيار العصبي للمواطنين، إلا أن أبناء العريش ومعهم ما تبقى من قوات الجيش والشرطة ظلوا صامدين، وكان بعض أبطال المقاومة ينتقلون من بيت إلى آخر واستطاعوا قتل قائد قوة اقتحام العريش، وذلك صباح يوم الخميس 8 يونيو 1967، الأمر الذي جعل القوات الإسرائيلية تزيد من قوة الحصار والقصف للمدينة، لكن فى يوم الجمعة 9 يونيو أعلن الرئيس جمال عبد الناصر التنحي وقامت القوات الإسرائيلية المحاصرة للمدينة بإذاعة خطاب التنحي عبر مكبرات الصوت، مما أثر سلبًا على الروح المعنوية لدى المقاتلين وسقطت المدينة فى اليوم التالي 10 يونيو 67 وتم تهريب البطل «قطامش» الذي قتل قائد قوة الاقتحام الإسرائيلي؛ حيث نُقل البطل إلى حي الفواخرية ثم تم تهريبه إلى القاهرة.
واصل الشيخ حسن حديثه قائلاً: بعد أسبوعين من سقوط المدينة تحت الاحتلال جاء وفد إسرائيلي من تل أبيب إلى العريش لزيارة موقع مقتل قائد القوة الإسرائيلية.
رفض أهالي العريش الحديث أو التعامل مع العدو الإسرائيلي، وبدأوا تكوين مجموعات كانت على اتصال بالمخابرات الحربية المصرية.
أضرب المدرسون والطلاب عن الدراسة فى مدارس الاحتلال، وتم عمل مجلة حائط فى مدرسة العريش تصدر كل 15 يومًا.
قام الطلاب بوضع مسامير فى قطع خشبية ووضعها فى طريق قوافل السيارات الإسرائيلية لتعطيلها.
وقامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بتحويل مبنى المحافظة إلى إدارة للأحوال المدنية، كما حولوا دار الشبان المسلمين إلى مديرية للتربية والتعليم وأتوا بشخص راسب إعدادية وقاموا بتعيينه مدير مدرسة الرفايعة الثانوية.
وقاموا بإعادة الامتحانات وفق المناهج الإسرائيلية فرفض المدرسون والأهالي ذلك، كما رفض المدرسون المصريون تدريس المناهج الإسرائيلية.
توقف الشيخ حسن خلف، ثم قال: يا ريت تزور الأستاذ «كامل الشعراوي» ثم استكمل قائلاً: لقد حاولت إسرائيل تغيير هوية سيناء وأبنائها كما حاولت البقاء فى الأرض التي اغتصبتها، لكن كل أبناء سيناء كانوا مع القوات المسلحة لهم بالمرصاد حتى لا تهنأ على لحظة واحدة فى سيناء فقذف الله فى قلوبهم الرعب.
جاء الحاكم العسكري الإسرائيلي إلى العريش لإحداث حالة من الخوف فى النفوس، بعد أن حاول الاحتلال استمالة أبناء سيناء بتقديم الود لهم، فبعد أن قام الأستاذ محمود عطية الشريف هو وزملاؤه برفض تدريس المناهج الإسرائيلية وقام بتمزيق الكتب الدراسية الإسرائيلية وداسها بحذائه وتم القبض عليه والتنكيل به من قبل «عزرائيل» الحاكم العسكري الإسرائيلي كما كان يُطلق عليه.
فى الوقت نفسه، قام الأبطال باستقدام نسخة من الكتب الدراسية المصرية وتهريبها فى أحد خزانات نقل المياه ليتم التدريس منها، لقد كانت تلك إحدى معارك الإرادة المصرية ورفض الاحتلال، كان الطلاب ينسخون الكتب الدراسية وفق مناهج التعليم المصري ويتبادلونها وأذكر الأستاذ حمدي عزازي عبد الحي الذي كان يسكن بجوار مسجد الصحابة بشارع أسيوط والأستاذ «كامل الشعراوي» كانا يقودان هذه المهمة.
لقد كانت محافظة شمال سيناء أكثر محافظة حصلت على أنواط الشجاعة من الدولة، لك أن تتخيل فى حصة العبري رفض الطلاب الحضور وتم استدعاء الناظر للإدارة المدنية وإيداعه فى السجن، وفى اليوم الثالث تم القبض على 90% من الطلاب بالمدرسة الثانوية لكن عندما لم يجد الحاكم العسكري نتيجة لذلك وتدخل الصليب الأحمر الدولي مطالبًا بالإفراج عنهم بعد تقديم الحكومة المصرية شكوى له بذلك، تم الإفراج عنهم.
ثم يواصل الشيخ حسن خلف حديثه معي، الذي امتد لأكثر من ثلاث ساعات، قائلاً: لقد ذكر اللواء «فؤاد الحجاوي» وكان مديرًا لمكتب اتصال؛ وكان برتبة الملازم أول خلال يونيو 67 ضمن قوات الصاعقة، أنه لم يجد متسللاً واحدًا من أبناء سيناء.. جميعهم من المدنيين قاموا بالمقاومة للمحتل الإسرائيلي، منهم من انضم إلى منظمة سيناء العربية ومنهم من انضم إلى منظمات مقاومة أخرى لم تسجل.
لقد حاول «حاييم» قائد الشرطة الإسرائيلية فى شمال سيناء إثناء المدرسين عن موقفهم من تدريس المناهج الإسرائيلية، لكنهم جميعًا رفضوا وطالبوا بتدريس المناهج المصرية لأن سيناء أرض مصرية وأبناؤها مصريون.
وأضاف شيخ المجاهدين: يمكن أن تتحدث مع الأستاذ «مسلم عبد الحي الشوربجي» وكان مدرس رياضيات يروي لك تفاصيل أكثر مع الأستاذ «كامل الشعراوي». فقد تم اعتقال الأول وظل فى السجون الإسرائيلية حتى عملية تبادل الأسرى عام 1974.
هناك تفاصيل كثيرة عن العمليات منها ما لم يسمح بالحديث عنها بعد لكن لك أن تتخيل أننا كنا ننقل صواريخ الكاتيوشا التي نضرب بها معسكرات ومناطق تمركز العدو فى سيناء عبر الجِمال التي كانت تعبر القناة وتسير مسافة 50 كم فى الليلة الواحدة ولم تكتشف إسرائيل ذلك.
لقد كنت فى الصف الثاني الثانوي عندما انضممت إلى منظمة سيناء العربية، وقمنا بضرب مقر القيادة العسكرية الإسرائيلية فى العريش، ومهبط طائرات الهليكوبتر فى مستوطنة مسفك معسكر بالوظة للإمداد وتم قصفه عدة مرات فى كل مرة بـ 24 قذيفة كاتيوشا، وتدمير اللواء 190 مدرع الإسرائيلي، بالإضافة إلى رصد كل تحركات وتمركزات قوات العدو ونقاطه الحصينة فى سيناء.
كانت هناك أعداد كبيرة من مختلف أنحاء سيناء غادروا إلى وادي النيل، قاصدين المخابرات الحربية، وقد بلغ عددهم 750 شابًا وكنت واحدًا منهم، وطلبنا بأن نقدم أى مساعدة ضد الاحتلال، فطلبت منا القيادة أن نساعدهم بتقديم المعلومات الوافية عن أعداد وتمركز قوات الاحتلال.
فى إحدى العمليات عبرت وزميل لي على جَمل واحد كان الحمل ثقيلاً ولم نستطع أن نقطع الخمسين كيلو مترًا فى الوقت المحدد لذلك فى الليلة الأولى، وقامت طائرة هليكوبتر بتمشيط المنطقة واكتشف أمرنا ووقعنا فى الأسر.
حاولت المخابرات الحربية المصرية مع الصليب الأحمر مخاطبة العدو على أن يعاملوننا معاملة أسرى حرب، فرفضت إسرائيل وتم تحديد محكمة عسكرية لنا فى صباح ذلك اليوم عندما دخل القضاة ووجدوا القذائف المضبوطة معنا على المنصة، أمر رئيس المحكمة بإخراج جميع المستمعين من القاعة وأمر بإخراج مندوب الصليب الأحمر الدولي أيضًا، الذي أصر على محاكمتنا باعتبارنا أجانب وحدثت مشادة بين مندوب الصليب الأحمر ورئيس المحكمة، وأخرجوا الأول عنوة ولم يبقوا إلا على مندوب هيئة الإذاعة البريطانية الذي كان له الفضل فى نشر تفاصيل المحاكمة.
وقف المدعي العام الإسرائيلي لـيتلو قرار الاتهام، وهي ثلاث تهم: حيازة الأسلحة الفتاكة لقتل النساء والأطفال الذين لم يعرفوا من الدنيا سوى الابتسامة، التهمة الثانية عبور القناة بدون إذن من الجيش الإسرائيلي، التهمة الثالثة التدريب على السلاح فى دولة معادية (مصر).
وحاول محامي الدفاع أن يخف من التهمة فقال إننا عبرنا القناة مُجبرين.
وكان ردي على رئيس المحكمة أننا عبرنا القناة بإرادتنا وسنعبرها كلما أتيح لنا ذلك، ثم وجهت حديثي إلى هيئة المحلفين قائلاً: «السادة هيئة المحلفين ورد على لسان المدعي العام أننا قمنا بجلب هذه الأسلحة الفتاكة لقتل النساء والأطفال الذين لم يعرفوا من الدنيا سوى الابتسامة، وكذا عبور القناة بدون إذن الجيش الإسرائيلي ، فعلى حد علمي أنه لا يوجد فى سيناء من إسرائيل نساء أو أطفال سوى المجندات فى الجيش الإسرائيلي.
وهل الجيش الإسرائيلي حصل على إذن مسبق عندما عبرت طائراته القناة ودمرت مدرسة بحر البقر فقتل الأطفال الذين لم يعرفوا من هذه الدنيا سوى الابتسامة؟!».
عندها صرخ القاضي فى وجهي بكلمة عبرية لم أفهمها فقال لي المترجم «إخرس»، ثم خرج القضاة الإسرائيليون فى غرفة المداولة ثم جاء الحكم بالسجن فى التهم الثلاث على التوالي، 99 سنة، 25 سنة، 25 سنة، بإجمالي عدد سنوات 149 عامًا.
بعدها نجحت المخابرات العامة المصرية فى إلقاء القبض على جاسوس إسرائيلي اسمه «باروخ زكي مزراحي» دخل إلى مصر بجواز سفر مغربي، جن جنون إسرائيل ضغطت على كل المحافل الدولية للإفراج عن الجاسوس وكان رد مصر (اعطوني أبنائي) مطالبة بالإفراج عن المصريين فى السجون الإسرائيلية مقابل الإفراج عن «باروخ مزراحي».
تذكرت تفاصيل تلك الواقعة وكنت لم أنشرها بل دوّنتها فى «نوتتي» الشخصية واحترمت وعدي له بألا أنشر إلا ما يحدده هو لي، وهذا واجب الصحفي أن يحترم كل كلمة أو وعد بينه وبين مصدر معلومته خاصة إذا كانت لها علاقة بالدولة الوطنية.
وعندما التقيته على هامش الندوة التثقيفية 28 فى 28 أبريل 2018 وبعد روايته لتفاصيل الواقعة قال لي: هل ما زلت محتفظًا بما كتبت فى لقائنا السابق؟.
قلت له: نعم.
وكنت فى ذلك اليوم أنتظر الاستراحة بعد أن سمعت كلمته أمام الحضور، فقد كانت تغمرني سعادة غير مسبوقة خاصة أنه تحدث بعد حديث لأحد الشخصيات عن سيناء ومعركة التحرير، لكن حديث الشيخ حسن خلف رحمه الله كان حديثًا مختلفًا لأنه يخرج من القلب، ويرصد وقائع وأحداثًا وبطولات.
سلمت عليه فى ذلك اليوم ووعدته بزيارة يحدثني فيها عما يحدث فى سيناء بعد 2011، ووعدته بأن «نوتتي» لا يزال بها مساحة تنتظر العديد من بطولات الأبطال من أبناء سيناء .
رحم الله شيخ المجاهدين وأمدَّ الله فى عمر من بقي منهم على قيد الحياة من أبناء سيناء، فلا يزال هناك الكثير من التفاصيل سيأتي يوم ما لنكشف عنها الستار وتروي فصولاً من البطولة.