أواخر ديسمبر 2016 كنت ضمن مجموعة من الزملاء الصحفيين والإعلاميين الذين زاروا الحدود الغربية للبلاد مع اللواء أركان حرب باسم رياض، قائد قوات حرس الحدود في ذلك الوقت، كانت الأوضاع في سيناء (حرب المواجهة مع الإرهاب) تزداد حدةً، وقوى الشر كانت تحاول بقوة الدفع بالمزيد من العناصر بعد أن فشلت في أكبر محاولة لها للانقضاض على الدولة المصرية في الأول من يوليو 2015 في عملية نوعية دفعت فيها قوى الشر بأكثر من 300 عنصر من العناصر التكفيرية من أجل إعلان ما أسموه في ذلك الوقت بـ «ولاية سيناء».
وعندما انتصرت مصر على ذلك المخطط وواجه الأبطال في سيناء ببسالة تلك العناصر وقضت عليهم وأجهضت حلم قوى الشر والإرهاب في اقتطاع ولو جزء بسيط من سيناء يتم من خلاله تدويل القضية عالميًا وهو ما كان مرسومًا ضمن سيناريوهات إدارة العملية.
فقد تم استهداف أكثر من 19 كمينًا ونقطة ارتكاز فى شمال سيناء من قِبل العناصر الإرهابية، وحاولت أدوات إعلام قوى الشر فى ذلك اليوم استهداف الحالة المعنوية لدى الشعب المصري طوال اليوم، ليخرج بيان القوات المسلحة ويجهض المخطط ويكشف الحقائق بالصور ويروي بطولات الأبطال من القوات المسلحة فى التصدي لمخطط إسقاط الدولة ويعلن مصرع أكثر من 70 عنصرًا تكفيريًا، وفى اليوم التالي يقوم الرئيس عبد الفتاح السيسي بزيارة سيناء وهو يرتدي الزي العسكري ويلتقي بالأبطال من المقاتلين فى رسالة قوية للجميع، أن هذا الوطن لن يسقط ما دام له درع وسيف.
لم يكن ما يحدث فى سيناء منفصلاً عما كان يحدث على كل المحاور الاستراتيجية الثلاثة الأخرى، فالهدف كان هو جوهرة التاج، ولا يزال التحرك مستمرًا لكن بشكل مختلف قد نتعرض له فى مقالات قادمة.
أعود إلى ما بدأت به سطور هذا المقال لأستكمل التعرف على كنز مصر الحقيقي الذي لولاه ما كنا هنا، لأن دماء الشهداء هي التى أعادت لنا الأمن والاستقرار ومنحتنا الفرصة لكي نبني وننمي هذه الأرض الطيبة.
لقد كان فشل ما حدث في يوليو 2015 ليس بالأمر الهين على القوى الممولة والداعمة لتلك العناصر التكفيرية، فحاولت نقل تحركاتها إلى مناطق أخرى لتخفيف الضغط على عناصرها خلال مواجهاتها مع القوات المسلحة في سيناء.
فقامت بتنفيذ عدد من العمليات فى بعض المحافظات كلفت بها العناصر الموالية من الذئاب المنفردة.
كما قامت قوى الشر بالضغط على الاتجاه الاستراتيجي الغربي فى ظل حالة الانفلات الذي كانت تعاني منه ليبيا نتيجة تدخل قوات الناتو التي منحت العناصر الإرهابية السلاح لإسقاط النظام فأسقطت الدولة الليبية فى أتون الفوضى.
فى ذلك الوقت كانت عمليات محاولات نقل مزيد من السلاح للعناصر الإرهابية داخل مصر لا تتوقف، ولولا يقظة الأبطال من رجال حرس الحدود الذين أخذوا على عاتقهم حماية حدود الوطن وما قدموه من تضحيات، لأٌغرقت مصر بترسانة ضخمة من الأسلحة يدفع بها إلى أيدي عناصر التنظيمات الإرهابية لمواجهة مؤسسات الدولة الوطنية وإدخالها فى الفوضى.
كانت زيارتنا للحدود الغربية عقب إحباط قوات حرس الحدود بالتعاون مع القوات الجوية لعدد من عمليات تهريب الأسلحة من قِبل العناصر الإرهابية لإدخالها إلى مصر، وقد قامت القوات الجوية بتدمير عدد كبير من سيارات الدفع الرباعي التي حاولت التسلل والدخول إلى منطقة بحر الرمال، وتم القبض على عدد آخر عندما تشاهد حجم الأسلحة المعروضة من المضبوطات ترى أبعاد الحرب التي تدور والقوى الداعمة لتلك العناصر.
كانت قوات حرس الحدود لهم بالمرصاد، فقد كانت زيارتنا خلال فترة الشتاء وما أدراك ما هو فصل الشتاء على الحدود الغربية، درجات الحرارة تنخفض ليلاً إلى ما دون الصفر فتصل فى بعض النقاط الحدودية إلى 15 تحت الصفر، لكن ذلك لم يعق عيون هذا الوطن الساهرة على حمايته من ضباط وضباط صف وجنود من القيام بواجبهم، والتصدي لكل من تسوّل له نفسه المساس بهذا الوطن إنهم أسود تحمي الحدود.
شاهدت فى تلك الزيارة من خلال المعروضات أسلحة متنوعة وذخائر وصواريخ «كورنيد»، إنها حرب تقودها دول، أما هؤلاء ممن عميت بصائرهم وغابت عقولهم فهم قطع للشطرنج يحركها صنّاعها وممولوها، لتدمير الأوطان.
--التنظيمات الإرهابية رصدت 2 مليون دولار لمن يقتل العقيد محمد إدريس كما أنه لم يكن يومًا يهاب الموت بل كانت الشهادة من أجل الوطن هي مُناه ودعوته التي لم يتوقف عن ترديدها لحظة منذ عرفته ....
رأينا قصاصو الأثر وهم يتابعون أي تحرك على الأرض ويرسمون تفاصيله وتفاصيل شخصية ذاك العنصر حتى إنهم يحددون عمره ووزنه ورجل كان أو امرأة، شابًا أو فتاة، إنها احترافية قصاصي الأثر.
كان اليوم الأول للزيارة مزدحمًا بالأحداث وفي نهايته وخلال حوار دار بيني وبين أحد أبطال حرس الحدود فى المنطقة الغربية العسكرية، قلت له، تعرف «الشهيد العقيد محمد إدريس» الذي كان قد استشهد فى سيناء قبل 15 يومًا من زيارتنا للحدود الغربية.
رد سريعًا وهو يقول: «ومين ميعرفش «قادر إدريس»، كل حبة رمل على حدود مصر تعرف «قادر إدريس»، الله يرحمه طلب الشهادة ونالها ربنا يلحقنا به.. (كلمة قادر تعني قائد عسكري قوي).
«قادر إدريس» لما كان ينزل مداهمة كان لازم يرجع بغنيمة إما أنه يقبض على عنصر تكفيري أو يقتل عددًا منهم.. كان مسبب لهم رعب صعب علشان كده كانت العناصر التكفيرية تطلق عليه نيرون إدريس.
كانوا لما يعرفوا من خلال عناصر الرصد بتاعتهم تحرك إدريس كلهم يستخبوا زي الفئران.
لو حكيت عنه صعب تستوعب أو تقول إن ده بشر؛ أولاً لأني اشتغلت معاه وتزاملنا فى مراحل عسكرية كثيرة وإن شاء الله يكون الدور علينا فى الشهادة.
وواصل القائد حديثه فروى لي كيف أن التنظيمات الإرهابية رصدت 2 مليون دولار لمن يقتل العقيد محمد إدريس، كما أنه لم يكن يومًا يهاب الموت بل كانت الشهادة هى مُناه ودعوته التي لم يتوقف عن ترديدها لحظة منذ عرفته.. أن ينال الشهادة من أجل هذا الوطن.
فى عام 2011 قال لي أحد الزملاء الذين كانوا معه فى تأمين محافظة مبنى محافظة الإسكندرية ومديرية الأمن ومبنى الإذاعة والمحاور الرئيسية لمدينة الإسكندرية، وأثناء وجوده بالكتيبة علم بدخول أحد العناصر الإرهابية لحرم الكتيبة وبدأ صوت تحرك القوات تجاه العناصر الإرهابية والتعامل معهم ليجد الضابط الشهيد محمد إدريس خارجًا من مكتبه يجري مسرعًا ويكمل ربط رباط بيادته بالطريق ليقول له الضابط: «حضرتك خرجت ليه يا أفندم إحنا موجودين للتعامل معهم».
ليرد عليه الشهيد محمد إدريس: «إزاي تقول كده لو كان واحد من أولادي هاستنى كتيبتي أنا بلدي أحب عندي من أولادي ويقوم الشهيد هو وطاقم كتيبته بالسيطرة على العناصر الإرهابية فكان موقفه موقف قائد شجاعًا لا يخاف الموت قائد عاشق لتراب وطنه الغالي مصر».
وتذكرت لقائي الأخير مع المقدم محمد إدريس عندما كنت فى سيناء، صائد التكفيريين، أو كما يطلق عليه زملاؤه وجنوده، «قلب الأسد» قبل استشهاده بخمسة أشهر تقريبًا، فهو شخص لا تفارق وجهه الابتسامة، تجد أن روحه تجذبك إليه بقوة، عندما تراه وسط جنوده فى أوقات الراحة لا تستطيع أن تفرقه عنهم، وخلال العمليات والمداهمات تجده أسدًا جسورًا يتقدم قواته، كان يرى أن واجب القائد دائمًا أن يكون فى الصفوف الأمامية وسط مقاتليه، معجبًا إلى حد العشق لشخصية الفريق عبد المنعم رياض والعميد إبراهيم الرفاعي، كان يروي بطولات الرفاعي وكأنه كان ضمن المجموعة التي ترافقه، ورغم أني لم ألتقِ «قادر إدريس» كما ينادي عليه القادة والجنود، سوى ثلاث مرات، كنت فى كل مرة ألتقيه يملؤني الفخر أنني جالست قائدًا عظيما.
لقد كان العقيد محمد إدريس نموذجًا للأبطال الذين تربوا فى مدرسة الوطنية والبطولة والفداء، عرين الأسود، و مصنع الرجال.
لقد استطاعوا الذود عن هذا الوطن بأرواحهم التي قدموها فداءً له وبدمائهم التي رووا بها ترابه الطاهر ليتركوا لنا الأثر والقدوة الذي سيبقى أثرهم بيننا نتذكره فى كل وقتٍ وحين.
لقد اجتمع الأبطال من الشهداء فى العديد من الصفات فهم امتلكوا الخُلق والعزة والفداء والتضحية والوطنية وتربعوا على عرش حب الوطن.
إنهم أبطال كثر كـ «قادر إدريس» الذين ضحوا بأرواحهم ولا يزال هناك منهم الكثير من أبناء الوطن يدافعون عنه.
وكما كان قادر إدريس كان قادر أحمد منسي وقادر رامي حسنين وغيرهم من الأبطال.
إن تاريخ الأبطال وبطولاتهم فى مواجهة أخطر الحروب فى العصر الحديث سنظل نتناقلها جيلاً بعد جيل وستظل هناك تفاصيل تحملها ونكتشفها يومًا بعد يوم.
لم تكن الحرب هينة فالجائزة كانت ضخمة، إنها الجائزة الكبرى.
ونحن نحتفل هذا العام بيوم الشهيد نوجه التحية والتقدير لكل أسر الشهداء ومصابي العمليات الحربية لما قدموه من أجل هذا الوطن.
حق الشهيد يا محافظ القاهرة
عقب نشر مقال العدد الماضي تلقيت رسالة من الأستاذ شريف عبد القادر هذا نصها، «منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي وأنا أطالب بتكريم جارى الشهيد/ عبد الحى السيد
عبد الحى الشهير بـ شحتة (رحمه الله) وكان من خيرة شباب الحى وحاصل على مؤهل عالٍ وجنّد بسلاح المدرعات تحت قيادة اللواء تحسين شنن (رحمه الله) واستشهد في 14 أكتوبر 1973.
وكثيرًا ما نشر لي مطلبي بتكريم الشهيد بإطلاق اسمه على شارع مشهد الرأس من شارع بيرم التونسي بالسيدة زينب والنشر بأبواب القراء قبل حلول ذكرى انتصار أكتوبر ويوم الشهيد، وعام 2009 عندما تقدمت لمحافظة القاهرة فطلبوا مني إفادة بالاستشهاد ونظرًا لأن والدا الشهيد توفيا إلى رحمة الله وإخوته تركوا السكن ولا أعرف مكانهم فذهبت لاستخراج الإفادة فتعذر لضرورة أن أكون قريبًا درجة أولى فأرسلت للأستاذ محمد عبد المنعم (رحمة الله) بجريدة الأخبار فتفضل بنشر رسالتي بعموده وتلقى ردًا من الشئون المعنوية وتسلمته بعد ذلك وسلمته للمحافظة ورغم ذلك لم يتم تكريم الشهيد، فنرجو من محافظ القاهرة تكريم الشهيد بإطلاق اسمه على الشارع سالف الذكر بمناسبة حلول يوم الشهيد 9 مارس 2024.
وأنا أؤيده فيها تمامًا وأضم صوتي لصوته وأتمنى أن تتحرك محافظة القاهرة لتنفيذ هذا المطلب فهو حق الشهيد علينا جميعًا أن تطلق أسماؤهم على مؤسساتنا وشوارعنا لنظل نتذكر بطولاتهم، ويظلوا المثل والقدوة لأبنائنا.