نهاية الأسبوع الماضي شهدت القاهرة قمتين ثنائيتين جاءت الأولى بعد غياب 11 عامًا؛ نظرًا لتوتر الأوضاع في عدد من الملفات بين البلدين، لتأتي زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للقاهرة نتاج تحركات دبلوماسية ومساعٍ حثيثة جرت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة؛ لتعود العلاقات بين البلدين وتطوي صفحة الماضي؛ لتفتح صفحة جديدة نحو علاقات استراتيجية ورؤي مشتركة بشأن عدد من الملفات الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط.
وعقب زيارة الرئيس التركي للقاهرة كانت العاصمة المصرية علي موعد مع زيارة تاريخية من الرئيس البرازيلي « لولا دا سيلفا » والتي تعد الزيارة الأولى لرئيس البرازيل منذ 20 عامًا.
الزيارتان أعقبتهما قمة ثنائية مشتركة ناقش خلالها الجانبان أهم الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك و تطورات الأوضاع في المنطقة على رأسها الأوضاع في قطاع غزة، وتطورات الحرب الروسية الأوكرانية.
زيارة الرئيس البرازيلي ونظيره التركي للقاهرة اكتسبتا أهمية كبرى نظرًا للظرف الدولي، الذي تعيشه المنطقة، وكذا الدور المهم والحيوي، الذي تقوم به الدولة المصرية في العديد من الملفات الخاصة باستقرار الشرق الأوسط.
(1) زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للقاهرة جاءت لتؤكد الدور المصري وثوابت الدولة المصرية، التي تستهدف تحقيق السلام والاستقرار والتي تؤمن بعدم التدخل في شئون الغير، كما ترفض الاعتداء على سيادة الدول.
الزيارة جاءت تتويجًا لجهود استمرت منذ مايو عام 2021؛ لتحقيق التقارب بين الدولتين.
فمصر دولة محورية في منطقة الشرق الأوسط وهي قلب المنطقة العربية وبوابة إفريقيا، ومحور استقرار الشرق الأوسط وبتفعيل عضويتها لمجموعة « البريكس » التجمع الاقتصادي الواعد، الذي وصل عدد أعضائه إلى 10 أعضاء، بحجم اقتصاد بلغ 28.3 تريليون دولار، وعدد سكان 48% من سكان العالم ومساحة يابسة تبلغ 25% من الكرة الأرضية.
هذه المجموعة الواعدة، التي انضمت لها مصر مؤخرًا ضمن 5 دول تمت الموافقة على عضويتها للمجموعة أغسطس الماضي، منحت الدول الأعضاء فرصة أكبر لتحقيق نمو اقتصادي وزيادة حجم التجارة البينية بين الدول الأعضاء مما يجعل المجموعة سوقًا مهمة للمنتجات.
كما أن الزيارة جاءت بعد توتر في العلاقات دام لعدة سنوات فهي تعد تتويجًا لمسيرة إعادة بناء العلاقات بين الدولتين، ويعزز ذلك الإعلان عن زيارة مرتقبة للرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة خلال شهر أبريل المقبل.
و أنها بمثابة صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين بحسب وصف الرئيس عبد الفتاح السيسي لها في كلمته خلال المؤتمر الصحفي المشترك، عقب توقيع الرئيسين على الإعلان المشترك حول إعادة تشكيل اجتماعات مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين مصر و تركيا.
الزيارة جاءت تأكيدًا على عودة العلاقات القوية بين البلدين الكبيرين والمهمين في المنطقة، وبدء عهد جديد بين البلدين في ظل تنامي حجم التبادل التجاري بينهما خلال السنوات الأخيرة، الذي بلغ 6 مليارات دولار، وارتفاع حجم الاستثمارات التركية في مصر وزيادة حجم الصادرات المصرية إلى تركيا، التي تأتي في المرتبة الأولى إفريقيًا.
كما تم الاتفاق بين الرئيسين على رفع مستوى التبادل التجاري بين البلدين إلى 15 مليار دولار خلال السنوات القليلة القادمة.
كما جاء ملف التطورات الإقليمية، خاصة الوضع في غزة في ظل الحرب الإسرائيلية المشتعلة في قطاع غزة والأزمات الأمنية والإنسانية.
وكذا تطورات الأوضاع في ليبيا و الصومال و السودان وجيبوتي، لقد شهدت القمة تطابقًا في وجهات النظر في العديد من الملفات على رأسها الملف الفلسطيني ورفض تهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم، وتصفية القضية، وضرورة السماح بدخول المساعدات إلى قطاع غزة؛ لتخفيف حجم المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون،، التي تنذر بكارثة إنسانية لم يشهدها العالم من قبل.
الزيارة جاءت لتؤكد أن ثوابت السياسة المصرية لا ولن تتغير وهو ما يجعلها دائمًا محل تقدير واحترام المجتمع الدولي، فمصر دائمًا لا تعتدي على حقوق الغير وهو ما أشار إليه الرئيس السيسي أنه عندما تم ترسيم الحدود البحرية المصرية في البحر المتوسط رفضت مصر استغلال الأزمة بينها وبين تركيا في ذلك الوقت وضم مناطق اقتصادية إلى حدودها، لأن مصر دائمًا ما تتعامل بشرفٍ ولا تستغل الأزمات للحصول على مكتسبات على حساب الغير.
كما أن الزيارة بعثت برسالة مفادها أن صفحات الماضي قد طويت لنبدأ مرحلة جديدة متطلعين إلى مستقبل يسوده التعاون والاحترام بما يحفظ أمن الدول واستقرارها.
ولم يكن الملف الليبي بعيدًا عن الملفات، التي شهدتها المباحثات، فقد أعلنت تركيا إعادة فتح قنصليتها في بنغازي قريبًا، وهو ما يؤكد توافق تركيا مع الرؤية المصرية بضرورة عودة الاستقرار إلى ليبيا والعمل على استكمال مسار الانتخابات الرئاسية.
لقد جاءت زيارة الرئيس التركي للقاهرة في تلك المرحلة بمثابة رسالة تمهيد لتحالف استراتيجي جديد يرسم مستقبل الإقليم في هذا التوقيت شديد الحساسية، الذي تموج فيه المنطقة بالاضطرابات والاستقطابات وإعادة ترتيب الأوراق، بجانب الأوضاع المشتعلة بالمنطقة نتيجة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتداعياتها الخطيرة على استقرار الشرق الأوسط.
لقد جاءت تلبية الرئيس السيسي للدعوة التي وجهها له الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال أبريل المقبل، لترسم ملامح مرحلة جديدة في إقليم شرق المتوسط ومنطقة الشرق الأوسط في ظل التعاون المشترك بين البلدين وتطابق الرؤي في العديد من القضايا المحورية.
لقد جاءت الزيارة بمثابة صفعة لقوى الشر، التي كانت تستهدف استمرار توتر العلاقات بين البلدين المؤثرين في منطقة شرق المتوسط.
(2) لم تمضِ سوى ساعات على مغادرة الرئيس التركي للقاهرة حتى كانت زيارة الرئيس البرازيلي «لولا دا سيلفا» الذي وصل للقاهرة صباح الخميس الماضي، تلك الزيارة التي تعد تاريخية لأنها الأولى لرئيس البرازيل منذ 20 عامًا، كما أنها جاءت بمناسبة مرور 100 عام على العلاقات المصرية البرازيلية.
لقد أطلقت المدفعية 21 طلقة في استقبال الضيف الكريم، وامتاز اللقاء بين الزعيمين بروح الود، حيث تطابقت الرؤى بين البلدين بشأن الأوضاع في الأراضي المحتلة.
لقد جاءت القمة بين الرئيسين في توقيتٍ بالغ الأهمية والحساسية بالنظر للأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط نتيحة تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كما تحمل رسالة دعم لموقف مصر من القضية الفلسطينية ولجهودها لإحلال الاستقرار بالإقليم.
فالرئيس البرازيلي يقدّر جهود مصر من أجل إنهاء الحرب، ويتفق مع موقفها الداعي لوقف إطلاق النار وضرورة إنفاذ المساعدات لأهل غزة للحد من تداعيات الكارثة الإنسانية داخل القطاع، مذكرًا بأن إعلام البرازيل وصف تلك الأوضاع «بحمام الدم».
كما أن البرازيل من الدول، التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، وتدعو إلى ضرورة إعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
كما أن للبرازيل قدرة كبيرة على التأثير في صنع القرار الدولي سياسيًا واقتصاديًا وماليا، إذ تعد قاطرة الدول اللاتينية، وإحدى أهم الأعضاء في تجمعات إقليمية ودولية مهمة مثل: البريكس واتحاد دول أمريكا الجنوبية «يوناسور»، وتجمع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وتكتل ميركوسور، ومنظمة الدول الأمريكية، إضافة إلى عضويتها في مجموعة العشرين ومجموعة الثمانية للدول الكبار.
لقد شهدت القمة توقيع عدد من الاتفاقيات بين الدولتين في قطاع التعليم العالي والبحث العلمي وفي مجال الزراعة وتنمية الثروة الحيوانية.
القمة الثنائية بين الرئيس السيسي ونظيره «دا سيلفا» حققت نجاحًا كبيرًا، حيث اتفق الزعيمان على عقد تشكيل لجنة مشتركة على أعلى مستوى بين البلدين لتنسيق أطر التعاون والأهداف التي سيتم تحقيقها من خلال هذه اللجنة، خلال قمة G20 والتي ستعقد لاحقًا في البرازيل.
وذلك في ظل الاتفاق علي تطوير العلاقات بين مصر و البرازيل في المجالات المختلفة، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وصناعيًا وزراعية.
لقد حرص الرئيس «دا سيلفا» علي دعوة الرئيس السيسي لحضور قمة العشرين وهو ما يعكس قوة الدولة المصرية وقدرتها على تجاوز الأزمات الاقتصادية، وقدرة الاقتصاد المصري على التعافي وفق نظرة الدول الكبري لمصر.
إن زيارة رئيس البرازيل لمصر في ظل تطورات الأوضاع لها رسالة مهمة تؤكد التضامن الكامل مع الدولة المصرية في التحركات والقرارات والرؤى بشأن الأزمة في الأراضي المحتلة، وكذا عدد من الملفات الأخرى ومنها أمن واستقرار البحر الأحمر.
إن حجم التعاون بين مصر و البرازيل سيشهد تطورًا كبيرًا خلال الفترة القادمة، خاصة على المستوى الاقتصادي والتجاري في ظل انضمام مصر لمجموعة « البريكس » التي تعد البرازيل من الأعضاء المؤسسين لها، الأمر الذي سيرفع من حجم التجارة البينية بين البلدين خلال الفترة القادمة.
إن ما شهدته القاهرة نهاية الأسبوع الماضي يعبِّر عن قوة وثقل الدولة المصرية ودورها المحوري في استقرار منطقة الشرق الأوسط.
اللي يفكر يجرّب
يبدو أن عدوي الخرف أصابت العديد من أعضاء حكومة نتنياهو، الأمر الذي جعلهم يوهمون أنفسهم بما ليس لهم به من قدرة، ويواصلون غيّهم في دعم عملية الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني دون أن يدركوا أن محاولة استفزاز الكبار قد تكون عواقبها وخيمة لن يكون لهم طاقة بها، فالصبر والحكمة لا يملكهما إلا مَن يمتلك قوة رشيدة، لكن الصبر لا يعني الصمت، ولا التفريط.
وليتذكر نتنياهو وقطيعه أن الجيش الذي فعلها مرة قادر على أن يفعلها مرة أخرى، فليحذروا اللعب بالنار، ومن يرد أن يفكر فعليه أن يجرّب.