ينقسم الفكر العسكري العالمي إلى عقيدتين، الأولى هي العقيدة العسكرية الغربية، تلك التي تتبناها، أو تتبعها، الولايات المتحدة الأمريكية، وباقي دول حلف شمال الأطلنطي "الناتو"؛ بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وغيرهم. أما الثانية، فهي العقيدة العسكرية الشرقية، التي تتبناها دول الاتحاد السوفيتي، السابق، ودول حلف وارسو، مثل بولندا، والمجر، ورومانيا، وغيرهم. وفيما يخص مصر، فقد كانت، قبل ثورة ١٩٥٢، تتبنى الفكر، والعقيدة، العسكرية الغربية، وتحديداً في نموذجها البريطاني، فكانت كلية القادة والأركان حرب المصرية، تدرس نفس مناهج كلية كمبرلي الملكية، بإنجلترا، خاصة في ظل اعتماد الجيش المصري، آنذاك، على التسليح الإنجليزي.
وبعد قيام ثورة يوليو ٥٢، والتي نادت ضمن مبادئها الستة، بإنشاء جيش وطني، قوي، بدأ الرئيس جمال عبد الناصر، ورفاقه، من أعضاء مجلس قيادة الثورة، في التفاوض لشراء الأسلحة، والمعدات العسكرية، من بريطانيا، ومن الدول الأوروبية، فحدث الصدام، خاصة مع بدء مصر في بناء السد العالي، وما سببه ذلك من أزمة مع الدول الغربية، دفعها لوضع قيود على حجم الجيش المصري، ونوعية التسليح، وأسلوب التدريبات، فالخلاصة أن دول الغرب لم ترغب في أن يصبح لمصر جيش قوي، من حيث العدد الكبير، والعتاد المتقدم، والتدريب العالي. وكما اتجهت مصر، حينها، صوب الاتحاد السوفيتي لمعاونتها في بناء السد العالي، اتجهت، كذلك، لتوفير احتياجاتها من الأسلحة والمعدات العسكرية، من الاتحاد السوفيتي، وكانت أول، وأشهر هذه الصفقات، ما عُرفت باسم "صفقة الأسلحة التشيكية"، والتي كانت أحد أسباب العدوان الثلاثي على مصر، في عام 1956؛ فلم يكن تأميم قناة السويس، هو السبب، الأوحد، لذلك العدوان الغاشم، وإنما كان اتجاه مصر لبناء جيش قوي، وتزويده بأحدث الأسلحة والمعدات، من الكتلة الشرقية، سبب آخر لشن العدوان على مصر.
كانت أولى تبعات صفقة الأسلحة التشيكية، من دول الاتحاد السوفيتي، هو تغيير فكر مصر العقائدي العسكري، من العقيدة الغربية، المؤسسة على الفكر العسكري البريطاني، إلى العقيدة القتالية العسكرية، لحلف وارسو، التي أساسها روسيا. فبدأت قيادة الجيش المصري، في إيفاد بعثاتها العسكرية، من القادة والضباط، إلى المعاهد العسكرية الروسية، وأهمها "أكاديمية فرونزا"، باعتبارها كلية الأركان حرب، الأشهر، في الاتحاد السوفيتي. وأعقب ذلك، بالطبع، تحولاً في مفاهيم العلوم العسكرية، المتباينة بين العقيدتين، فحتى شكل التوقيع على الخرائط والقرارات تغير، كذلك، فعلى سبيل المثال، في العقيدة العسكرية الغربية يتم رسم أوضاع قواتنا على الخرائط باللون الأزرق، أما قوات العدو فتُرسم باللون الأحمر، بينما على الخرائط، في العقيدة الشرقية، فالأمر معكوس، تماماً، فقواتنا تُرسم باللون الأحمر، وقوات العدو باللون الأزرق.
كانت تلك الفترة، بداية انطلاق مصر نحو عقيدة جديدة، وفكر عسكري مختلف، كان من وجهة نظري، العسكرية، أكثر ملاءمة، ومناسبة، للعقلية القتالية المصرية، رغم تفضيلي، الشخصي، للعقيدة الغربية، بعدما درست أصولها، وعلومها، بكلية كمبرلي الملكية في إنجلترا، وأدعي، بقدر من الثقة، الاحترافية في كلا العقيدتين. استمرت مصر في نهج العقيدة العسكرية الشرقية، حتى حانت مرحلة التخطيط لحرب أكتوبر 73، في أعقاب هزيمة 67، فإذا بالمقاتل المصري، يضع بصماته المميزة، على الخطة؛ فعند التخطيط لاقتحام قناة السويس، وتدمير خط بارليف، حاولنا في البداية إتباع العقيدة الشرقية، السوفيتية، فيما يخص اقتحام المواقع المائية، الواردة في أحد أهم المراجع القتالية، الشرقية، والمعروف باسم "الكتاب الأبيض"، إلا أنه بعد شهرين، فقط، تقرر أن ذلك المرجع، وهذا الفكر العسكري، لا يناسبان الأوضاع على قناة السويس، وخط بارليف، فشرع المفكر العسكري المصري، في وضع خطة، خاصة، لاقتحام قناة السويس، وتدمير خط بارليف، بما يتناسب مع الإمكانات المصرية، والمعطيات على الجبهة.
فأفرزت حرب أكتوبر، المجيدة، وانتصار قواتنا المسلحة فيها، شكلاً جديداً من أشكال العقائد القتالية العسكرية، وهو ما تجلى، بوضوح، في كافة مجالات عمل القوات المسلحة؛ فقوات الدفاع الجوي المصري خرجت بفكرة حائط الصواريخ، والتي لم تذكر في أي عقيدة قتالية عسكرية، من قبل، لتضيف شكلاً جديداً، لعلم السيطرة الجوية، بخطة عنوانها "تحييد القوات الجوية المعادية"، بمعنى أن يكون للعدو قوات جوية متفوقة، من حيث العدد والإمكانات، ورغم ذلك يتم إرغامها على الامتناع عن المشاركة في القتال. ثم جاءت فكرة الدفاع المضاد للدبابات المعادية بدون وجود دبابات مع القوات المدافعة، وهو ما خطط له الفريق سعد الدين الشاذلي، في خطة "التوجيه 41"، بأن ظلت وحدات المشاة المصرية، تحارب، وتصد، دبابات العدو الإسرائيلي، بعد عبور قناة السويس، لمدة ١٢ ساعة، متواصلة، رغم عدم وجود دبابات مصرية، وهو ما أظهر فكر جديد، عرف باسم أنساق الأسلحة المضادة للدبابات، استخدمته دول حلف الناتو، لاحقاً، في مسرح عمليات غرب أوروبا، قياساً على نجاح التجربة العسكرية المصرية في حرب ٧٣.
امتدت النجاحات المصرية إلى أسلوب نصب الكمائن الجوية، الذي ابتدعته قواتنا المسلحة المصرية، خلال حرب الاستنزاف، ضد محاولات الاختراقات الجوية الإسرائيلية، في اتجاه القاهرة، بشكل جديد، لم تعرفه، من قبل، العقائد العسكرية، سواء الغربية أو الشرقية. يضاف إلى تلك السجلات الحافلة، نجاح البحرية المصرية في تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات، في عملية أذهلت العالم، وكانت السبب الأساسي في تغيير كافة مفاهيم العلم العسكري البحري، في العالم، سواء في نمط التسليح، أو في أسلوب القتال. وتعددت البصمات المصرية، خلال حرب ٧٣، بما أدى إلى تغيير العديد من مفاهيم العقائد العسكرية، وإضافة فصول جديدة لمراجعها، ومناهجها، لتدرس في جميع الكليات، والمعاهد، والمؤسسات العسكرية، حول العالم، باعتبارها عقيدة قتالية مصرية، بناءً على خبرة أحدث حرب، في العصر الحديث، استخدمت فيها التكنولوجيا الجديدة لهذا العصر.
وفي الأسبوع الماضي قدم معهد الدراسات الاستراتيجية، في بروكسل، دراسة جديدة عن استخدام الطائرات المُسيرة بدون طيار (Drones)، ارتكزت على نقاط أربع من فكر القوات المصرية، في حرب ٧٣، وهو ما يدعونا للفخر بالعسكرية المصرية، التي أسست لعقيدة قتالية عسكرية، جديدة، يستلهم العالم منها دروسه، بسبب جهد واستبسال رجال وأبطال حرب العزة والكرامة، حرب ٧٣.
Email:
[email protected]