د. قاسم المحبشى* يكتب: كورونا والخطابات المصاحبة

د. قاسم المحبشى* يكتب: كورونا والخطابات المصاحبةد. قاسم المحبشى* يكتب: كورونا والخطابات المصاحبة

* عاجل31-3-2020 | 18:36

فيروس كورونا ادخل العالم كله في حالة هستيرية جماعية لا قبل للإنسانية بمثلها منذ فجر التاريخ الاجتماعي للكائن البشري. وبقدر ما يتعاظم الجزع الذي تحدثه ظاهرة من الظواهر يبدو معها المرء أقل قدرة على ملاحظتها بشكل صحيح والتفكير فيها بشكل موضوعي وإعداد الطرق الملائمة لوصفها ومراقبتها وتفسيرها وفهمها وتوقع مآلاتها بقدر من التجرد والموضوعية بما يؤمّن حدّا أدنى من الصدق والأمانة والنزاهة والإنصاف في معرفة الحقيقة وفهمها. وعلى مدى الأيام القليل الماضية شهد الفضاء التواصلي تصاعد مهول للخطابات الصاخبة المصاحبة لفيروس المجهري الذي أخذ يجتاح العالم كله ويهدد بلا هوادة حياة الناس في كل مكان في عالمنا الأرض الراهن. فمن الذي كان قبل بضع سنوات يعرف ماذا يدور في الصين؟ وما الذي كان يتوقع أن فيروس مجهري يمكنه أن يربك المشهد العالمي من رأس حتى أخمص قدميه؟ ومن الذي كان يتخيل أن مكة المكرمة تخلوا من الزائرين وكذلك المسجد النبوي؟ ومن الذي كان يخطر بباله أن المساجد والمدارس في بلاد العرب والإسلام تغلق أبوابها في عز النهار ؟ ومن الذي كان يتخيل أن أمريكا بكل جبروتها ترتعد فرائصها من فيروس كورونا؟ ومن الذي كان يتخيل أن ينتشر وباء فيروسي من أقصى شرق الكرة الأرضية إلى أقصى غربها في بضعة أيام؟ ألسنا بإزاء ظاهرة عالمية جديدة وصادمة للعقل والروح معًا؟ حول هذه الظاهرة الوبائية احتدمت الخطابات  المختلفة، يمكن الإشارة إلى أهمها( خطاب العلم والطب والتكنولوجيا وخطاب السياسة ورهاناتها الاستراتيجية وخطاب الفلسفة ومنظوراتها المفهومية وخطاب الدين وبدائله اللاهوتية وخطاب للعلوم النفسية ومداراتها السوسيولوجية وخطاب الفوببا العامة) فما هو فيروس كورونا من وجة نظر الخطابات المختلفة الخطاب العلمي الطبي يعلن أن " فيروسات كورونا هي فصيلة كبيرة من الفيروسات التي قد تسبب المرض للحيوان والإنسان. ومن المعروف أن عدداً من فيروسات كورونا تسبب لدى البشر حالات عدوى الجهاز التنفسي التي تتراوح حدتها من نزلات البرد الشائعة إلى الأمراض الأشد وخامة مثل متلازمة الشرق الأوسط التنفسية والمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (السارس). ويسبب فيروس كورونا المُكتشف مؤخراً  اكتشف مرض كوفيد معد يسببه فيروس كورونا المُكتشف مؤخراً. ولم يكن هناك أي علم بوجود هذا الفيروس وهذا المرض المستجدين قبل اندلاع الفاشية في مدينة يوهان الصينية في كانون الأول/   ٢٠١٩ تتمثل الأعراض الأكثر في الحمى والإرهاق والسعال الجاف. وقد يعاني بعض المرضى من الآلام والأوجاع، أو احتقان الأنف، أو الرشح، أو ألم الحلق، أو الإسهال. وعادة ما تكون هذه الأعراض خفيفة وتبدأ تدريجياً. ويصاب بعض الناس بالعدوى دون أن تظهر عليهم أي أعراض ودون أن يشعروا بالمرض. ويتعافى معظم الأشخاص (نحو 80%) من المرض دون الحاجة إلى علاج خاص. وتشتد حدة المرض لدى شخص واحد تقريباً من كل 6 أشخاص يصابون بعدوى كوفيد-19 حيث يعانون من صعوبة التنفس. وتزداد احتمالات إصابة المسنين والأشخاص المصابين بمشكلات طبية أساسية مثل ارتفاع ضغط الدم أو أمراض القلب أو داء السكري، بأمراض وخيمة. وقد توفى نحو 2% من الأشخاص الذين أُصيبوا بالمرض، وينبغي للأشخاص الذين يعانون من الحمى والسعال وصعوبة التنفس التماس الرعاية الطبية. وخلاصة الخطاب الطبي اليوم هو استنهاض كل مقومات المؤسسة الطبية في العالم لمواجهة هذا الوباء الذي يهدد البشرية كلها بالمرض والموت.في حين أن الخطاب الفلسفي يرى أنه مع  اكتشاف "الفيروسات" ودخلت الإنسانية تاريخا جديدا لمعنى الحياة. إنّ "منطق الكائن الحي" الذي من جنسنا قد تغيّر بلا رجعة، لكنّ النصف الثاني من القرن التاسع عشر هو بعامة قد شهد أيضا جملة من الأحداث الطبّية (اكتشاف الميكروبيولوجيا، حيث بدأت دراسة الخلية والفيروس والبكتيريا والميكروبات...) والتكنولوجية (الهاتف والتلغراف وسرعة الضوء والطيران والسينما والإشعاعات...) التي يمكن قراءتها بوصفها تشكّل متوالية ميتافيزيقية مثيرة هي بمثابة تدشين مفاجئ وغامض لعصر لم يعشه البشر من قبل هو "عصرنا" الوحيد إلى حد الآن. إنّه في خضمّ هذا الزخم من الاكتشافات العلمية والتقنية، أعلن نتشه عن "موت الإله" الأخلاقي بوصفه ظاهرة رمزية قد اجتاحت الوعي الأوروبي بنفسه وبمصيره في العالم، وإنّ أهمّ سمة مثيرة لهذا العصر الجديد هو أنّه شهد أحداثا هي بمثابة إعادة اكتشاف لما كان يسمّى منذ أفلاطون "العالم المحسوس". لقد انخرط العلماء في إعادة رسم خارطة العالم المحسوس من خلال سياسة جديدة للمرئي واللامرئي، حيث إنّ "اللاا مرئي" لم يعد "كائنا عقليا" أو "خياليا"، بل صار مساحة "طبيعية" تبعثر مفهوماتنا التقليدية عن المكان والزمان والحركة والمادة والحياة، علينا اكتشافها والدخول في علاقة معرفية وتكنولوجية وأخلاقية معها لم يعشها البشر من قبل وأنّ "البشرية غدت اليوم مجرّد مساحة بكتيرية أو فيروسية عابرة للأجسام الحيوانية، وليس "صورة" إلهية مطبوعة على صلصال مقدّس. إنّ الفيروس مثل الهاتف أو السينما أو الطيران أو "موت الإله" التقليدي، هي أحداث ميتافيزيقية تعيد ترتيب العلاقة مع "المحسوس" بما هو كذلك، وذلك بأن تتجرّأ لأوّل مرة على الدخول في علاقة تكنولوجية مع "اللاّمرئي" بوصفه جزءا لا يتجزّأ من مادة الكينونة في العالم كما تنفعل بها أجسامنا. إنّ المحسوس لا يوجد خارجنا، لأنّ "الخارج" الأنطولوجي لا وجود له. إنّ المحسوس هو مساحة عابرة تخترق الأجسام، مثل مادة بلا حدود مرئيّة نحو الداخل كما نحو الخارج، لم يعد "الجسد" الإنساني (أي "الجسم" الذي له شحنة وجدانية) يمثّل منها سوى "مجرّد" حلقة عضوية في سلسلة خلويّة سابقة إلى حدّ لامتناهي الصغر، لكنّها تعبر حدود الجسم المرئية أو الخارجية إلى "عدوى" الأجسام "الأخرى"، والتي لم تعد "أخرى" إلاّ تجوّزا نتيجة إرث أخلاقي صار باهتا. إنّ "الآخر" قد تلاشى طبيّا وصار مجرّد ادّعاء أخلاقي ينتمي إلى ثقافة علاجية انتهت صلاحيتها بعد اكتشاف قارة اللّامرئي الحيوي (الخلوي والبكتيري والفيروسات المجهرية). وخلاصة الخطاب الفلسفي هي أن  الكورونا ليس مجرد فايروس، يمكن مجابهته طبيا وعلميا، بل تحول إلى مفهوم جديد عن الإنسان المعاصر، الإنسان الأكثر فردانية، والمفرغ من بعده الأخلاقي والعاطفي، الإنسان المركزي الذي يملك العالم في هاتفه الذكي، الشخص الذي يدور كل العالم من حوله ويوهم نفسه بأنه السيد على عرش نفسه، فيما لا يقبل من يختلف عنه. ألسنا بإزاء ظاهرة عالمية لا سابق لها في تاريخ البشرية. وعلى صعيد الخطاب السياسي لخصت مجلة مجلة فورين بوليسي الأمريكية توقعات العالم بعد كورونا بالآتي: -  فشل الولايات المتحدة والغرب بشكل عام في قيادة العالم وتحول الدفة إلى الصين ودول جنوب شرق آسيا . - النظام العالمي وتوازن القوى سيتغيران بشكل كبير - انتهاء نظام العولمة الاقتصادية والاعتماد المتبادل والبحث عن سلاسل توريد محلية. - نسف القواعد الحالية لعمليات التصنيع والانتاج العالمية. - فشل المؤسسات الدولية في القيام بدورها الذي كان متوقعا في التحذير والتنسيق للحد من الأزمة . - توقع تفكك الاتحاد الاوروبي بعد فشله في مواجهة الأزمة على مستوى أعضائه. - مزيد من الانكفاء على الداخل وتراجع القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك - تقوية مفهوم الحكومة المركزية وتعزيز قبضة الحكومات دون معارضة. - قوة الروح الإنسانية ونجاحها في مواجهة الخطر - المنتصر في الحرب ضد الكورونا هو الذي سيكتب التاريخ ويحدد المستقبل بشكل كبير. - سيكون العالم أقل انفتاحا ، أقل حرية ، أكثر فقرا. أما الخطاب الديني التقليد فقد بدا شديد الارتباك والتناقض إزاء الأزمة ففي حين هلل بعض دعاة الدين للفيروس أول ما ظهر في الصين لاسيما جماعة الإخوان المسلمين العرب معتبرين أن الفيروسات جند الله تنتقم ارسلها على الكفار ثم تتالت الفتاوى الشرعية ، من شخصيات أو هيئات علمية معتبرة ، تدعو إلى ضرورة تعليق صلاة الجماعة والجمعة  إلى أن يرفع الله بلاءه، ورغم تضمن تلك الفتاوى الدليل والتعليل، والتي جمعت بين فقه التأصيل والتنزيل، إلا أنه والى هذه الساعة، وخاصة في هذا اليوم، لا يزال أناس يتباكون على إغلاق المساجد، و يتأسفون على هذا الوضع الاستثنائي، وهم في الحقيقة معذورون من جهة العاطفة الدينية التي قد تطغى على العقل و تتعامى عن رؤية النقل، ولكن بات الأمر مبالغا فيه، و أرى أن بوصلة دموعهم وتباكيهم قد تاهت كثيرا. وهناك عدد متزايد من الخطابات الأخرى ومنها خاطب العلوم الإنسانية والنفسية الذي يهتم بمشاعر الخوف والهلع المصاحب للوباء العالمي يمكن تلخيصه بالفقرة الآتية: خوف كل فرد من أن يكونا مصابا بالفيروس ومن ثم ناقلا للعدوى لأقرب الناس إليه من الذين يحبهم وخوف المرء من أنه إذا ما قدر الله وأصيب بالمرض سوف يكون منبوذا من كل العالم ومن أقرب الناس اليه ولن يجد من يحيطه بالرعاية والمواساة في لحظة مرضه وقد يمت دون أن يجد من يودعه ولا يعرف كيف مات وأين تم دفنه. والخوف من أن يستقل بعض عديمي الضمير من أشرار البشر وعصابات الإجرام والإرهاب العالمي هذا السلاح الفتاك في أعمال انتقامية من الدول والحكومات والشعوب والأفراد وهذا أمر يمكن توقعه ويحتاج إلى يقظة إنسانية وطنية على صعيد كل دولة مفردة ويقظة عالمية على صعيد العالم أجمع، يقظة علمية وتقنية بالغة الدقة والحساسية للكشف عن مثل هذا الاحتمالات المتوقعة في عالم شديد التداخل والاضطراب. والخلاصة أنه لا حلول بديلة لهذه الفوبيا الجديدة غير التزام الناس بتعاليم دولهم والبقاء في منازلهم مع الاحتفاظ بكل متطلبات الوقاية والنظافة والصحة والتباعد الجسدي بين الأفراد واستخدام الوسائل المتاحة لتحصين الأطفال والكبار بالسن والتركيز على الأغذية المقوية للمناعة كما وصفها الأطباء. وهكذا تنوعت الخطابات المصاحبة للظاهرة ويبقي الخطاب العلمي هو صاحب القدح المعلى وحصان الراهن الأكثر جدوى في مواجهة الوباء وتجاوزه. …………………………….. * أكاديمى وشاعر وأديب يمنى
أضف تعليق

تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2