د. ناجح إبراهيم يكتب: جمال حمدان.. وسيمفونية الجغرافيا

كان يرى أن نهر النيل الذى بدأت الحياة المصرية على ضفافه هو مفتاح الشخصية المصرية، ذلك أن ضبط النهر من طغيان فيضانه هو الذى أنجب خصلة الطغيان فى الشخصية المصرية لأنه بغير ضبط النهر يتحول هذا النيل الوادع الجميل إلى شلال جارف يدمر كل شىء أمامه، وبغير ضبط الناس يتحول توزيع الماء إلى عملية دموية تسود فيها شريعة الغاب، ومن هذه البيئة النهرية الفيضية تبلور العقد الاجتماعى بين الحاكم الذى يملك الماء والمحكوم الذى يزرع بالماء وقوام هذا العقد «أعطنى أرضك وجهدك أعطك مياهى»، كان يرى أن مصر تحولت من مصنع للحضارة إلى مجرد متحف للحضارة حينما بدأت تستورد الحضارة من الغرب ولا تصدرها. وكان يرى أن الموقع الجغرافى لمصر رأس مال طبيعى وسياسى دفين ومورد أصيل من موارد الثروة القومية، كان مؤمناً بعبقرية وإمكانيات مصر، وكتب قبل هزيمة 1967 عدة مقالات عن كيفية هزيمة إسرائيل بشطرها نصفين عند الجزء الضيق القريب من القدس، لكن هزيمة 5 يونيو أصابته باكتئاب شديد وشك دفين فى مقولاته، حتى جاء نصر أكتوبر فأعاد له الثقة فى مصر وكفاءتها مرة أخرى، فكتب عام 1974 كتابه «6 أكتوبر والاستراتيجية العالمية»، تتلمذ على يد «العقاد» وأحبه وقلده فى العزلة عن العالم والانكفاء على العلم والتأليف، كان يردد «مصر هى بالجغرافيا تقع فى أفريقيا وبالتاريخ تمت إلى آسيا، إنها واحة ضد صحراوية وهى ليست واحة بل شبه واحة، إنها فرعونية بالجد، عربية بالأب، بجسمها النهرى قوة بر بسواحلها قوة بحر، أى تضع قدماً فى الأرض وقدماً فى الماء، بجسمها النحيل تبدو مخلوقاً أقوى من قوى، وبرسالتها التاريخية الطموحة تحمل رأساً أكثر من ضخم، تقع فى الشرق وتواجه الغرب، تمد يداً نحو الشمال وأخرى نحو الجنوب فهى فى قلب العالم العربى، وواسطة العالم الإسلامى، وحجر الزاوية فى أفريقيا، إنها سيدة الحلول الوسطى والوسط الذهبى»، تاريخ مصر عند جمال حمدان ينقسم إلى أربع مراحل؛ الأولى: صناعة الحضارة ومادتها الخام، فيض النهر وصوبتها الزجاجية التى تحمى طفولتها الغلاف الصحراوى. الثانية: مرحلة تصدير الحضارة وتشمل العصر الفرعونى. الثالثة: مرحلة الاكتفاء الذاتى بعد نهاية الفرعونية وتتسم بهبوط قوة مصر مع استمرار قوتها الحضارية، وتأصلت فيها ملكة الامتصاص على حساب قدراتها الخلاقة وآخرها العصر التركى الذى أوصل مصر للحضيض. الرابعة: مرحلة استيراد الحضارة، وذلك بعد اقتحام الحضارة الأوروبية لمصر بداية من الحملة الفرنسية، لا ثقافة بلا جغرافيا، لا سياسة بلا جغرافيا، ولا تاريخ بلا عمران، ولا اقتصاد بلا جغرافيا، المثقف هو الإنسان الذى يتجاوز دائرة ذاته ليصل إلى المجتمع الأكبر منه، هو الإنسان القادر على أن يجعل مشاكل الآخرين هموماً شخصية له وهو ضمير عصره، الحملات الصليبية درس حضارى لأوروبا ودرس استراتيجى للعرب، الحقيقة أننا لا نعرف فى أوقيافيوغرافية العالم مائة ميل لها ما لقناة السويس من خطر ونتائج، توقع انهيار الاتحاد السوفيتى وهو فى أوج قوته وعنفوانه، كما توقع انهيار الإمبراطورية الأمريكية. هذه كانت بعض أطروحات العلامة جمال حمدان الذى تمر الذكرى الـ27 لوفاته هذه الأيام، والذى شعر بالظلم فى سلم الترقى الجامعى فاستقال من الجامعة وعكف على التأليف والإبداع والموسوعية، حتى أعطى لعلم الجغرافيا قيمة عظيمة وجعله أساساً لبناء أى استراتيجية سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، كما حول هذا العلم الأصم إلى سيمفونية موسيقية رائعة يتذوقها كل أحد أو لوحة فنية بديعة يسعد بها الجميع، حيث كان يعشق الموسيقى والرسم، سلام على العلماء المخلصين ورحم الله د. جمال حمدان.