غادة البشاري تكتب: ابتعد عن الطريق رجاءً

غادة البشاري تكتب: ابتعد عن الطريق رجاءًغادة البشاري تكتب: ابتعد عن الطريق رجاءً

* عاجل23-6-2020 | 22:17

أن تكون مثقفًا، أو أديبًاً، فهذا يعني أن عليك بدفع بصوتك بعيدًا عن ضحالة الموقف، وتعمية الفكر، وأن تمعن في إنسانية الحدث، وتستشرف سبيلاً نيّرًا، لاجتياز هوة، تزداد مع كل بداية يوم شساعة، وتقعرًا...لم تكن هذه فاتحة مقالي اليوم، وإنما هي كلمات كنت نشرتها على صفحات التواصل الاجتماعي قبل عام تقريبًا، حينما تم تفكيك العقل الثقافي للبعض بفعل دمدمات الحرب ، وأصبتُ عندها بنوبة " خيبة " رعناء، أحدثت عزلة استمرت فترة طويلة، فقدت على أثرها الثقة في بعض الأدمغة المنتصبة فوق رؤوس الأقلام على الساحة الأدبية في ليبيا.. وما زلت أعاني من اضطراب تلك النوبة حتى الآن. اتفقنا في خاتمة المقال الماضي أنني سأحرر قلمي من قيود الدوران، وجاذبية مركزيته للكيان الدماغي ، فهل سأستطيع أن أصمد طويلاً، خارج حدود تلك التكيّة ، وبعيدًا عن مسامرة أذكارها ؟...بصراحة.. أشك في ذلك فليكن مثلاً.... افتتح العام الماضي في حيّ يبعد عنا عدة كيلومترات مطعم بيتزا كبير ؛ و كنوع من مكافأة النفس بعد عمل أسبوع في إدارة المدرسة، كنت اتصل به ، لأطلب نوعين من البيتزا – ديلفري - : أحدهما بقطع الدجاج، و الأخرى ما يسمونها " بيتزا مارجريتا " ... توقفت عن هذا الفعل بعد شهرين تقريبًا، لم تعد قطع الدجاج صالحة للمضغ ، والجبن أصبح يتحول في الفم إلى شعيرات رقيقة من الجلد، ناهيك عن العجين الذي يوحي لك أنه مرّ بأزمة قلبية أثناء وجوده في الفرن ...ما السر وراء هذا التغير؟! ..ربما هي وصفة الخيبة و الخذلان ذاتها ... ليس الطريق وعرًا أبدًا.. بل نحن المستهترون كفاية لفشل أي مشروع... و لا أدري لماذا خطر ببالي هذا المطعم، وأنا أستهل كتابة مقالي الثاني هذا ، و لسبب ما ربطته بتلك البيتزا .. يستر الله عندما هنأني الأصدقاء بعد صدور المقال الأول، تلقيت تهنئتهم و ثنائهم بنفس مضطربة ، وخجلة،...عذرًا أصدقائي .. لا أدري ما السر وراء ثائرة دمي، وهو يتدفق مهتاجًا داخل عروقي، عقب تعليق كل منكم ..تذكرت وجه ذلك الشاب العبقري، الذي وثب من مكانه مذهولاً لحظة المناداة على اسمه ، واعتلى خشبة المسرح بحركة هستيرية، كاد على أثرها أن يقع على الدرج، ثم تقدم لمصافحة رئيس المسابقة وعزوته الأفاضل، واستلام جائزة اختراعه الذي أحدث ضجة في الوسط العلمي وقتئذ.. كان خجلاً، ومتوترًا، لدرجة أوشكت عروق وجنتيه أن تنفجر، كمن ضُبط متلبسًا بفعلٍ فاضح.. بصراحة، الكل كان يشد على يديّ، ويدعو لي بالتوفيق، واكتساب مَلَكة الكتابة .. مَلَكة الكتابة!...مع بداية تفكيري في كتابة المقالات، لم يشغلني أبدًا أن أحوز على ملَكة الكتابة يوما ما، ولم أطمح أن أكون كاتبة مقالات من الطراز الرفيع، على العكس تمامًا ، فوطء بلاط هذه الطاغية في هذا الزمن بالتحديد .. في رأيي ..محض جنون وعتَه... زمن يُنكر الشرط الإنساني للوجود الجماعي، داخل إطار الشرعية الواحدة، وفي مجتمع تتوالى عليه النكبات، فيحُد من استدعاء ضميره الفكريّ واللغويّ، بل و يكاد يفلس تمامًا من لغته... هو زمن لا تّعد مَلَكة الكتابة فيه طموحًا مّبجّلاً أبدًا. وعلى أي حال ..من يدري ؟ّ! ...ربما يأتي اليوم الذي تحل عليّ بركات تلك المَلَكة.. وأصبح من المبشرين بجنتها. لست ممن يدمن لعبة النجوم، و لا تستهوينني أبدًا جدلية قارئات الكف والفنجان، ولكني أؤمن جدًا بحدْس الكاتب والمثقف... الحدْس هو سيد الموقف الآن ، والقوة العُظمى المسيطرة على مجريات التفكير الآنيّ...إنه حديث الضمير السريّ ، وحدها الأحداس في هذا العصر تتدافع على بوابة الفكر، وتستوثق بخيط الشك الواصل بين الحقيقة و رسائل الباطن، بدعوى تهيئتنا لمشاء الكتابة، والبقاء دائمًا على كفّ عفريتها، أي في منطقة وسطى مهللة ،بين الانطلاق والاحتباس، والتفاؤل والتشاؤم، والإقبال والانهزام، .. يقول آينشتاين :" الشيء الوحيد الحقيقي والثمين هو الحدس ".. وهاهو" راي برادبري" الكاتب الأمريكي يقول : " حدسك يعرف ماذا ستكتب ..لذلك ابتعد عن الطريق رجاءً "، أظنها نصيحة في محلها الآن يا راي... أشعر أني على مشارف نوبة فلسفية... حسنًا..سأتوقف الآن .. وأختم مقالي باثنين من الآراء التي استفزني عمقها وجمالها... الصديق الكاتب والناقد " يونس فنّادي " من على الشق الآخر للأرض، يكتب لي :" قرأت مقالك الرائع، إنه يتطلب وقتًا رقراقًا للغوص في ثناياه "...يونس الناقد الذي تجلى في عمل دراسة نقدية عن ديواني " كعصفور الجنة يُبعث حيًا" العام الماضي، لم تكن معرفتي به قاصرة على النقد وحده، بل تعدته إلى المعرفة بيونس الإنسان الذي يُلزم نفسه باطلاعي على مجريات ما يقام من ندوات وجلسات ثقافية، أو أي طارئ يحدث لأي زميل أو زميلة .. هناك.. حرصًا منه على عدم تقصيري في أداء واجبي... أظنه جال سريعًا على المقال قبل أن يكتب:" إنه مكتظ بالفلسفة، واقتباسات من كتّاب آخرين، وفي نفس الوقت مكتظ بجماليات اللغة...تتراقص بكل عذوبة وسلاسة"، وها هو يخبرني أنه قبِل دعوتي في خاتمته، لعلنا نصل إلى بعض اليقين. ترى أي يقين كان يعني ؟ّ... وأي يقين آمن اليوم من مخالب المُضيّ يا صديقي ؟! أما الصديق الفيلسوف " طارق النمر" - فيلسوف هنا بمعناها السامي – فهو يدرس في قسم الفلسفة، عوضًا عن تجهيزه لرسالة الماجستير في العلوم السياسية، قد تناول المقال من وجهة نظره الفلسفية، حين كتب :" مقال مشحون بالتشكك تجاه حقيقة الأشياء، وإرجاء الحكم عليها...كما أن هناك لمسة مثالية، أي أن الحقائق التي تدرك بالعقل أكثر من الحقائق التي تدرك بالحواس" .. كلمات مفخخة يا صديقي ..وضعتني من جديد في مفترق سيوف الوعي الفكريّ ومولوية الروح المتهالكة... و أعادتني فجأة إلى منطقة الخطر الدورانيّ.. يستر الله ………………………………………………….. * أديبة وشاعرة وكاتبة ليبية
    أضف تعليق

    أكتوبر .. تفاصيل الحكاية

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين

    الاكثر قراءة

    تسوق مع جوميا