عاطف عبد الغنى يكتب: 7 أيام فى الحضّانة !

عاطف عبد الغنى يكتب:  7 أيام فى الحضّانة !عاطف عبد الغنى يكتب: 7 أيام فى الحضّانة !

الرأى24-2-2017 | 22:36

المشهور فى العناوين هو 7 أيام فى الجنة، لكن الأيام التى سنحكى عنها لاحقا يصح وصفها بـ 7 أيام فى الجحيم.

والحكايةمكررةومأساويةلاتخلومن «الساركازم» من فرط السخرية والاستهزاء التى تحملهما بعض مشاهدها.. حكاية تجلب وجع القلب بداية من حال أبطالها الدائمين من الفقراء والغلابة والمعوزين، وليس انتهاء بالخواتيم التى تنتهى غالبا إلى وقوع ضحية، حية أو ميتة، فإذا قدر  الخالق لهذه الضحية أن تغادر الدنيا، فهذه نهاية كل حى، وغالبا إذا حدث هذا تريح وتستريح، وإذا عاشت فغالبًا تعيش معذَّبة مُعذِبة لمن حولها.

عن مرضى المحروسة الفقراء أكتب، هؤلاء الذين لاتظلهم مظلة التأمين الصحى التى تغطى موظفى الحكومة والهيئات والمؤسسات العامة ووحدات الإدارة المحلية فقط.

(1)

اتصل بى تليفونيًا مساء الخميس بناء على طلب ورجاء من زميل، تصور أنه لابد من واسطة، وما كنت أحتاج لواسطة لأستمع وأهتم بحكايته، لكنها ثقافة الفقراء و«الغلابة» فى مصرنا المحروسة، لا شىء يتم إنجازه بدون واسطة حتى حق الشكوى.

(2)

قال إن اسمه طه السيد (سألته إن كان لا يرغب فى ذكر اسمه مرفقا بالشكوى فأجاب فيما يشبه «الاستبياع» بل أذكره يا أستاذ وأضاف فيما يشبه الرجاء: يمكن حد يقرأ ويفهّمنى حالة ابنى عنده إيه ؟!).

.. حكاية طه السيد تبدأ مع بلوغ ابنه الأول اليوم العشرين من عمره بعد ولادته، وقد لاحظت أمه أن رضيعها لديه مشاكل فى التنفس.. صدر الطفل يعلو ويهبط بشكل ملحوظ، مع نهجان شديد، ورفض للرضاعة مع دخوله فى نوبات بكاء لفترات طويلة.. ومع هذا الاكتشاف ولمدة 6 أشهر تالية دخل طه وزوجته فى رحلة عذاب تتخللها ساعات من الرعب على طفلهما وهو يموت ويحيا بين أيديهما، ويجريان به من مستشفى إلى دكتور، ومن دكتور إلى مستشفى..

فى اليوم الأول لاكتشاف المرض، ذهب طه برضيعه إلى مستشفى ناصر العام بشبرا الخيمة، وبعد الكشف عليه أخبروه بأنه يحتاج أن يٌحجز فى حضّانة وعليه أن يدفع مبلغ 750 جنيها مقدما حتى «يخلصوا ورق دخوله»، وبعد الاسترحام تم النزول بالمبلغ إلى 500 جنيه، لكن طه لم يكن معه ما يكفى من نقود فاضطر أن يحمل ابنه ويذهب ليبحث عن مستشفى آخر  يقبله .

(مشهد ثان) الابن يموت بين يدى أبيه وأمه، هذا بالفعل ما أكده الطبيب الذى كشف عليه فى مستشفى أبو الريش، وأضاف على تأكيده السابق: أن الابن لابد أن يُحجز تحت العناية المُركّزة، لكن للأسف لا يوجد له مكان فى أبو الريش.. وبعد برهة رق فيها قلب الطبيب فتطوع لتقديم المساعدة بأن أشار على طه أن يتصل تليفونيا بطوارئ وزارة الصحة ويصف لهم حالة ابنه، وبمساعدة الطبيب تم الاتصال بطوارئ الوزارة، وعلى الطرف الآخر اهتم من تلقى الاتصال وأخذ رقم تليفون طه، وعاود الاتصال به بعد يوم تقريبًا وقال له أن يتوجه بابنه إلى مستشفى شبرا العام، وفعل طه هذا من فوره، لكن فى مستشفى شبرا العام أخبرته الطبيبة النوبتجية أنه ليس هناك مكان لابنه فى العناية المركزة فعاد طه من حيث جاء بخفى حنين يحمل طفله المريض بين يديه، لكن أكثر الله من خير طوارئ وزارة الصحة فقد عاود مسئولها يطمئن على قبول المستشفى للرضيع، فأخبره طه بما حدث معه، فقال له مسئول الطوارئ مؤنبا: لماذا لم تكلمنى من مكانك وأنت فى المستشفى وتخبرنى.. عُد إلى المستشفى!..

وعاد طه بطفله فى الثالثة فجرًا لكن يبدو أن هناك توجيهات مشددة لتستقبله المستشفى، وقد حدث هذا وتم وضع الرضيع  على جهاز التنفس الصناعى لكن لمدة ساعتين فقط، بعدهما دفعوا الرضيع إلى طه مجددا، فعاد به إلى بيته لأنه لا يوجد مكان له بالعناية المركزة.. وعاود طه الاتصال بطوارئ الوزارة، وفى الطوارئ أجابه المسئول وقال له: «اطلع على مستشفى شبرا العام تانى»، قال لهم أنا ذهبت، قالوا له «ارجع تانى».. يقول طه: ورجعت وربنا أكرمنى وتم حجز الرضيع 7 أيام فى حضّانة العناية المُركّزة كلفتنى هذه الأيام بالطلبات التى أحضرتها من خارج المستشفى حوالى 500 جنيه.

(مشهد ثالث) عاد الابن للانتكاس وأصاب الأب التعب ولم يعد يملك ما ينفقه على الذهاب به إلى عيادات الأطباء الخاصة، فعاد يتردد على مستشفيات الحكومة.

ومنذ حوالى 10 أيام حمل طه ابنه وذهب إلى مستشفى أبو الريش للأطفال.. وصل المستشفى فى حدود الساعة الواحدة ظهرًا وقطع تذكرة كشف وكان دوره رقم (217) ويتولى الكشف على المرضى من الأطفال طبيبتان فقط، وليس هناك حل أمام الأهالى المنتظرين إلا الصبر على القضاء.. وقضاء اليوم بطوله فى المستشفى التى خرج منها طه برضيعه فى العاشرة مساء، وخلال هذا اليوم الطويل، بالطبع حل الدور للكشف على الرضيع، وهو بين يدى الطبيبة قالت الأخيرة للأب: ابنك يحتاج أن يُحجز فى الرعاية، وطلبت من مساعد لها أن يذهب فينظر إذا كان هناك سرير للرضيع، فذهب المساعد وجاء بالبشارة.. «هناك سرير فاضى» لكن نحتاج أن ننتظر بعض الوقت حتى تأتى نوبتجية التمريض وتستلم الطفل، ولما مر وقت وطال الانتظار على طه وزوجته ذهب الأول يسأل الطبيبة عن سبب التأخير فراحت تستطلع الأمر وعادت تخبره بأن هناك حالة أخطر من حالة ابنه حضرت إلى المستشفى واستحقت سرير العناية.. وبعد الاعتذار نصحته أن يذهب بابنه ليبحث له عن مكان فى مستشفيات الحسين أو شبرا العام أو الدمرداش أو سيد جلال.. قالت له بالنص: «لف بابنك».. ولف ودار طه بابنه فى كل هذه المستشفيات وفى إحداها تم إجراء أشعة للطفل وسلموها لـ طه على تليفونه المحمول لأنه ليس هناك أفلام للأشعة.. (قمة السخرية).

(3)

قد تكون حكاية طه أخف فى وطأتها عليك من حكايات أخرى كثيرة أكثر سوادًا وأكثر مأساوية سمعت بها أو خبرتها عن المرضى وخاصة الفقراء منهم، لكن الأزمة فى حكاية طه أنه مازال حتى اللحظة يريد أن يدله طبيب على حالة ابنه بالضبط، هل سببها نسبة التلوث الكبيرة التى أصابت أجواء شبرا الخيمة حيث محل سكنه وذلك بسبب انتشار المصانع الملوثة للبيئة، يقول طه إن الأطباء أخبروه بتلف جزء من رئة الرضيع، وقال له طبيب فى عيادة خاصة إنه يحتاج إلى عملية جراحية يتم فيها استئصال الجزء التالف من الرئة، فلم يصدقه طه ولم يقتنع بكلامه، وربما رفض نصيحة الطبيب لأنه لا يملك ثمن هذه الجراحة.. (نسيت أن أقول لكم أن طه يعمل صانيعى بالإنتاج فى ورشة لصناعة الأحذية ومتوسط أجره اليومى 50 جنيه تكفى بالكاد متطلبات الحياة اليومية دون فائض).

.. وأنهى طه مكالمته التليفونية معى وهو يقسم بالله العظيم أنه لم يعد يفهم ما هى حقيقة مرض ابنه، ويتمنى لو يفهمه أحد.

(4)

أكتب هذا يوم الخميس 23/2.. نفس اليوم الذى صدرت فيه تصريحات رئيس الوزراء م. شريف إسماعيل تبشر أمثال طه أن الحكومة شمرت عن ساعديها لإنجاز قانون الرحمة..

قانون التأمين الصحى الشامل، وقد وعد صاحب التصريحات أن الوقت لن يطول..ليكن شهر.. شهرين.. خمسة.. وأتمنى من الله ألا يتمدد أكثر من هذا، وأن تنتهى الحكومة بأسرع ما تستطيع لإنجازه القانون وإنفاذه، عملا بتوصيات الرئيس السيسى.. والأجر والثواب على الله.

..................................................................

المصدر: مجلة "أكتوبر" العدد الصادر بتاريخ 26/2/2017

أضف تعليق

رسائل الرئيس للمصريين

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2