غادة البشاري* تكتب: كونٌ يخترق القلوب.. فيَقلق

غادة البشاري* تكتب: كونٌ يخترق القلوب.. فيَقلقغادة البشاري* تكتب: كونٌ يخترق القلوب.. فيَقلق

* عاجل8-7-2020 | 15:41

كانت الكلمات شبيهة بالكتل الجمرية التي يلفظها بركان ثائر، أو كأنها المادة الخام للقنابل والمتفجرات؛ كان يتحدث وعيناه تستعر غيظًا، وقلبه مفعمٌ بالكراهية الطاغية فوق كل محاولة لإخماد لسعة نبرته. و حين أوشك أن ينتهي، أخذ يترصد ملامح وجهي، ويراقب حركة يدي ، وانحناءاتي، و كأنه يتأهب لمناورة رد فعل قارص وحاد ، أوتَد حُجتها بنفسه، غير أن ابتسامة فاترة تمطت فوق ملامحي أردته في ريبة من أمري، كما كان وقع صمتي عليه بمنزلة الانتكاسة في خطته الاستعراضية تلك. كل من يعرفني يعرف أنني لا أؤمن بالحديث القسري للأزمة ، ولا الخضوع لابتزاز اللحظة، أو استعراض الملاكمة الكلامية على شرف قضية الساعة .. أسلّم جدًا بالفناء الدائم للحظة الحاضرة.. والمجد لمن امتلك عزيمة اجتيازها دون إيغال في القبح والّلمم. " عندما تكون على حق تستطيع أن تتحكم في أعصابك، أما إذا كنت مخطئًا فلن تجد غير الكلام الجارح لتفرض رأيك " هكذا أنصفني مهاتما غاندي . غير أني أقف قليلاً وأتأمل سؤالاً يلحّ بين فينة وأخرى : إلى أي مدى يمكن للكاتب أن يتجاوز التضارب والاختلاف ،فيما هو يتخبط بين أوحال واقع أخرق، و بين تجسيد الأهداف العليا لضمير المثقف ؟ّ .. وما وقع رسوخه في جُبّ مذهبه إذا ما أصبح الأمر لديه قيمية انتماء ؟ّ! حقيقة أنا لا أعرف ... أتوقع أن يتكفل الأصدقاء بإجابتي .. أو ربما أجعله متنًا لأحد موضوعات صالون متون الثقافي الذي أديره ...ولأبدأ الآن مناورات مقال اليوم... دعوني أمرُّ لكون يخترق القلوب .. فيَقلق تصيدنا أنفاس الأماكن, تغرقنا ندّاهتها في اجترار سلطويّ موقوت , يحدث في لحظة ما, خارج حدود يومياتنا المعتادة , و تحت وطأة ذاكرة حارقة , "فنجان قهوة يا عمي محمد".. يقول عبد الرحيم بصوت مخنوق, بينما تنبجس تنهيدة حارقة من - وسط كبده - تمازج كلماته, كعادته عشية كل يوم , تنقاد سيارته إلى هنا مروراً بالمناطق المحببة لديه دون إيعاز منه , كفعل جامح جبريّ ,تمتثل لنداهته كل جوارحه, بل كل أنفاسه .. "يا الله يا عمي محمد ..قديش قهوتك لها نكهة خاصة " كأنه يقصد.. لها مرارة اصطفاف الذواكر، ونكهة الأيام الفارّة ...وربما كان يسعى لأن يجد مبرراً لنفسه , وحُجة تلتقطه بعيداً عن ديمومة الانصياع هذه .. هل هي القهوة ؟!.. هل يمكن لفنجان قهوة أن يصبح أكبر من القلق.. من الشتات .. بل أكبر من الواقع ذاته؟! ربما فلسفة المكان و الرائحة , تماما كجدلية المادة والروح...أو ربما مرارة الانتماء تلاحقه... لم يكد يستقر على كرسيه، ويتناول قهوته، حتى رأى في الزاوية المقابلة له رجل بجسم ضئيل ناحل، ووجه أخفت ندبه العميقة ملامحه الأولى، يرتدي بدلة عسكرية أنهكها القِدم، يتحدث للجالسين بنبرة مستأنية ثقيلة، ، كأنه فقدَ فكه السفلي في معركة ما، راح ينصت إليه وهو يسرد مشاهد مبتورة ، ومتقاطعة ،عمّا جرى من بطولاته في هذا المكان، تارة بإسقاط قناص داهية على سطح تلك البناية، وأخرى بقطع الطريق على إمدادات العدو القادمة عبر البحر، ثم يتعثر بفتوة معتصمية حال إنقاذ أسرة كانت عالقة في منزلها أثناء تبادل الرصاص... الحكواتي...الحكواتي من جديد ، ربما هي لعنة المقال الفائت تلاحقني ...أتخيله يمد لي لسانه الآن من بين السطور. أشاح بوجهه ناحية النافذة، فضل أن يستبقي على ما تبقى من عقل لديه، أنفاس المكان كانت تكبل روحه , همهمات الموج الناحب تخترق أسماعه, رائحة الخبز الساخن الذي كان يشتريه من المخبز المقابل للمقهى مازالت تستوطن أنفه, وتُثمله بعيداً عن دمدمات الواقع. كان خلف هذه البناية بيته؛ في زقاق صغير, يتفرع من شارع " فياترينو ", بالقرب من سوق الحوت, يخرج كل صباح ليحتسي قهوته عند الحاج محمد, الذي كان مقهاه يطل على الكورنيش مباشرة, , ثم يعود حاملاً الخبز لأبنائه ؛ .. أين صباحه الآن ؟! .. في يقظة مميتة كهذه، يصبح القابض على الحقيقة، كالقابض على الجمر...ولا ملاذ له سوى قلب الصفحة، لأنه يعي جيدًا أنه لن يبلغ من إدراك الحقائق شيئًأ.... ليس في المقال متسعًا لسرد قصة عبد الرحيم .. ربما في مقال آخر.. أو عند قلق آخر. ………………………………… * أديبة وشاعرة وكاتبة ليبية
    أضف تعليق

    أكتوبر .. تفاصيل الحكاية

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين

    الاكثر قراءة

    تسوق مع جوميا