مى رشدى صالح تكتب: فراشات الربيع!
مى رشدى صالح تكتب: فراشات الربيع!
"أمى.. لم تبق على الولادة إلا يومان- لابد أن تتفرغى لى بأى شكل وتحضرين "السونار" سترين ابنتى الجميلة وسأسميها مريم إنك مثلى تعشقين هذا الاسم".
وأى اسم أجمل من هذا، إنها العابدة لربها وإن شاء الله يكون لها نصيب من اسمها- فلكل أمرئ نصيب من اسمه ولذلك سميتك نهى لشدة ذكائك.
قهقت الأمتان الصغيرة والجدة وتبادلنا الابتسامات- أى روح تلك التى تكاد أن تنقسم بينهما- متماثلتان فى معظم الأحيان ومتعلقتان ببعضهما بشكل يفوق كل وصف.
نهى ليست مجرد ابنة شديدة البر واللين بأمها وليست كتلة حياة تبرق بفض الإرادة والطموح والموهبة إنها صحبة من النسوة المختلفات ف جسد محدود صغير غير أن كلهن صاحبات مبدأ وفراسة.
طوال الطريق ظلت الجدة تنسج بخيالها صورا أو صورا لمريم حفيدتها القادمة التى سوف تأخذ من أمها ذاك البريق المتأجج فى العيون ومن أبيها بديع طبعه وابتسامه التى تسبق كل لفظ وحركة.
ثم جاء (السونار) وحضرت الجدة - كم تشتاق إلى حفيدتها الأولى وتحبها - لا أحد يتصور أن أعز من الولد ولد الولد إلا من عرف ابنة مثل نهى وانتظر قدوم حفيدة مثل مريم.
كان الاضطراب يزداد دخلها كلما اقتربت من (السونار) لترى وجه مريم "لأن ابنتى على وشك الولادة وحفيدتى تدور فى أحشائها دورانها الأخير قبل أن تستقبل هذا العالم بجنونه.
تدور مريم وتخفى وجهها فى رحم أمها ولا يرى وجهها أحد لكن الطبيبة تطمئن الجميع أن الأميرة القادمة فى غاية الصحة والعافية وأنها تنعم براحة قصيرة قبل أن تبدأ رحلة الحياة فسبحان المحيى المميت.
يومان هرج ومرج بين آلام المخاض، ثم ترقب وشوق ودعاء وهرولة وتضرع ثم الجدة تخر ساجدة أن يغيث الغياث ابنتها وهى تدعو بكل دقيقة من ثناياها إن يجبر خاطرها ويسلمها.
نوع من الصمت الحذر فى صالة الانتظار ربما تكون الولادة متعسرة وربما طرأ طارئ جعل الفريق الطبى ينسحب كل فى هدوء إلى وجهته ولا يرجع أيهم إلى الجدة ليطمئنها.
ثم حضرت طبيبة تسوق خبرا بنوع من الالتفاف المبهم وأكدت أن الأم فى حالة جيدة جدا وأنها لم تتوقف عن الدعاء لأمها فى حجرة التوليد وأنها ابكت كل من حولها فى الاسترسال بالدعاء لها بالرحمة والمغفرة لأنها ذاقت نفس المخاض الذى ذاقته أمها ثم غرقت فى الدعاء لكل الناس بكل قوة وجارحة، والفريق الطبى فى خلفها يشتد عزمه بقول (أمين.. أمين).. حتى ظنوا أنها لا تلد ولا يتبلور لديها بيان ما هى فيه.. بعضهم يحاول مساعدتها لأن تشد من الطلق وتفرغ من مهمتها وبعضهم مثلها يشتد فى الدعاء ويردد وكأن يوم الحشر يحين وبين (اللهم.. ويارب) جاءت مريم، وكلمة أمين تخرج من قلب هذا وذلك وانسحب الجميع فى هدوء ولا أكثر.
مريم لها عيون غير أمها وابتسامة غير أبيها لها جمالها الأروع ونورها الأبهى وبهاؤها الخاص.
وعن قصر شديد فى الإلمام بالوضع وعن سذاجة أكبر سألت الجدة الطبيبة وهى تغرق فى دموعها.
يعنى إيه ذات احتياج خاص أقصد هل تستطيع الطفلة عندما تكبر، أن تركب الدراجة يوما؟.. ولم الدراجة قصدا لا أحد يعلم.
فى حينها إن شاء الله.
وهمست الجدة للطبيبة: إذن لى عندك رجاء أن تحتفظى بالأمر بيننا لا يصل إلى نهى حتى يوم الأربعين من الولادة وحتى تتملك عافيتها.
نهى قبل الأربعين كانت تقلب مريمتها الرضيعة بين كفيها ولأن الله حباها بموهبة فائقة فى الرسم كانت تقيس بحسها وإدراكها أبعاد مريم.
وصدقت ما تراه وعرفت أن مريم طفلتها صاحبة ابتلاء جميل مثل ألوانها الجميلة فوق لوحاتها الجميلة وأنه لا يمكن أن يكون إلا ابتلاء فوق كل الجمال لأن الابتلاء قدر الله وعطيته يختص به بعض عباده المخلصين لينظر أيجزعون أم يصبرون؟! وليزيدهم مغفرة فوق المغفرة ورحمة فوق الرحمة، وعرفت أنه لأشد من كل ما عرفت من الابتلاءات وأنه لأحب إلى قلبها من روحها وأنه بكل الدنيا وما فيها مما تشتهى الأنفس وأنه لهدية من رب العالمين وأنه لشدة اليقين باستجابة ربها حين سمع صوتها على بابه فى بيته الحرام حين وقفت بين يدى الرحمن الرحيم تسأله أن يعطيها من عطائه ابنة، أو ابنا، يكون ظهيرا لها فى الدنيا والآخرة، تنصر به دين الله ومعا إلى الفردوس الأعلى يحشران إن شاء الله تعالى إلى بارئهما ويبعثان فى نعيم الخلد.
ومريم يملأ نورها البيت ويملأ حبها وهيامها قلوب كل من حولها- كالفراشة فوق ورد الربيع تلين مع عبق الزهر ترى بشفافيتها الناس على حقيقتهم تقترب من كل مرحب بها وتفيض عليه من بهائها وتأخذ إلى الخلف خطوات ابتعاد عن كل من لا يرى هذا البهاء.
نعم.. إن لمريم لبهاء ونور تراه نهى وتراه جدتها بل توقنان به وأن لها وقعا فى النفوس الواعية ورهبة وأنها لحجة على أصحاب العافية يوم القيامة حين يسألون عافيتك فيم أضعت؟.. فسبحان الله الذى جعلها ممن لهم فى الحياة احتياج ولهم فى الآخرة نور تعبر به ووالديها إلى جنات الخلد وإن لمريم نور مثل نور مثيلاتها من فراشات الربيع اللاتى لا يعرفن الحسد ولا الكره ولا الظلم ولا الغيرة ولا الأنانية ولا أى من شرور كل الناس الأصحاء المنغمسين فى الدنيا ولهوها.
كلهن فراشات كل ربيع وكلهن فى هذا الربيع جئن إلى مريم وأمهاتهن- يتزاورن وتعين بعضهم البعض فى أمسية هادئة حفتها ملائكة الرحمن وحضرتها الجدة وهمست فيها لنفسها قائلة:
"ابنتى نهى.. بارك الله لك فى عافيتك وصحتك وفى حبك للخير.. وفيكن جميعا مريم وصاحبات مريم فراشات الربيع وأمهاتكن جمعكن الله الولى فى أعلى الفردوس أنتن جميعكن عرفتن أن الربيع فى هذا العام ليس ربيعى وحدى- جعلتن من صبركن الجميل على ابتلائكن الجميل ربيعا سندسيا دائما على أرض ثقل ظلها بذنوب العباد وفى عالم لا يعرف الآن إلا الخريف الجاف.
بكت وأخفت دموعها المنهمرة ألا تراها مريم وتسأل أول ألا تبكى الفراشات معها.