د. قاسم المحبشى* يكتب: الطائفية قنبلة شديدة الانفجار ولبنان شاهد حال ومآل
د. قاسم المحبشى* يكتب: الطائفية قنبلة شديدة الانفجار ولبنان شاهد حال ومآل
ما الذي يفسر انبعاث هذه الموجة الكاسحة من خطابات الهوية، والطائفية القاتلة التي أخذت تشيع في المجتمعات العربية الإسلامية اليوم على نحو خطير، ومثير للحيرة والفزع؟ وكيف نفهم بقاءها، وديمومتها على مدى آلاف السنين؟ وهل الطائفية مشكلة اجتماعية إنسانية عامة، أم خاصة «عربية إسلامية تحديداً»؟ وكيف تجاوزتها المجتمعات الأخرى؟ حروب طائفية مستعرة في كل مكان، شيعية – سنية مسيحية، عربية – كردية في العراق، وسوريا، ومسيحية – شيعية – سنية – درزية في لبنان، وزيدية حوثية اثنا عشرية – سنية سلفية إخوانية عشائرية في اليمن في فضاء ثقافي نفسي مشحون بعنف رمزي، وهستيريا عصابية جماعية عدائية شديدة التحريض والانفجار: «روافض، نواصب، خوارج، مجوس، صفويون، قاعدة، أنصار الشريعة، حزب الله، أنصار الله، داعش، النصرة…»، والسؤال الملحُّ هنا الآن هو: ما الذي جعل «التنوع الهوياتي»، والتعدد الطائفي في المجتمع العربي الإسلامي يتحول إلى شر مستطير، بينما هو في مجتمعات كثيرة أخرى مصدر قوة، ودليل صحة وعافية، كما هو الحال في الهند، والصين، وروسيا، وأمريكا، وإثيوبيا وغيرها من الدول، التي تضم طيفاً واسعاً من الهويات «ديانات، أعراق، إثنيات، لغات، أقليات، طوائف، ملل، نحل ومذاهب»، وما لا يعد ولا يحصى من الجماعات الثقافية، والإثنية المتنوعة؟! وكيف لنا أن نطمح إلى إنجاز خطاب «أبستمولوجي» في موضوع «سيوسولوجي» دائم الحركة والتحول والتغيُّر والتبدل شأن جميع الظواهر الاجتماعية، إذ إن الباحث في هذه الحال يكون جزءاً من الظاهرة المراد بحثها، بوصفه إنساناً يعيش في مجتمع يؤثر ويتأثر، وينفعل بما يعتمل فيه من قضايا وأحداث صغيرة كانت، أم كبيرة، تمارس تأثيرها المباشر على حياة جميع أفراد المجتمع، الذين يعيشون الحياة بسياقها الحي والمباشر، تلك الحياة التي نمنحها تسعة أعشار وقتنا، الذي نعيشه في عالمنا الواقعي المعيشي الفوري، بلا ماض ولا مستقبل، عالم اللحظة الحاضرة الراهنة المباشرة، عالم الحياة، وتدفقها بـ «ملموسيتها»، وكليتها، أي الحياة اليومية البسيطة المملوءة بالانشغالات الروتينية، والمتطلبات المعيشية الملحَّة الصغيرة، والروتينية، التي تستغرق الكائن الاجتماعي الساعي إلى إشباع حاجاته بمختلف الوسائل والسبل والحيل، والتقنيات، والعادات والتقاليد، والأساليب والصراعات، والرهانات والتفاعلات، والنجاحات والإخفاقات، والمكاسب، وكل أنماط العلاقات والممارسات اليومية، التي ننهمك فيها وتشكِّل فعلاً عصب الجسد الاجتماعي برمَّته، أي الحياة بلا مزايا، التي يسمِّيها عالم الاجتماع جلير دوران بـ «الجو الخانق» هذا الأمر لابد لنا أن ندرسه من منظور منهجي نقدي تاريخي ثقافي، يتوسل المفاهيم الأساسية وهي: الهوية، وعلاقات الهيمنة، والطائفة والطائفية، والأقليات، والآخر. فضلاً عن بعض المفاهيم المساعدة الأخرى مثل مفهومي الاعتراف، والإنصاف بالاتساق مع منطق العلم المعني ليس بماذا يفعل الناس، وكيف يسلكون، وماذا يقولون؟ بل بما هو أهم: لماذا يتصرفون على هذا النحو؟ ولماذا يقولون ما يقولونه عن أنفسهم وعن الآخرين؟ ولماذا يُدركون العالم على هذا النحو؟ وتنطلق فرضيتنا الأساسية من الاعتقاد بأن الهويات، بمختلف صيغها الجمعية، ومنها الطوائف المتنوعة، ليست مشكلة في ذاتها وبذاتها، كما أنها ليست مشكلة دينية خالصة، وإن بدت كذلك أحياناً، بل هي ظاهرة اجتماعية سياسية تاريخية ثقافية متصلة بحياة الكائن الحر المفطور على التنوع، والتعدد، والاختلاف، إذ لا يوجد شخصان، حتى بين أولئك الذين لا يرتابون قط في ثقافتهم، متماثلان حدَّ التطابق، ومن ثم فإن «التنوع الهوياتي» في الوضع الأصلي، هو مصدر ثراء ونماء وازدهار للحياة الإنسانية، غير أن ما يجعله يتحول إلى «هويات قاتلة، وطائفية خطيرة»، هو علاقات الهيمنة، وسياسات إدارة شبكة القوة وتصريفها، حيث تبرز الهويات بمختلف صيغها وصورها، وتمثلاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية «بسيطة ومركبة، ميكرو وماكرو سوسيولوجي، أنا أنت، ذات آخر، نحن أنتم، نحن هم»، بوصفها رهانات صراع حول التسمية، والتصنيف، والتعريف، صراع يستهدف تمكين، أو حفظ وإعادة إنتاج علاقات الهيمنة، أو قلبها، وتغييرها بصيغ علاقات أخرى، وبذلك يمكن تشبيه الهويات بـ «الفارماكون الأفلاطوني، السم والترياق» وبهذا المعنى يمكن للهوية أن تكون سلاحاً ذا حدين، فهي من جهة تؤدي وظيفة إيجابية، تمنح الجماعة شعوراً بالانتماء والقوة والثقة، وهذا هو سر جاذبيتها السحرية، ومن جهة أخرى تسعى إلى تأكيد الاختلاف والتميز والاستبعاد للآخرين، وسرعان ما تتحول إلى تعصب وعنصرية وكراهية في المجتمعات غير الصحية. وفي محاولتنا التمييز بين الطائفة والطائفية يمكن القول أن كلمة طائفة أثارت كثيرا من سوء الفهم والتفاهم بين الناس، إذ قلما نجد كلمة أخرى غيرها في أيامنا أثارت تلك الأمواج العاتية من الانفعالات والتفاعلات المشحونة بالتوتر والاضطراب، بسبب الخلط بين كلمتي طائفة وطائفية، فضلا عن الخلط بين الدين والسياسة، مما يدعونا إلى التمييز بينهما. إذ إن كلمة طائفة هي من (طاف، يطوف، طواف، فهو طائف) تعني جماعة أو زمرة أو جزء، فالبناء اللفظي يحمل معنى حركة الجزء في الكل دون أن ينفصل عنه، فمن الممكن أن يجتمع عدد من أفراد قوميات متعددة في طائفة واحدة بخلاف أوطانهم أو لغاتهم، مثل الطائفة الإسماعيلية في الهند واليمن والعراق وأوروبا وغيرها. وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم (وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) الحجرات. وهذا هو معناها في المعاجم والقواميس العربية، وهي ترمز إلى حالة التعدد والتنوع الاجتماعي الثقافي للناس في منظومة الوحدة الإنسانية، وبهذا المعنى تختلف الطائفة عن الطائفية بما تحمله (الطائفية) من شحنة أيديولوجية عالية التوتر وشديدة الانفجار، ومن ثم فإن علينا الاحتراز والحذر من تعريفاتها الآتية من السياقات المغايرة، لاسيما الغربية المعلمنة تحديدا، إذ إنهم لا يميزون بين طائفة وطائفية، فهذا عالم الاجتماع الإنجليزي أنتوني جندز يعرف الطائفة بأنها «الجماعة الدينية التي فقدت حيويتها وقدرتها على التجدد وأصبحت هيئة ممأسسة ينصاع لسلطتها أعداد مهمة من الناس» وهذا ما دفع بعض الباحثين العرب إلى التشديد على التمييز بين مفهومي الطائفية والطائفة كما جاء في مقالة للكاتب العراقي عبد رب الحسين شعبان (الطائفة والطائفية.. المواطنة والهوية!) إذ أكد «أن الطائفية تختلف اختلافاً جذرياً عن الطائفة، ذلك أن الأخيرة هي تكوين تاريخي وامتداد اجتماعي وإرث طقوسي تواصل عبر اجتهادات فقهية ومواقف نظرية وعملية، في حين أن الطائفية، هي توجّه سياسي يسعى إلى الحصول على امتيازات أو مكافآت باسم الطائفة أو ادعاء تمثيلها أو إثبات تمايزات عن الطوائف الأخرى، حتى إن كان بعضها فقهياً أو شكلياً، وأحياناً مفتعلاً وأغراضياً بهدف الحصول على المكاسب» ومن هنا تبرز أهمية المنظور النقدي للمسألة الطائفية، بدلا من الاكتفاء بإدانتها مع ضرورة التمييز بين التعصب والانتماء،وي ذهب المفكر السوري برهان غليون إلى أن الطائفية هي «مجموع الظواهر التي تعتمدها الجماعة من أساليب ما قبل سياسية في سبيل تحقيق مكاسب أيديولوجية» فالدين ليس نهج اعتقادات وحسب بل هو كذلك نهج قوى اجتماعية وسياسية متصارعة. وتكمن ميزة الدين في قوة تأثيره السحرية في ضمائر وعقول المؤمنين به ودفعهم للقيام بما يطلب منهم في أي وقت من الأوقات، والصراع ينبه إلى إجراءات تحقيق الذات للنحن الطائفية. و«يستجيب تبلور الطوائف الفائرة لطلب الترحم بالانتقال إلى بنية نفسية للحرب تكون بمنزلة جواب تكيفي على التهديد الخارجي. ويدفع تجدد التوتر (نحن – هم) بالجماعة المنخرطة نحو فضاء ذهني انكفائي بشكل مضاعف، يتميز بالمقابلة بين (جيد – رديء ، نظيف – وسخ)، التي تختص بها الانفعالية الطفولية، وبالمقابلة (مقدس – مدنس، داخل – خارج) التي يختص بها رد الفعل الديني على التهديد. ويضاف مجددا البعد الجدالي لانفعالية الزمرة إلى البعد الانفعالي للمناظرة.. «فليس (هناك) أفضل من مؤمن لتعذيب مؤمن آخر شرط أن يكون من الطائفة ذاتها. فأتباع المسيح المخلّص قد اغتالوا بلا ريب، في زمانهم من المسيحيين أكثر مما اغتال أتباع (الهلال) الخصيب» بحسب دوبريه
وهكذا تتجلى الطائفية بوصفها خطابا أيديولوجيا يهدف إلى تفعيل الطائفة وتشغيلها بوصفها رأسمال اجتماعي ثقافي مادي ورمزي لتحقيق مكاسب استراتيجية متنوعة بالمعنى الواسع للكلمة، والطائفية تخفي الطائفة، كما تخفي السياسة السياسي.
ويصعب فهم الهويات الجماعاتية بمختلف صيغها الذاتوية وتفسير نشوئها وتبلورها (أقليات، طوائف، مذاهب، ملل، نحل) بمعزل عن شبكة علاقات الهيمنة بين (الأنا – الأخر – ال نحن – ال هم) إذ إن كل شي هنا مرهون بالكيفية التي نتمثل فيها صورة الآخر، إذ «يرتبط سؤال الآخر ارتباطا تكامليا بسؤال الهوية. فالهويات تتكون نتيجة لعبة الاختلاف.. فالآخر هو ما يروغ من شعورنا وتعرفنا، وهو ما يكون خارج (ثقافتنا) وجماعتنا. فهو اللا ذات واللا نحن، إذ كيف نتوافق مع واقعية آخر الآخرية مع الغيرية والغريب والمجهول؟ كيف نهتم بالتعرف المزعج فعلا على أهمية الآخر لـ (نحن). فالاختلاف والغيرية هو أصل وأساس الهوية. ويذهب الفيلسوف جيل دولوز إلى أن «كل الهويات ليست بأكثر من اختلاقات مصطنعة بوصفها «أثرا» بصريا عن لعبة أعمق هي لعبة الاختلاف» وحينما تحل الطائفية وتستشري في بلد ما كما هو حال لبنان والعراق واليمن يحل الخراب والتفكك في الدولة والمجتمع. إذ ليس بعد إسقاط الدولة الجامعة غيرُ ميلاد نظام الطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر، وانقسام الشعب الواحد إلى «شعوبٍ» بعدد العصائب والمناطق، واصطدام هذا الخليط ببعضه مدفوعاً، كُلاً وأبعاضاً، بمنازع الاستيلاء والسيطرة، وبأوهام إمكان بناء سلطةٍ على حدود الجماعة الأهلية التي يبدأ تَمَايُزُها من غيرها في التعاظُم والاتساع! ليس بعد إسقاط الدولة غير توليد نقيضها/ نقائضها حُكْماً: إذا كانت الدولة، أيّ دولة، ترمُز إلى النظام والسلطة والقانون – أيّاً تَكُن طبيعةُ تلك السلطة والنظام والقانون – فإن حالة اللادولة هي حالة الفوضى العامة والمعمَّمة، والحرب الأهلية: الساخنة والباردة، والتَّخاوف الخوف المتبادل).
………………………..
* أكاديمى وشاعر وأديب يمنى