القس بولا فؤاد رياض يكتب عن: عيد صعود جسد السيدة العذراء مريم إلي السماء
القس بولا فؤاد رياض يكتب عن: عيد صعود جسد السيدة العذراء مريم إلي السماء
تحتفل الكنيسة يوم ٢٢ اغسطس الموافق ١٦ مسرى من كل عام بعد فترة صوم مدته ١٥ يوم بعيد صعود جسد السيدة العذراء مريم الي السماء.
إن العذراء والقديسين حينما يتشفعون عن ضعفنا، لا تكون هذه الشفاعة إلا هذه الصلة السرية القائمة حقاً وفعلاً بيننا وبينهم بحكم الجسد الواحد، وهم فيه أكثر حركة وحرية منا. إذ حتماً يستحيل أن يكونوا هم في قوة ونكون نحن في ضعف دون أن تسري قوتهم لضعفنا بحكم قدرتهم هم على ذلك، وبحسب إيماننا وقبولنا نحن إن كنا حقاً جسداً واحداً. كما يستحيل أن يكونوا هم في فرح الخلاص الكامل ونحن نكون في حزن عجزنا عن تكميل هذا الخلاص دون أن يسري فرحهم إلينا، فيعزي قلوبنا ويشددنا في جهادنا لتكميل خلاصنا، كما كان كذلك يكون من جيل إلى جيل، إلى أن تكمل الأجيال حسب خطة الخلاص العظمى بنفس الروح الذي بدأت به.
وهكذا يحتفظ لنا التقليد اليوم بعيد من أحب الأعياد إلى الناس عامة. وبهذا العيد أيضاً ينجح التقليد في أن يثبت صحة نفسه وأهمية وجوده، إذ ينقل إلى المجتمع الكنسي على كافة مستوياته وطبقاته خبرة روحية من منابعها الأولى عميقة غاية العمق، سهلة غاية السهولة في إطار من البهجة والفرح والرجاء لم تَقْدُم ولم تشِخْ، مع أنها تختص بأعقد مشكلة من مشاكل اللاهوت وهي مصير الجسد بعد الموت، ونصيبه من الخلاص العام.
فلتفرح الكنيسة اليوم بتهليل القلوب المؤمنة، كما فرحت السماء بدخول جسد العذراء بتهليل الملائكة ...
وليكن لنا في هذا العيد خبرة روحية نعيشها بيقين خلاص الجسد، عالمين أنه كما سكنه الروح القدس وطهَّره وجعله هيكلاً لله، سيغيره الله حتماً حسب الوعد ويلبسه الشكل السمائي لكي يليق أن يكون، مع الرب كل حين.
ـ صعود جسد العذراء مريم وتجلي الأجساد :
اليوم نحن بصدد تكريم جسد العذراء، فصعود جسدها إلى السماء هو عمل تكريمي فائق من قبل السماء. تكريم أجساد القديسين عقيدة أرثوذكسية، هذه العقيدة لا تنبع من فراغ.
موسى بعد مقابلة طويلة مع الله، استلم فيها الوصايا والناموس، أخذ وجهه يلمع بصورة لم يحتملها شعب إسرائيل، لأن النور الذي كان يعكسه وجه موسى كان نوراً إلهياً، والنور الإلهي يعبِّر عن حضرة إلهية، فالله كان يُرى في وجه موسى، لذلك اعتفى الشعب العاصي من رؤية وجه موسى لأن الخطية والله لا يمكن أن يتواجها، فلبس موسى برقعاً، اعتبره بولس تعبيراً عن عمى بصيرة هذا الشعب.
- وَلَيْسَ كَمَا كَانَ مُوسَى يَضَعُ بُرْقُعًا عَلَى وَجْهِهِ لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى نِهَايَةِ الزَّائِلِ.
ـ بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى الْيَوْمِ ذلِكَ الْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بَاق غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، الَّذِي يُبْطَلُ فِي الْمَسِيحِ.» (٢كو٣: ١٣، ١٤)
ثم عاد بولس الرسول يقول إن كانت خدمة الناموس الذي جلب الدينونة والموت أنشأت هكذا مجداً منظوراً للجسد ولمعاناً وإشراقاً لوجه الإنسان يمكن أن يُرى بالعين البشرية؛ فكم، بالأولى أو بالأحرى تنشئ خدمة البر من مجد؟؟
والآن، وعلى هذا الأساس، نقول فيما يختص بالعذراء، وجسد العذراء ووجه العذراء:
إن كان موسى, عند استلامه مجرد كلمات مكتوبة بأصبع الله، صار وجهه يلمع تعبيراً عن المجد الذي أصاب الجسد؛ فكم يكون المجد الذي يمكن أن يصيب جسد العذراء عندما تقبلت في أحشائها كلمة الله نفسه، ابن الله بشخصه متخذاً من جسدها جسداً له بعد إعدادٍ بواسطة الروح القدس وتظليل كلي بقوة الله من داخل ومن خارج. أيَّ مجد، إذن، أصاب جسد البتول؟ أو كما يقول بولس الرسول إن كانت خدمة الدينونة التي استلمها موسى بالوصايا والناموس أنشأت فيه مجداً نضح على جسده البشري نوراً إلهياً دام معه، فكم تنشئ بالحري خدمة البر التي اؤتمنت عليها العذراء بحلول النور الحقيقي في أحشائها وقبوله جسداً من جسدها؟
كلنا نعلم كيف أمات الله موسى ودفنه بنفسه في جبل ”نبو“ في رأس ”الفِسجة“ بعيداً عن أعين الشعب خوفاً من انحراف قد يصيب الشعب فيقوموا بعبادة جسده، لأنه يبدو أن النور ظل يشع منه حتى بعد موته، لذلك قيل عنه في سفر التثنية: «ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم» (تث ٣٤: ٦). ثم نعود ونقرأ شيئاً في رسالة يهوذا عن جسد موسى، يكشف عن أهمية خاصة لجسد موسى, أن ميخائيل رئيس الملائكة لما خاصم إبليس محاجاً عن جسد موسى وقال له: «لينتهرك الرب»! (يهوذا ٩)
ويبدو من هذا أن رئيس الملائكة ميخائيل كان منوطاً به حراسة الجسد أو الصعود به إلى السماء. وحاول إبليس أن يسترده أو يكشف عن مكانه لتضليل الشعب. فوقعت معركة بينهما استنجد فيها رئيس الملائكة بالرب باعتباره رئيس جند السماء.
فإن كان قد صار اهتمام الله هكذا أن يقوم بدفن موسى بنفسه ثم تعيين رئيس الملائكة ميخائيل لحراسة الجسد أو ربما الصعود به إلى السماء -- حسب تقليد اليهود -- وكل هذا كان بسبب أن جسد موسى نضح عليه مجد الله وانعكس عليه نور وجهه بسبب تواجده مع الله أربعين يوماً وقبوله من يديه وصايا مكتوبة، إذن، فيكون تكريم الأجساد في العقيدة الأرثوذكسية لا ينبع من فراغ، وبالتالي كم يكون اهتمام الله والمسيح نفسه بجسد العذراء بعد نياحتها الذي نال حلولاً دائماً للروح القدس وملء النعمة وتظليلاً خاصاً بقوة العلي ثم حلول المسيح القدوس كلمة الله تسعة أشهر في أحشائها؟
صحيح أنه لم يبلغنا أن جسد العذراء كان يلمع بنور سمائي، ولكننا نعلم يقيناً أن هذا كان تمادياً أو امتداداً للإخلاء الذي جازه المسيح ليخفي مجد لاهوته، لأن المسيح نفسه في كل أيام حياته لم يلمع جسده إلا مرة واحدة ولفترة قصيرة يوم التجلي؛ ومع أنه هو النور الحقيقي نور العالم كله الذي ينير دائماً أبداً لكل إنسان!!
واضح، إذن، أن هناك تدبيراً إلهياً وخطة وتصميماً لإخفاء كل مجد المسيح، وبالتالي العذراء، حتى لا يخرج الإيمان بالمسيح عن حدوده المرسومة، وحتي لا يفقد الصليب عاره، ولا تدخل كرامة العذراء في حدود عبادة أو تكريم يكون خاصاً بالله فقط.
فاليوم إن كانت الكنيسة تعيِّد لأن السماء قد قبلت جسد العذراء كرامة للمسيح الذي حملته، فلنفرح جميعاً فرحاً يؤول إلى ثقة لأننا ننتظر نفس النصيب، إذ صرنا نحن أيضاً أعضاءً في جسده ولحماً من لحمه وعظماً من عظامه، كما إننا نستمد من فرح العذراء وهي قائمة عن يمين الرب قوةً وعزاءً وصبراً وجهاداً حسناً أكثر مما نستمده من جميع القديسين، لأنها أُم لهذا «الجسد».
فإن كنا قادرين حقاً بقوة إيماننا بسر الكنيسة كجسد واحد، وبقوة إيماننا بأن اهتمام الأعضاء في هذا الجسد السري هو اهتمام واحد --- حسب قول الوحي الإلهي على فم بولس الرسول (١كو١٢: ٢٥) -- إذاً فنحن قادرون أن نستمد قوة دائمة من فرح القديسين ونستمد لأنفسنا معونة من تكريم الله لهم؛ ثم أليست هذه هي الشفاعة؟
........................................................
* كاهن كنيسة مارجرجس بالمطرية القاهرة