عاطف عبد الغنى يكتب: خاطفة الأطفال

عاطف عبد الغنى يكتب: خاطفة الأطفالعاطف عبد الغنى يكتب: خاطفة الأطفال

* عاجل8-7-2017 | 11:29

أشك فى أن هذا الوجه البائس الذى طالعناه فى صور الواقعة، هو لامرأة عشرينية العمر.. فوجه «نبوية» فى الصور المنشورة أو الفيديو الذى تداوله المصريون بهوس على وسائل التواصل خلال الأسبوع الماضى يعكس أمارات للبؤس والشقاء لامرأة كابدتهما لأربعين أو خمسين عامًا!

هل ترانى تعاطفت معها؟!

 لقد تكاثر الرجال والشبان والأطفال على ضعفها وقاموا بضربها وسحلها، ووصل بهم الغل إلى ربطها فى عمود إنارة، وذلك على أثر اتهامها بمحاولة سرقة طفل رضيع لبيع أعضائه، واتضح فيما بعد أن هذه التهمة كاذبة، وأن «نبوية» كانت فقط تستهدف سرقة جهاز محمول من أحد المنازل بمنطقة عشوائية ببلبيس.. ولولا تدخل الشرطة فى وقت مناسب وتحرير «نبوية» من مخالب السباع الجارحة المسكونة بشهوة الانتقام لحدث ما لا يحمد عقباه، وما استوجب الأسف المجتمعى لأيام وشهور قادمة.

(1)

التحقيقات الأولية كشفت براءة نبوية من تهمة خطف الطفل الرضيع، لكن صحافتنا الكسولة التى تعاملت مع الواقعة بسطحية كانت تبحث عن عوامل الإثارة فى واقعة «أرض علوان» العشوائية أكثر من بحثها عن الأسباب والدوافع عند السارقة، أو رد الفعل السلوكى المزعج عند الأهالى، وقد وصل غضبهم إلى درجة الهيجان والاندفاع الجماعى لمعاقبة امرأة بوحشية وهى فى كل الأحوال ضعيفة، حتى ولو كانت لصة تسرق أجهزة المحمول أو الأطفال، وفى حالة الجريمة الأخيرة قد يرى البعض أنها لا تستحق الشفقة أو التعاطف، ولكن – من وجهة نظرى - على الأقل، كان يجب أن تقدم للجهات المسئولة فور إمساك الأهالى بها للتحقيق معها ومحاكمتها وعقابها عن جريمتها، عقابا يكافىء الجرم الحقيقى الذى ارتكبته، بعد التثبت منه، وليس الاقتصاص الغوغائى منها الذى كان يمكن أن يصل إلى حد إزهاق روحها على جريمة سرقة تليفون محمول.

(2)

مرة أخرى: ما الذى دفع أهالى منطقة «أرض علوان» إلى هذا السلوك تجاه «نبوية»؟!

حاولت أن أجد للسؤال إجابة موضوعية متجردة من العواطف، تجاه الضحية والجلاد، وبحثت عن حوادث سابقة شبيهة، فتذكرت سريعا العديد من الوقائع المماثلة والشبيهة التى حدثت تحديدا بعد ثورة 25 يناير 2011.

 وكان الأهالى فى تلك الحوادث يندفعون فى استجابات عدوانية جماعية لعقاب مجرم أوقعه حظه العاثر فى أيديهم، وكانوا يفعلون ذلك تعويضًا عن الغياب النسبى للجهات المسئولة عن تأمينهم، أو بسبب ما كنا نطلق عليه فى حينه الترهل الأمنى.

 وكان أكثر ما يكون هذا السلوك ظهورًا فى المناطق غير الحضرية (القرى والنجوع والمناطق العشوائية)، وهذه المناطق لها قوانينها الخاصة التى يتعامل بها أفرادها مع بعضهم البعض بعيدًا عن سلطة الأمن التى يسمونها «الحكومة»، وبغض النظر أن هذه القوانين أو الأعراف لم تعد من قبيل القيم الإيجابية (مثل الماضى) وصارت أقرب إلى قانون الغابة، حتى صار البقاء المعنوى فيها للأقوى، أو حسب نظرية (البيت اللى مافيهوش صايع.. حقه ضايع) إلا أن العنف والاستعداد الدائم للسلوك العدوانى صارت محددات أساسية ترسم ملامح الحياة فى هذه المناطق، وبات فيها الانتصار الجماعى، قرية ضد قرية، أو منطقة ضد منطقة، وفئة ضد فئة، أمرًا طبيعيًا وسلوكًا معتادًا يحرك المشاعر، والأفعال.

باتت أيضًا رغبة إظهار التفوق والقوة لدى الشباب والمراهقين فى هذه المناطق المشار إليها - حماية للنفس ودرءًا للأذى - دافعًا قويًا للمشاركة فى حفلات الإيذاء الجماعى (كما فى حالة نبوية) مع ما يكتنف هذه الحفلات من إثارة غريزية غاضبة، تشبه العدوى، وإضافة إلى كل ما سبق فهناك حالة غضب مجتمعية تؤججها مشاعر خوف، وقد باتت حكايات خطف الأطفال للإتجار فى أعضائهم حديثًا دائرًا فى البيوت المصرية، كلما خفت أو انقطعت، أعادته وسائل التواصل والصحافة الكسولة الباحثة عما يثير الناس وليس عن المعلومة الصحيحة أو المعمقة، وهل هناك أغلى من الضنى عند المصريين؟!

(3)

«الأربعاء الخامس من يوليو الحالى» كان خبر نبوية، منشورًا فى الصفحة الأولى مكرر لإحدى الجرائد اليومية القومية، وفى مكان بارز فى صفحة الحوادث لجريدة أخرى دون تصحيح أو توضيح لحقيقة الحادث، أو البحث فيه بشكل موضوعى. وفى ذات اليوم، وفى سياق قريب.. شغل أيضا تقريران منشوران على مساحة كبيرة من الصحيفتين  تحقيقات نيابة الأموال العامة فى القضية المتهم فيها 41 رجلًا وامرأة متهمون بجرائم «نقل وزراعة الأعضاء البشرية، والإتجار فى البشر والتزوير والتربح من أعمال الوظيفة العامة..» والتوصيف السابق للجرائم منقول من صحيفة «الأهرام»، فيما كان عنوان التقرير المنشور فى «الأخبار»: «إحالة عصابة الإتجار بالبشر وزراعة الأعضاء للجنايات».

والقضية ضبطتها الرقابة الإدارية، وهى مشكورة على جهدها، وسبب الشكر أن هذه الجريمة التى كانت ترتكب بشناعة منذ سنوات فى مصر لم تتصد لها الأجهزة الأمنية أو الرقابية بهذا الشكل، أو قبل هذه القضية التى نحن بصدد تناولها.

وفى برنامج مذاع على القناة الثالثة بالتليفزيون المصرى وقد طُلب منى التعليق على الخبر المنشور فى «الأهرام»، ذكرّت جمهور المشاهدين أن جريمة نقل الأعضاء كانت تحدث أمام أعيننا لسنوات خلت، ولم نحرك ساكنًا، وكان الجميع يعرف ويقبل بها إلى الدرجة التى جعلت أحد الفقراء (قبل ثورة يناير 2011) يلصق إعلانا على مبان فى وسط البلد كتبه بخط يده، ويعرض فيه كليته لمن يشترى بسبب حاجته للنقود.

أما تفاصيل القضية التى شملت 41 متهمًا، فمتاحة لمن يرغب فى معرفة المزيد، ولكن اللافت للنظر أن الاتهام فيها توزع على 20 طبيبًا، بينهم أساتذة جامعيون و10 من الممرضين (ملائكة الرحمة)، بالإضافة إلى 9 وسطاء أو سمسارة واثنان يعملان فى بنك الدم (لزوم التحليلات).

والعمليات التى أجروها كلها تقتصر على نقل «الكلى»، والزبائن كلهم تقريبا غير مصريين «غالبا عرب لا تسمح دولهم بمثل هذه العمليات»، أما أصحاب البضاعة فهم للأسف الفقراء، الذين اضطرتهم الظروف لدخول هذه الدائرة الجهنمية.

 ولا بد أن نتوقف هنا ونسأل: ما هى دوافع الدكاترة والأطباء لارتكاب هذه الجريمة؟! هل هو السعى إلى الثروة بأى وكل الطرق حتى الحرام والمؤثم منها؟! البحث عن إجابة لا بد سوف يعيدنا مجددًا للبحث فى أحوال المجتمع وسلوكيات أفراده.

(4)

وسوف نلجأ لنفس نظريات علم الاجتماع التى تمنحنا الأسباب التى نفسر بها حالة «نبوية» اللصة البائسة التى اقتحمت أحد المنازل نهارًا لسرقة جهاز محمول، والأسباب التى دفعت أهل المنطقة الذين اعتدوا عليها بعنف مبالغ فيه، والأسباب التى يمكن أن نجد فيها تفسيرات لسلوك ما أطلقت عليه الصحافة (عصابة الإتجار فى الأعضاء البشرية).

وهذه الأسباب لن تخرج عن إحساس لدى كثيرين فى المجتمع بالإحباط، والحرمان، والغيرة من الآخرين، وقناعات أخرى بغياب العدالة الاجتماعية، والنزوع إلى التمرد على الواقع، وغيرها من الأسباب التى اجتمعت فى نفوس لم تستطع المقاومة، فاستسلمت، بعد أن أوجدت لنفسها المبررات، لأن تعصى الله وتتجاوز القانون.

وقد تكون حياة المصريين فيها الآن من المنغصات الكثير، بداية من غلاء الأسعار إلى فساد القيم وغياب القدوة، لكن مازال الأمل - المستمد من الإيمان بالله وإرادة الإصلاح - معقودًا على شرفاء هذا الوطن.

أضف تعليق

خلخلة الشعوب و تفكيك الدول

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2