ثلاثة أيام تفصلنا عن ذكرى أكبر حدث في تاريخ بحريات العالم, استطاعت البحرية المصرية خلاله أن تقدم فيه رسالة قوية للعدو.. مفادها «المصريون لا يعرفون الهزيمة» فأغرقت المدمرة إيلات.
لم تمر سوى أربعة أشهر فقط على 5 يونيو 67 التي كان مخطط أن تكون بداية لرسم خريطة جديدة للمنطقة.
كان الهدف أن تصل إسرائيل إلى مُبتغاها (التوسع على حساب الأراضي العربية) وأن تفرض واقعًا جديدًا على المنطقة العربية.
بدأ التحرك على أكثر من مسار لتأكيد ذلك.. محاولات متواصلة لتزييف الوعي، صناعة الجواسيس، العمل على هدم الدول من الداخل، خلق حالة من الرفض الداخلي لقرارات الحكومة والقيادة.
لكن الأمر لم يسر وفق ما خُطِّط له.. فحطم الشعب المصري وجيشه الحلم الإسرائيلي، وصنع واقعًا حقيقيًا مرتكزًا على الحق، ومدافعًا عن الكرامة.
على مدى 6 سنوات، واجه المصريون أكبر حرب ممنهجة على كافة المستويات، لينتصر المصريون في السادس من أكتوبر 73 محققين الهدف والغاية، محطمين العديد من النظريات العسكرية التي تحدثت عنها في العدد الماضي.
لكن هل كان تحطيم المصريين للخريطة التى كان جرى الإعداد لها لرسم حدود الدول العربية من جديد عقب 67 هو نهاية الحُلم؟ أم أن التحرك نحو رسم خريطة للمنطقة بحدود جديدة على أشلاء دول المنطقة.. ما زال حُلمً يراود الدول الطامعة فى التوسع على حساب الأراضى العربية (تركيا، إسرائيل) وبتعاون مع قوى دولية وبعض الطامعين فى الحصول على مكان فى المشهد ولو على أشلاء الأشقاء؟
(1)
الحقيقة أن «أكتوبر 73» حطم الحلم الخاص برسم خريطة جديدة للمنطقة، فقد كان المخطط إطالة أمد الأوضاع الجديدة (احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة) واحتلت إسرائيل أكثر من ثلاث أضعاف المساحة التى اغتصبتها وأقامت عليها دولتها المحتَّلة عام 48، وجاء «أكتوبر» بمثابة زلزال مدمر ليطيح بالاستراتيجية الإسرائيلية - الأمريكية التى استهدفت فى الأساس الحالة النفسية لشعوب المنطقة خاصة المصريين وخلق حالة من القبول بالأمر الواقع الجديد، وبدا ذلك واضحًا خلال حديث هنرى كيسنجر مع الرئيس السادات عندما طلب منه الرئيس السادات فى 1971 بضرورة تدخل الولايات المتحدة الأمريكية للضغط على إسرائيل لتنفيذ قرار مجلس الأمن الصادر فى 22 نوفمبر 1967 والذى نصت المادة الأولى منه، الفقرة أ، على: «انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضى التى احتلت فى النزاع الأخير».
كان رد كيسنجر: «من الصعب الضغط على إسرائيل الآن.. الموقف ثابت، ولا بد أن يكون هناك جديد على الجبهة».
أكد ردُ كيسنجر للرئيس السادات أن واشنطن وتل أبيب قد اتفقتا معًا على أمر جلل وهو تثبيت الحدود الجديدة وأن تواصل إسرائيل رسم خططها المستقبلية على هذا الأساس، فقد قامت ببناء مستعمرات لها فى الأراضى العربية التى احتلتها عقب 5 يونيو 67، لإحداث حالة من التغيير الديموغرافى فى تلك المناطق.
أدركت الدولة المصرية حجم المخطط، وهو ما اتخذت من أجله قرارها (الحرب) فما أُخذ بالقوة لا يُستَّرد إلا بالقوة.
(2)
تم استكمال الإعداد للحرب الفاصلة من أجل استرداد الأرض فى الوقت الذى لم تتوقف فيه المواجهة الدبلوماسية، وعمليات بناء الوعى من أجل التصدى لمحاولات العدو المستمرة لتسطيح العقول.
ففى الوقت الذى نجح فيه د. عبد القادر حاتم على بناء إعلامًا مصريًا قويًا، يستطيع أن يعود إلى الصدارة ويجعل الشعب يصطف خلف قواته المسلحة، كانت أفلام المقاولات تحاول تسطيح العقول، ويحاول البعض استخدامها للإسقاط على الأوضاع السياسية والعامة.
ولأن إسرائيل كانت تعتبر أن ما حدث فى يونيو 67 دليلًا على قوة جيشها وقدرته على المواجهة، فقد روجت لذلك لخلق حالة من اليأس لدى شعوب المنطقة وصناعة واقع غير حقيقى، وهنا كانت الكلمة الفصل من الجيش المصرى الذى ظل على مدى 6 سنوات يزرع الرعب فى إسرائيل من خلال عمليات نوعية خلف خطوط العدو لقوات الصاعقة، التى قال عنها ديان أنها كانت بمثابة «الرعب المستقر تحت أحجار سيناء».
(3)
عقب انتصار 6 أكتوبر 73 أدركت إسرائيل أن المواجهة المسلحة مع مصر أشبه بالانتحار، فالجيش الذى استعاد قوته خلال 6 سنوات وحقق ما لم يستطع أى من المراكز العسكرية أن يتوقعه لا يمكن مواجهته.
فالشعب المصرى تحول إلى جيش بعد أن ساند كافة قرارات القيادة السياسية بإعلانها الحرب، وأصبحت الجبهة الداخلية وتحركات بعض القوى جزء من الخداع الاستراتيجى الذى استخدمته القيادة المصرية فى الوصول للنصر.
الأمر الذى جعل الإدارة الأمريكية وإسرائيل تتخذان استراتيجية مغايرة فى التعامل مع الوضع الجديد فى المنطقة خاصة بعد أن حقق نصر أكتوبر الهدف الاستراتيجى له، وهو استرداد كامل التراب الوطنى المصرى.
إلا أن توقيع اتفاقية السلام لم يعجب البعض، وهنا بدأ التحرك سريعًا بالنفخ باتجاه معارضة الاتفاقية، للحيلولة دون حصول مصر على كامل ترابها الوطنى، خاصة أن واشنطن كانت قد فتحت كافة مخازن الأسلحة الاستراتيجية لحساب تل أبيب منذ يوم 18 أكتوبر 1973.
طفقت بعض الأبواق إعلامية تندد بالاتفاق وتتهم الرئيس السادات وقتها بالخيانة، محاولة التأثير على العقل الجمعى لرفض الاتفاقية والضغط على القيادة السياسية المصرية.
لكن رؤية الرئيس السادات للمشهد بدقة واستشرافه للأحداث، جعلته لا يلتفت لكافة المحاولات الرامية إلى إفشال السلام، فأدار المفاوضات بحنكة شديدة جعلته يحصل على كامل التراب الوطنى دون انتقاص.
(4)
عقب توقيع اتفاقية السلام بدأ العمل على استهداف العقول فى المنطقة من أجل محاولة إضعاف الولاء والانتماء للأوطان، وضرب القيم والثوابت المجتمعية من أجل خلق مجتمعات تفتقر إلى قيمها وثوابتها الأخلاقية، وخلق حالة من الفوضى المستترة لتصل فى مرحلة من المراحل إلى الفوضى المدمرة.
فباسم الحرية تستطيع أن تفعل أى شىء، طالما لم تستطع التمييز بين الحرية المسئولة والحرية التى قد تؤدى إلى الفوضى.
عقب استشهاد الرئيس السادات بدأت ما تُعرَف بمنظمات المجتمع المدنى العمل تحت شعار دعم الحريات وحقوق الإنسان.
فى الوقت ذاته وباسم الحريات بدأ التحرك للوصول إلى صناعة حالة من التمرد على القيم المجتمعية وهدم ثوابت كانت بمثابة ركائز يستند إليها الوطن فى مواجهة التحديات.
لم تدرك الدولة خلال تلك الفترة أنها أمام حرب ممنهجة، لابد أن تكون المواجهة معها ببناء حالة من الوعى لدى المواطن، لتصبح بمثابة المصل المضاد فى تلك المعركة.
تُرِك المجتمع فريسة لتشويه المفاهيم، فأصبحت الكلمات الخادشة للحياء أمرًا عاديًا بعد أن تم ترديدها فى أعمال الدراما والسينما، واتُّهم من يرفض الابتذال بأنه رجعى ويحاول تقييد الحريات، وزاد عدد المناطق العشوائية، التى تحولت إلى أحد أوراق اللعبة لاستغلالها من جانب مقدمى التقارير الدولية لتصبح ورقة ضغط ضد الدولة.
فى الوقت ذاته تم التواصل مع عدد من الطامحين فى القفز إلى صدارة المشهد غير آبهين بأى شىء سوى الوصول إلى الهدف (السلطة) حتى ولو على حساب وطنهم.
على مدى ربع قرن تقريبًا استمرت عمليات تفريغ العقول أو تفريخ الفوضويين وتشويه الواقع والخلط بين الحكومة والدولة، فأصبحت المفردات تطلق دون تدقيق، وأصبح لفظ النظام والحكومة مرادف للدولة، وهو ما يخالف الواقع فالنظام والحكومة يقوم بإدارة أمور الدولة وفق أحكام الدستور والقانون.
فالأنظمة والحكومات تتبدل ولكن تبقى الدولة ومؤسساتها.
كما تم العمل على توجيه العقل الجمعى باستهداف بعض مؤسسات الدولة للنيل من ثقة المواطنين وكانت المؤسسة الأمنية تمثل الهدف الأول لتلك التحركات، لأن إسقاط المؤسسة الأمنية (وزارة الداخلية) بمثابة إعلان للفوضى، لأنها تمثل الدرع الواقى للجبهة الداخلية فى مواجهة الفوضى.
لذا ركزت ما يُعرف بالمنظمات الحقوقية والمجتمع المدنى على قطاع الأمن، لخلق حالة من العداء بين المواطن والمؤسسة الأمنية، الأمر الذى بدا واضحًا فى 2011.
ومع أحداث يناير 2011، خرج البعض يتحدث عن متغير جديد على الدولة المصرية وشعبها، ملقيًا باللوم على الشعب، بل إن البعض قد صرح بأن «الثورة أخرجت أسوأ ما فى الشعوب» ولكن الحقيقة أن ما حدث كان نتيجة عمل مُمنهج لم تلتفت له الحكومات ولا النظام لأكثر من ربع قرن، فكانت النتيجة.. الاندفاع نحو الفوضى.
ولولا إدراك المجلس العسكرى خطورة المخطط ووقوفه صلبًا فى وجه محاولات إسقاط مؤسسات الدولة المصرية، ودعم القوات المسلحة لوزارة الداخلية لتعيد السيطرة على الأمن الداخلى للبلاد، لسقطت الدولة فى شباك مخطط تفكيك الدول جراء الفوضى المدمرة.
لقد أحدث السادس من أكتوبر تغييرًا غير مسبوقًا في استراتيجيات التعامل مع المنطقة عام 73 بعدما أجهض مخطط إعادة ترسيم الحدود العربية بعد يونيو 67، كما أجهض المصريون مخطط تقسيم وطنهم الذي حاولت قوى الشر تنفيذه في عهد الإخوان.