ماجد بدران يكتب: تشريع عالمى يجرم الإساءة للأديان ورموزها المقدسة
ماجد بدران يكتب: تشريع عالمى يجرم الإساءة للأديان ورموزها المقدسة
لم تكن الأزمة فى الأديان أبدًَا بل فى بعض أتباعها، ولم تكن الأزمة فى الإسلام أبدًا بل فى بعض المسلمين.. فهل يمكن لمسلم عاقل يعرف دينه بحق أن يتعاطف مع من فصل رأس مدرس التاريخ الفرنسى عن جسده لمجرد أنه عرض رسومًا مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم؟.. المدرس الفرنسى فعل ذلك من خلال مبادئه التى يؤمن بها، والذي يمكن من خلالها سب السيد المسيح والتطاول على الذات الإلهية دون التعرض لأى عقاب.. فهذه هى فرنسا التى تقدس القيم العلمانية.. حادث ذبح المدرس حلقة فى سلسلة جرائم ارتكبت كذبًا وبهتانًا باسم الإسلام، كما حدث لجريدة شارلى إبدو وحوادث طعن ودهس فى شوارع ومدن فرنسا.. المسألة شائكة ومتشعبة الجوانب وعلاجها ليس سهلاً ومستقبلها لا يبعث على التفاؤل.
فرنسا دولة لا دينية منذ عام 1905 فدستورها ينص فى مادته الثانية أنها «جمهورية علمانية» لكنها تحترم كل الأديان، وتم التأكيد على ذلك فى دستورى 1946 و1958 أن الجمهورية الفرنسية علمانية، فهى بموجب ذلك لا تعترف بأى دين ولا تموّله، علمًا بأن القانون يضمن حرية المعتقدات والممارسة الحُرة للأديان.
ونظريًا وقانونيًا يُعامَل الإسلام كما تُعَامل كل الأديان، بما فى ذلك الكاثوليكية التى كانت الديانة الرسمية قبل الثورة الفرنسية.
والإسلام هو الدين الثانى فى فرنسا، ويتراوح عدد المسلمين بين 5 إلى 6 ملايين، أغلبيتهم من دول المغرب العربى يمثلون حوالى 80% من مسلمى فرنسا.
وتوفر الحكومة أراضى لبناء المساجد فى جميع مدن فرنسا ولا تفرض أى ضغوط أو قيود على المسلمين فى ممارسة شعائرهم، ورغم أن المسلمين فى فرنسا يشكلون حوالى 10% ممن لهم حق التصويت الانتخابى، لكنهم غير ممثلين فى الهيئات القيادية للأحزاب أو المؤسسات السياسية بشكل يتلاءم مع حجمهم، ورفع نسبة مشاركة المسلمين الفرنسيين مسألة طويلة ومعقدة، وتعتبر فرنسا قياسًا بدول أوروبية أخرى متخلفة على صعيد مشاركة المسلمين فى الحياة السياسية، والمشكلة ليست فى نسبة المشاركة فقط، ولكن فى توعية الرأى العام بمشاكلهم وقضاياهم الحقيقية.
وهناك تحديات تواجه مسلمى فرنسا أولها الزواج المختلط زواج المسلمة من غير المسلم – وهو منتشر بكثرة بين الشباب، والجهل بوسطية الإسلام بين الشباب وقيمه السمحة مما يدفعهم نحو التخلى عن الدين أو إلى التعصب والتشدد.
ويعانى المسلمون من الصورة السلبية للإسلام والمسلمين وعداء اليمين المتطرف لكل ما هو إسلامى، وبسبب التنظيمات الإرهابية التى ترفع كذبًا وزورًا شعارات إسلامية، فيخلط الرأى العام الفرنسى بين الإسلام والإرهاب.
ولا شك أن التوتر الموجود فى فرنسا نتيجة تراكمات شعور مسلمى فرنسا بممارسة نوع من التمييز ضدهم، والاعتداءات العنصرية التى شهدتها فرنسا منذ عام 2003 كانت ضد العرب والمسلمين ولم يتناولها الإعلام الفرنسى بالشكل العادل، ومعاناة المسلمين فى فرنسا من التمييز أكدها استطلاع أجرته مؤسسة «جان جوريس» أكد أن نصف المسلمين تقريبًا يعانون من التمييز والعنصرية.
وقد حاول عدة رؤساء وضع طابع فرنسى على الإسلام، بما يضمن تناغمه داخل المجتمع ويتماشى مع القيم العلمانية، وفى هذا الاتجاه صرّح ماكرون مرارًا أنه «لن يكون هناك أى مكان فى فرنسا للذين يحاولون فرض قانونهم الخاص باسم الله أو بمساعدة قوى أجنبية».
ومؤخرًا جاءت تصريحات إيمانويل ماكرون والذي أعلن خلالها عن خطط لسن قوانين أكثر صرامة للتصدى لما أسماه «الانعزال الإسلامى» والدفاع عن القيم العلمانية وأوضح ماكرون أن أقلية من مسلمى فرنسا يمثلون خطر تشكيل «مجتمع مضاد».
وجاءت جريمة الجمعة قبل الماضية لتفجر الموقف وتجعل له ردود فعل محلية وعالمية لم تتوقف بعد، عندما تم ذبح مدرس التاريخ الفرنسى على يد طالب من أصول شيشانية بعد أن عرض المدرس على طلابه رسومًا مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم من مجلة شارلى إبدو.. وتم قتل مرتكب الجريمة البالغ من العمر 18 عامًا برصاص الشرطة، وقع الحادث بالتزامن مع محاكمة تجرى فى باريس ضد متهمين بالهجوم على مجلة شارلى إبدو عام 2015 بعد نشرها رسومًا كاريكاتيرية مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم.
الرئيس ماكرون صرّح عقب الحادث: إن حادث الجمعة يحمل كل بصمات «هجوم إرهابى إسلامى»، وأضاف أن الضحية قُتل لأنه درس حرية التعبير لطلابه.
وفى حديثه من موقع الحادث بعد ساعات من وقوعه، أكد الوحدة الوطنية وقال: «لن ينتصروا ولن يفرقونا».
الأزهر الشريف أدان حادث مقتل المدرس الفرنسى، وأكد رفضه لهذه «الجريمة النكراء» ولجميع الأعمال الإرهابية مشددًا على أن القتل جريمة لا يمكن تبريرها بأى حال من الأحوال، ودعا إلى ضرورة تبنى تشريع عالمى يجرم الإساءة للأديان ورموزها المقدسة، والتحلى بأخلاق وتعاليم الأديان التى تؤكد احترام معتقدات الآخرين، والابتعاد عن إثارة الكراهية بالإساءة للأديان.
كما أدان مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء ذبح المدرس الفرنسى معتبرًا أن ما حدث هو عمل إرهابى لا يعبر عن صحيح الإسلام ولا رسالته السامية.
وأوضح المرصد أن العالم اليوم يعيش على وقع أزمة كبرى يسعى المتطرفون من كل جانب إلى تحويلها إلى صدام بين أصحاب الأديان، ونشر الفتن والصراعات، وعلى عقلاء العالم التنبه لهذا الخطر والتصدى للدعايات المتطرفة على كلا الجانبين، ونشر رسائل السلام والطمأنينة، واحترام المقدسات الدينية لأصحاب الأديان، وقطع الطريق أمام المتربصين والداعين للعنف والتطرف، فالإساءة للإسلام ومقدساته تعد الوقود الأساسى لتنظيمات العنف والتطرف، ويجب وقف تلك الأعمال الاستفزازية والتصدى لها حفاظًا على سلامة المجتمعات واحترامًا لقيم الأفراد ومعتقداتهم، خاصة أن اليمين المتطرف الغربى يسعى دائمًا إلى استفزاز المسلمين والإساءة إلى مقدساتهم وإطلاق دعاية عنصرية ضدهم، الأمر الذى يصب فى خانة إذكاء الصراع وتوسيع الهوة بين أبناء المجتمع الواحد.
إن جريمة ذبح المدرس تفرض اتخاذ وقفة جادة لدراسة كل أسبابها الحقيقية ووضع الحلول لمواجهتها وعدم تكرارها هى أو غيرها مستقبلاً، إن المشكلة الأكبر التى تواجه المسلمين فى فرنسا والدولة والمجتمع الفرنسى هى فقدان الثقة بين الجانبين، والانحياز المسبق فى وعى هذا الطرف أو ذاك، فالمسلمون تختزن ذاكرتهم فظائع الاستعمار الفرنسى فى بلدانهم الأصلية، وفى نفس الوقت يرجعون الواقع المتردى للضواحى والأحياء التى يقيمون بها وانتشار البطالة وانخفاض مستوى معيشتهم مقارنة بأقرانهم الفرنسيين، إلى تحيز الدولة ضدهم والسياسات التمييزية التى تتبناها بعض الجهات فى مواجهتهم، أما الدولة والمجتمع فهناك صور نمطية مترسبة لديها مثل اتهام المسلمين بالعنف وميلهم إلى ذلك، ورفضهم الاندماج وتحدى قيم المجتمع الفرنسى.
هذه المشاكل تحتاج إلى حلول سياسية واقتصادية ومجتمعية وإعلامية للتخلص منها، وإعادة بناء الثقة بين الطرفين واتخاذ إجراءات لتبديد الشكوك المتبادلة وتقليص تسييس المشكلة واستغلالها لصالح بعض الأطراف الداخلية أو الخارجية، ووضع وتنفيذ برنامج وطنى بمبادرة من الدولة الفرنسية ضد الإسلاموفوبيا بمشاركة المؤسسات الرسمية والمجتمع المدنى.
إن مواجهة التطرف والإرهاب لن تجدى إلا إذا كانت المواجهة للمتطرفين على الجانبين، والقضاء على أسبابه ودوافعه، وإلزام الأفراد والمؤسسات التعليمية والإعلامية وغيرها باحترام المقدسات الدينية كافة، واعتبار أن الإساءة إلى أحد الأديان يعد اعتداءً جسيمًا على المجتمع بأسره يعاقب عليه القانون، ومن ثم وجب على الدولة مهما كانت توجهاتها وقيمها التصدى لها بكل قوة وحزم.