محمد المصرى يكتب: فى ذكرى رحيله.. أنيس منصور برلمانياً حتى النخاع
محمد المصرى يكتب: فى ذكرى رحيله.. أنيس منصور برلمانياً حتى النخاع
عندما تمر علينا الذكرى التاسعة لرحيل الكاتب الكبير أنيس منصور هذه الأيام تتداعى الذكريات والحكايات عن هذا الأديب والمفكر والمبدع.. ورغم أنه كان أستاذاً متميزاً وفريداً فى عالم الصحافة.. وصاحب أرشق عبارة فى الصحافة المصرية والعربية وأجمل عناوين يكتبها قلمه.. إلا أنه كان برلمانياً قديراً فى نفس الوقت.. فقد اختاره الرئيس أنور السادات من ضمن الأعضاء المعينين فى أول مجلس للشورى فى عام 1980 ووصل عددهم إلى 70 عضوا.
وكان هذا المجلس يضم عدداً كبيراً من رموز السياسة والصحافة والأدب والفن ورجال الدين.. أذكر منهم إبراهيم سعده وتوفيق الحكيم وثروت أباظة وأمينة السعيد والشيخ أحمد حسن الباقورى ومحمود المليجى وهمت مصطفى وصفية المهندس وعبد المنعم الصاوى وحسن حلمى رئيس نادى الزمالك الرياضى والشيخ محمد متولى الشعراوى ولكنه لم يحضر إلى المجلس ولم يحلف اليمين الدستورية وغيرهم كثر.
وقد أثرى الأستاذ أنيس هذا المجلس خلال عضويته التى امتدت على مدى 24 سنة وبالتحديد من 1980 حتى 2004 بأفكاره وآرائه واقتراحاته.. وكان عضواً فى لجنة الثقافة ومشاركا فى جميع اللجان، ورغم كل أعماله ومهامه ومشاغله إلا أنه كان حريصا على الحضور إلى مجلس الشورى.. والمساهمة فى المناقشات التى كانت تجرى تحت القبة.
وكان بعض النواب فى مجلسى الشعب والشورى يستشهدون فى كلماتهم عند تعرضهم لبعض المواقف السياسية أو القضايا المصرية بما يكتبه على صفحات مجلة أكتوبر أو فى عموده «مواقف» فى جريدة الأهرام.. فقد كانت مقالاته ودراساته تمثل لهم كنزا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا .. يقتبسون منه أو يستشهدون به ليؤكدوا كلامهم أو يدللوا على أهميته.
ولم يقتصر دور الأستاذ على عضوية مجلس الشورى فقط.. ولكن كانت عيناه على ما يحدث فى مجلس الشعب أيضا ومتابعاً لجلساته ومناقشاته.
وأذكر أنه فى إحدى المرات كان حاضراً فى مجلس الشورى ، ولم يصبر حتى يعود إلى مجلة أكتوبر لتكليفى بعمل تحقيق صحفى عن سرقة الآثار المصرية، وكانت هناك حادثة شهيرة تمت فى الأقصر.. ولكنه اتصل بى من مجلس الشورى ليقول لى:
اذهب إلى الأقصر فوراً بالطائرة ومعك مصور.. وحقق الموضوع واستكمل الجانب القانونى فى مجلسى الشعب والشورى، وهل نحن فى حاجة إلى تعديل القانون لمواجهة مافيا الآثار، وتهريبها للخارج أم لا؟.. وعشرات الأسئلة التى قالها لى تليفونيا.
ونفذت ما قاله لى بالحرف الواحد وخرج التحقيق الصحفى بعنوان :"ولا أثر للصوص الآثار" ، وأضاف عنوانا آخر «.. ومازال لصوص الآثار يخرجون لنا ألسنتهم»!.
والحقيقة أننى كنت أحد المحظوظين عندما اختارنى الأستاذ الكبير أنيس منصور رئيس تحرير مجلة أكتوبر فى السبعينيات لأكون مندوباً للمجلة فى مجلس الشعب .. وأمدها بالأخبار وعمل التحقيقات الصحفية لكل ما يدور تحت القبة ..
فالمحرر البرلمانى يعتبر من أكثر المحررين حظاً فى العمل الصحفى .. فهو فى قلب الأحداث.. وشاهداً عليها وقريب من صناعة القرار
ولا أنسى أبداً كلماته لى عندما رشحنى للذهاب إلى مجلس الشعب لأول مرة فى نهاية عام 1977 للعمل مع الكاتب الكبير زهير الشايب- رحمه الله- صاحب ترجمة كتاب "وصف مصر " الذى وضعه العلماء الفرنسيون.. وتضمن جغرافية مصر وأحوالها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أثناء الحملة الفرنسية واحترقت إحدى نسخه الأصلية فى حريق المجمع العلمى - لتغطية أحداثه ومتابعة جلساته ولجانه.
وقال لى يومها بالحرف الواحد :
" إن مصر كلها تحت عينيك وبين أصابعك.. وأنك سوف تذهب إلى كنز صحفى لا يتاح للكثيرين من المحررين.. فحاول أن تمدنا بكل ما فى المجلس من أخبار وتحقيقات وتقارير برلمانية ومقالات".
وأكد لى أنه غير متعجل فى أن أبدأ العمل فى البرلمان، ولكن قال لى: ادرس وتابع أولا وكون شبكة علاقات مع الأعضاء.. وتابع اللجان بكل دأب ونشاط، فهى المطبخ الرئيسى لأى برلمان فى العالم.. ثم ابدأ الكتابة.
وكانت هذه هى مدرسة أنيس منصور الصحفية القائمة على العلم والدراسة والعلاقات والبحث والتنقيب وراء الخبر.. فهو لا يرفض أى فكرة تعرض عليه، حتى ولو كانت «محروقة أو بايته» بالتعبير الصحفى.. ولكنه كان يطورها لنا ويرشدنا إلى المصادر الجديدة التى يمكن الاستفادة منهما.. سواء كانت مصادر حية أو دراسات أو كتب أو حتى نسافر إليها فى شمال مصر أو جنوبها.. وكان لا يجد غضاضة فى أن يتصل لنا بالمصدر ويقدمك له بأفضل كلمات.. وربما يحجز لك موعدا معه.
وأذكر أنه قال لى: أذهب إلى د. فؤاد محيى الدين رئيس لجنة الشئون العربية فى مجلس الشعب فى ذلك الوقت: تحدث معه، تعرف على أفكاره واتجاهاته وأجرى معه حوارا صحفيا.. ونفذت ما قاله لى، وبعد أيام عين السادات د. فؤاد محيى الدين نائبا لرئيس الوزراء.. وعرفت منه أنه التقى بالأخ أنيس عند الرئيس السادات على حد تعبيره، وفهمت بعد ذلك لماذا قال لى الأستاذ اذهب إلى د.فؤاد محيى الدين- رحمه الله.
لقد كان حقا أستاذا.. ولكنه الأستاذ المتواضع بعلمه وثقافته الموسوعية وخلقه.. وكان يتعامل معنا- رغم أننا كنا فى بداية الطريق - كأننا زملاؤه ولسنا تلاميذه.. ولم يغضب منى فى يوم من الأيام إذا راجعته فى عنوان أو معلومة.. ولكنه كان يقول لى دائما: اقترح ما تريد.. وكان يبدل ويعدل حتى تخرج موضوعاتنا فى أفضل وأجمل صورة تحريرا وإخراجا.
ورغم نجوميته التى وصلت إلى الآفاق.. لكننا كنا نفاجأ فى لحظة من اللحظات أنه بيننا فى صالة التحرير ويجلس فوق أحد المكاتب.. ويسأل كل واحد منا: ماذا عنده؟.. ولماذا لم ينته من موضوعه عن «... ...» ويسأل آخر إن كان يعرف نمرة المصدر الفلانى، أو يحدد له موعداً مع أحد مصادرنا .
رحمه الله.. كان فى قمة التواضع مع كل جيلى.. ولم يكن يرتدى ثوب الكبرياء الكاذب والغطرسة والتعالى مثل بعض رؤساء التحرير من عباقرة الجهل الذين جلسوا على كرسى أنيس منصور للأسف الشديد فى غيبة من الأيام والظروف التى تمر بها الصحافة المصرية .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.