عاطف عبدالغنى يكتب: «نوستالجيا» عصر العبيد (!!)
عاطف عبدالغنى يكتب: «نوستالجيا» عصر العبيد (!!)
انتشرت بعد ثورة 25 يناير 2011 قراءة شعبوية نقدية للتاريخ المصرى الحديث، انطلاقا من الميادين التى رفعت مع بدايات الثورة صورة الرئيس جمال عبد الناصر، تعبيرا عن أهم وأوضح مطلب للشعب وهو العدالة الاجتماعية.
وبعد قليل من الوقت ومع انحسار موجات البشر من الشوارع وعودتهم إلى مساكنهم، انتقلت روح النقد الثورية إلى وسائل التواصل الاجتماعى، وبدا من المشاركات والمناقشات المنشورة على تلك الوسائل بكثافة أن هناك تحديدا ثمة إعادة اكتشاف للرئيس السادات كعبقرية سياسية مهضومة الحق، ومع ثورة 30 يونيو وما تمخضت عنه من نتائج ذاع وانتشر نوع آخر من الدعاية كانت تستهدف بشكل خبيث رؤساء مصر القادمين من قلب المؤسسة العسكرية جميعهم بداية من جمال عبد الناصر وإلى الرئيس الحالى عبد الفتاح السيسى.
(1)
وبغض النظر عن الهجوم المباشر الذى طال الرؤساء الأربعة (ناصر والسادات ومبارك والسيسى) واستثنى محمد نجيب، بل محاولة استغلال اسم الأخير فى الدعاية السلبية المضادة للرئيس عبدالناصر تحديدا، انتشرت دعاية أخرى خبيثة جدًا تمجد للحقبة الملكية السابقة على ثورة 23 يوليو 1952، وانتشرت هذه الـ «نوستالجيا» (المصطلح يعنى الحنين المرضى إلى الماضى) بين فئات سنية صغيرة، فى الغالب لم يتح لها الإطلاع على التاريخ بشكل جاد أو عميق، واكتفت بالقشور التى تطالعها على «الإنترنت» ولم تمنح لنفسها فرصة حتى الاستماع لشهادات أحياء من أب أو جد عاشوا جانبا من الحقبتين الملكية والناصرية، وقد ندر هؤلاء الشهود بعد أن مضى على سقوط الملكية ما يقرب من 60 عامًا عند قيام ثورة يناير 2011.
كان من الواضح أن هناك قصدًا لتزييف وعى شباب مصر، وأخذهم باتجاه القطيعة مع الماضى، وبالفعل انخدع بعض الشبان وظهر هذا فى تبادل فيديوهات وصور ملونة (يدويًا) عن أصلها الأسود والأبيض تصور جنة مصر الملكية، (ولم يسأل أحد من عاش فى هذه القصور وتنعم بهذه الحدائق الغناء؟!) وبصحبة الصور هناك عبارات تتحدث عن مصر العظمى التى كانت تقرض الإمبراطورية البريطانية، حتى قامت ثورة يونيو، وديون الإمبراطورية لدى مصر تساوى مليارات، (ديون بريطانيا لمصر ما كانت إلا خدعة من دولة محتلة تسلب إحدى مستعمراتها ثرواتها مقابل صكوك دين لن تسددها) وعبارات أخرى خادعة من مثل امتلاك مصر لأكبر غطاء نقدى فى العالم، أو أن القطن المصرى كان يغزو مصانع لانكشاير، وبورصته أهم بورصة عالمية، وشوارع القاهرة التى كانت تُغسل بالماء والصابون، وتظهر أحدث صيحات المودة فى القاهرة قبل باريس وروما.
وتبلغ الخدعة ذروتها مع الحديث عن عصر الليبرالية والحريات السياسية!.
وقد تبنى هذه الدعاية بشكل أساسى من يوصفون بـ «الليبراليين الجدد» وتلقفها عنهم – أو بالتوازى معهم - الإخوان وأضافوا لها ما سمعناه وشاهدناه على لسان سائق «التوك توك» الشهير فى أحد برامج الفضائيات، وكلامه لا شك أثار تعاطف البعض من المصريين غير الإخوان والليبراليين الذين اختلطت عليهم حقائق التاريخ، ورأوا فى الكلام بعضًا من مشاكهلم الحياتية مثل غلاء الأسعار.
(2)
.. فصيلان دخلا فى صدام مبكر مع ثورة يوليو، وناصباها العداء، هما «الإخوان والوفديون»، وتأسس هذا العداء على اختلاف أيدولوجى مع الثورة ومبادئها الاشتراكية والقومية التى تصادمت مع الليبرالية ولم تتفق وأهداف الإخوان، والسبب الثانى والأهم للعداء هو التفاف المصريين سريعا حول الثورة وقائدها ومع سلب جماهيرية الفصيلين، وتجميد حركتهما لم يعد لهما شرعية تسمح لهما بممارسة دور مؤثر بين الجماهير، وحدث هذا بأسرع مما يتوقع أحد ومع صعود نجم الزعيم عبدالناصر، تحوّل الأخير إلى عنوان لكراهية واضحة عند الفصيلين، لم تنقطع، وفى ذات الوقت لم تسمح لها الظروف بالتمدد، إلى أن جاءت ثورة يناير ٢٠١١ .
(3)
.. المتباكون على الحريات السياسية التى عاشتها مصر أيام «جنة الليبراليين والإخوان» ليسمحوا لنا أن ننقل الكلام من ميدان الإنشاء إلى التوثيق ونطالع أمثلة من نصوص دستور (23) الذى قامت عليه ثورة يوليو.
تنص المادة 158 من هذا الدستور على أنه «لا يجوز إحداث أى تنقيح فى الدستور خاص بحقوق مسند الملكية مدة قيام وصاية العرش، وأجازت المادة 156 تنقيح الدستور فيما عدا ما يتعلق بـ «نظام وصاية العرش».
فى ذات الدستور أسبغ الفصل الثانى من الباب الثالث حقوقا وامتيازات واسعة ومطلقة للملك مثل حق حل البرلمان (م38)، وتأجيل انعقاده (م39) وإنشاء ومنح الرتب المدنية والعسكرية والنياشين وألقاب الشرف الأخرى (التى كانت تباع وتشترى) وحق العفو وتخفيض العقوبة (م43) وتولية وعزل الضباط (م46) وتعيين خمسة أعضاء بمجلس الشيوخ (م74).
وللسخرية فإن باقى النسبة المنتخبة من أعضاء هذا المجلس اشترط الدستور أن يكونوا من طبقات الوزراء، والممثلين السياسيين، ورؤساء مجالس النواب ووكلاء الوزارات، ورؤساء ومستشارى محكمة الاستئناف وكبار الضباط المتقاعدين من رتبة لواء فصاعدا والملاك الذين يؤدون ضريبة لا تقل عن 150 جنيها فى العام.
والهدف من الفرز والتجنيب ترسيخ الطبقية وحماية الإقطاع، وأساسهما أسرة العلويين التى ورثت مصر أبا عن جد.
أما جماهير الفلاحين والعمال والأجراء فكانت تمارس حقوقها السياسية بالكرباج حين تساق جماعات وفرادى لتمنح أصواتها للأسياد، وإذا ما تحرر واحد منهم من عبودية السيد أجبره فقره وعوزه على بيع صوته مقابل قروش قليلة كانت تمثل فى هذا العهد نعيم الدنيا التى يحيونها رُفقة الفقر وصُحبة الشقاء.
(4)
أما الضباط الأحرار الذين خرجوا ليلة 23 يوليو فكانوا يمثلون طليعة الطبقة المتوسطة المصرية الناشئة على أثر التغييرات التى طالت مصر بعد سنوات الحرب العالمية الأولى، وكان أكثرهم أبناء فقراء، وعانوا، وعاينوا فقر ذويهم وأهاليهم فى القرى والنجوع، ولم يُمنحوا فرصة الالتحاق بالكلية الحربية إلا بسبب الحاجة لزيادة عدد أفراد الجيش المصرى على أثر معاهدة 36 وكانت هذه هى الثغرة التى نفذوا منها (راجع قصة جمال عبدالناصر) ليجعل الله منهم الوقود والطليعة الثورية.
وجاءت حرب فلسطين سنة 1948 لتفضح بشاعة الفساد الذى ضرب أطناب الدولة المصرية، وتحول إلى ممارسات يومية فى دائرة القصر والإنجليز والأحزاب، يُضاف إليهم الأجانب من التجار والسماسرة ونهازى الفرص الذين استولوا على اقتصاد مصر ونهبوا ثرواتها وجعلوا لهم دستورًا وقانونًا له اليد الطولى على الدولة وقوانينها (الامتيازات الأجنبية).
هذه هى الرواية التى عرفتها وتأكدت منها عن شعب جائع عار مريض مستعبد، ثار وانتصر لنفسه ولقائد دفعه إلى تكسير قيوده وأغلاله قبل 65 عاما، فى ثورة يحاول المزورون الآن أن يعيدوا كتابة تاريخها بالمقلوب.