ماجد بدارن يكتب: أمنيات مستحيلة
ماجد بدارن يكتب: أمنيات مستحيلة
لو كنت فقيرًا وعشت آلام الفقر لتمنيت أن تعيش غنيًا لتعيش منعمًا كما ينعم الأغنياء، ولو كنت مريضًا محرومًا من ملذات الحياة لتمنيت الصحة والعافية، ولو سألت متعطلاً عن العمل لتمنى وظيفة تكفيه، ولو سألت غنيًا عن أمنيته لتمنى مزيدًا من الغنى.. فأمانى الدنيا لا تنتهى، فالمقل لا يقنع والمكثر لا يشبع، ويظل ابن آدم يسعى ويكدح طول حياته ليحوّل أمنياته إلى واقع، ولا يتحقق إلا ما كتبه الله له.
ولا يزال ابن آدم حريصًا على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب القبر.
وصدق رسول الله حينما قال: «لو كان لابن آدم واد من نخل لتمنى مثله، ثم تمنى مثله، حتى يتمنى أودية، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» رواه الإمام أحمد.
ويفرط الإنسان فى وقته خلال حياته، ويبحث عما يقتل به وقته فيذهب عمره سدى فى غير طاعة، نحن الآن فى نعمة طالما أرواحنا فى أجسادنا، لنكثر من الطاعات وذكر الله والصدقات، لدينا الفرصة لنزيد حسناتنا ونكفر عن سيئاتنا، قبل أن نندم ونتمنى أمنيات مستحيلة، فنحن فى دار العمل والآخرة دار الجزاء فمن لم يعمل هنا ندم هناك، وهذا الندم شعور يلازم ابن آدم فى الدنيا وله مرارة لا ينساها من يتجرعها، وفى الآخرة هو أشد حالات الندم، أو فوات ما يستوجب الندم، لأن التقصير يكون فى حق الله تعالى.
فكم مرة تمنيت شيئًا ولم تدركه؟ كم مرة لم تقم بعمل ما وتمنيت أن تعود مرة أخرى لكى تحققه؟
لكن هناك أمنيات مستحيلة لا تستطيع أن تحققها أو تدركها، لأن الوقت فى هذه الحالة قد فات وأصبح لا وجود له..
و«يا ليتنى».. كلمة تمنى وندم ذُكرت فى القرآن بصيغ عديدة، منها يا ليتنى، ويا ليتنا، ويا ليتها، ويا ليت، وكلها تفيد الندم على أمور تجاهلها الإنسان فى الدنيا ويتمنى العودة إليها مرة أخرى لفعل ما هو خير مما قد فعل.
و«ليت» حرف ناسخ يفيد التمنى، وقد ورد ذكره فى القرآن والسُنّة وفى كلام العرب، وحكم استعمال «ليت» حسب نوع التمنى، إن كان خيرًا فخير، وإن كان شرًا فشر.
وقد تعددت صور الندم فى القرآن الكريم، بداية من الندم على الإشراك بالله تعالى، فى قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدا» الكهف 42.
فقد أحاط الهلاك بثماره التى كان يقول عنها: ما أظن أن تبيد هذه أبدًا، فأصبح هذا الكافر يقلب كفيه حسرة وندمًا على ضياع ما أنفق على جنتيه «وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا» فتمنى أنه لم يكن كفر بالله.
والندم على عدم اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً» الفرقان 27.
والندم على ارتكاب الذنوب التى تستوجب عذاب الآخرة، فى قوله تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» الأنعام 27.
وقوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ» الحاقة 25.
وقوله تعالى: «إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا» النبأ 40.
وقوله تعالى: «وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي» الفجر 23-24.. فيندم على تفريطه فى الصالحات من الأعمال فى الدنيا التى تورثه البقاء للأبد فى نعيم لا انقطاع له.
إن غاية أمنية الموتى فى قبورهم حياة ساعة بل دقيقة، يستدركون فيها ما فاتهم.
ويتمنى الموتى الرجوع إلى الدنيا ولو لدقائق معدودة ليتصدقوا، ليقدموا صدقة لله، ولقد نقل الله لنا أمنيتهم فى قوله تعالى: «وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» المنافقون 10-11.
لقد أدركوا – بعد فوات الأوان – أن الصدقة من أحب الأعمال إلى الله، وأن العبد سيسأل عن ماله، من أين اكتسبه.. وفيم أنفقه؟ إنها أمنية مستحيلة مليئة بالحسرة والندم.
ويتمنى الموتى العودة للدنيا ليعملوا أى عمل صالح لقوله تعالى: «لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ» الزمر 58.
ليصلحوا ما أفسدوا، ويطيعوا فيما عصوا، ليذكروا الله ولو مرة، يتمنون النطق بتسبيحة، لكنها أمنيات مستحيلة.. لقوله تعالى: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ المؤمنون» 99-100.
لقد انتهت فرصة الموتى فى الحياة، وعاينوا الآخرة، وعرفوا ما لهم وما عليهم، وأدركوا أنهم أضاعوا أعمارهم فيما لم يكن لينفعهم فى آخرتهم، وأدركوا أن هذا الوقت لا يقدر بثمن، لقد كانوا فى نعمة لم يستغلوها.
ولو علمت ما بقى من أجلك لزهدت فى طول أملك، ولرغبت فى الزيادة فى عملك.
بادر إلى التوبة قبل أن يأتيك الموت بغتة، فيحال بينك وبين العمل فتقول: «يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي».