إيهاب الملاح يكتب: توفيق الحكيم .. الريادة والتأصيل (1)

إيهاب الملاح يكتب: توفيق الحكيم .. الريادة والتأصيل (1)إيهاب الملاح يكتب: توفيق الحكيم .. الريادة والتأصيل (1)

*سلايد رئيسى27-7-2017 | 19:36

إذا عددنا الخمسة الكبار في الأدب العربي الحديث، ممن كان لهم أثر كبير في النهوض به وريادة وتأصيل الأنواع الأدبية الوافدة، فلا بد -في ظني - أن يكون من بينهم توفيق الحكيم، الذي حلت ذكرى رحيله الثلاثين، أمس الأربعاء.

توفيق الحكيم (1898-1987)، هو رائد فن المسرحية المكتوبة في الأدب العربي الحديث، وأحد رواد الثقافة العربية في القرن العشرين، كتب الرواية والمسرحية والقصة القصيرة والمقالة والتأملات الفلسفية، وترجمت أعماله إلى لغات عديدة. هجر دراسة القانون التي سافر من أجلها إلى باريس ليرجع أستاذًا جامعيًّا، واستبدل بدرجة الدكتوراه عشق الفن والتفرغ الكامل لتذوقه ودراسة نماذجه. كما انصرف عن حياة "وكيل النيابة" المعتادة ليرى ما تحت السطح من حياة الريف المصري.

ترك ما يزيد على السبعين كتابًا، وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1961، من أشهر رواياته «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«الرباط المقدس».. وفي المسرح «أهل الكهف»، و«السلطان الحائر»، و«شهر زاد»، و«بجماليون».. سجل سيرته الذاتية وذكرياته الفنية في أكثر من كتاب، أشهرها «سجن العمر» و«زهرة العمر». ظل يشغل الحياة الثقافية العربية باجتهاداته وطروحاته المتنوعة في الفكر والفن والأدب والحياة إلى أن توفي في 26 يوليو عام 1987.

هذه إلمامة موجزة بسيرة الحكيم -لمن لا يعرفه- من الناشئة وأبناء الأجيال الجديدة، لكن إنجاز الحكيم وأثره وأعماله تتجاوز بكثير أطر التأريخ والتوثيق والتسجيل المعتادة، فهي بضخامة أثرها وتأسيسيتها في بنية الثقافة العربية ككل تتأبى على ذلك، عابرة ومتجاوزة ومنطلقة، يكفي أن نشير فقط إلى أنه لولا توفيق الحكيم ما كان لنجيب محفوظ أن يحسم أمره ويحترف الأدب ويقدم ما قدمه من روائعة الأدبية الإنسانية الخالدة.

«أهل الكهف».. استهلال الريادة

حين نشر توفيق الحكيم عام 1933 مسرحيته «أهل الكهف» (وكان قد كتبها قبل ذلك عام 1929) استقبلها أعلام الأدباء والكتاب كحدث كبير، فهي كما يذهب طه حسين، في مقال له في «مجلة الرسالة» (مايو 1933) فتح باب جديد في الأدب العربي: "ويمكن أن يقال إنها رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة.. بل ويمكن أن يقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد أجانب يستطيعون أن يقرءوها إن ترجمت لهم.. فهي «مزاج معتدل» من الروح المصري العذب و«الروح الأوروبي القوي»..".

بمسرحية «أهل الكهف»، دخل الأدب الدرامي دائرة الوعي العام كفرع من فروع الأدب العربي الرسمي، وقد ارتفع إلى هذه المرتبة بعيدا عن خشبة المسرح. وبوجه عام فقد استقبل الشباب المثقف في الثلاثينيات أعمال الحكيم القصصية والدرامية بحماسة كبيرة باعتبارها فنونا أدبية مستحدثة لم يعرفها الأدب العربي من قبل.

يعبر الروائي والكاتب الكبير بهاء طاهر (من مواليد عام 1935) عن موقف الجيل التالي من «أهل الكهف» ومسرحيات الحكيم الذهنية بقوله: "كانت «أهل الكهف» و«(شهرزاد» مدخل جيل بأكمله إلى الفن الدرامي؛ جيل عرف الدراما عن طريق القراءة قبل أن يعرفها على خشبة المسرح. ففي الأربعينيات وأوائل الخمسينيات لم يكن للحياة المسرحية وجود حقيقي. وكانت هذه القطع الأدبية الجميلة تلهب خيالنا باعتبارها نماذج سامية لفن مفقود. وحين كان يثار الجدل في ذلك الوقت عن مسرح توفيق الحكيم وعن المسرح الذهني الذي كان يُقرأ ولا يمثل، لم نكن نفهم المشكلة بالضبط. فقد كنا نجد في «أهل الكهف» و«شهرزاد» ما نجده في سائر المسرحيات العالمية التي أتيح لنا أن نقرأها من حوار رائع وفكر جليل" (راجع كتابه «أبناء رفاعة»، دار الشروق).

وبمعنى مشابه يقول ألفريد فرج (من مواليد عام 1929): "إن مسرحيات الحكيم هي التي ألهمت فناني ومثقفي جيلنا حب هذا الفن.. اقترن أول لقاء بين جيلنا والمسرح بالدهشة والحب أمام «أهل الكهف»، و«شهرزاد»، و«الخروج من الجنة».." (في كتابه «دليل المتفرج الذكي إلى المسرح»).

«السلطان الحائر».. نضج التأصيل

من أحب أعمال توفيق الحكيم إلى قلبي مسرحية «السلطان الحائر»، قرأتها وأنا في الجامعة.. انبهرت بالقدرة الرهيبة على صياغة الحوار وخلق الصراع وإدارته -من خلال هذا الحوار- والوصول به إلى ذروته ثم الوصول إلى نقطة نهاية معقولة ومنطقية.

«السلطان الحائر» (نشرت للمرة الأولى عام 1960)، هي أفضل أعمال توفيق الحكيم الدرامية على الإطلاق؛ بإجماع النقاد، رغم احتفاظها بخصائص المسرح الذهني لديه فإنها تقدم حدثًا دراميًا يتصف بالتماسك والديناميكية والتطور، مما وضعها على رأس أفضل ما قدمه المسرح المصري، بل العربي، الحديث. بالإضافة إلى أن المسرحية تقدم نموذجًا مبكرًا ورائعًا لمسرح الإسقاط السياسي، من خلال تعبيرها عن صراعات السلطة والتحايل على القانون، تحكي قصة سلطان محبوب من شعبه ولكنه تعرض للاختيار بين أن ينهي حياة كل من يقول إنه عبد بالسيف، أو أن يخضع للقانون، ويعرض للبيع، ثم يعتق من العبودية ليصبح ملكًا شرعيًا.

من بين كل ما قرأته في نقد وتحليل هذه المسرحية استوقفني تحليلان لا أنساهما.. الأول ما كتبه المرحوم عبد المنعم تليمة -عليه رحمة الله- وهو قراءة فذة وغير مسبوقة، درس عملي في تفكيك عناصر العمل ورده إلى أصوله والكشف عن رؤية الفنان الفكرية والفلسفية وكيفيات تجسيدها جماليا.

والقراءة الثانية للناقد والأكاديمي سامي سليمان في كتابه «مدخل إلى دراسة النص الأدبي المعاصر»، وهي بحق قراءة متميزة وكاشفة عن جماليات المسرحية وأبعادها الفكرية والسياسية.

«يا طالع الشجرة».. ريادة على ريادة

في عام 1962، أضاف الحكيم إلى ريادته الأولى ريادة جديدة بالاتجاه إلى مسرح العبث. واستهل مرحلة رائعة في مسيرته المسرحية، حاول فيها التحرر من "الواقعية" والاتجاه إلى التجريب وتيار "العبث"، لكن بالبحث عن جذوره في التراث الشعبي المصري، وليس استيحاء أو تقليدًا لنموذجه الغربي.

كان الحكيم عائدا لتوه من فرنسا، بعد إقامة استمرت عاما، وهناك شاهد مسرحيات تجسد ما عرف آنذاك بتيار "العبث" التي تخرج على الشكل المسرحي المألوف، وتبتعد عن معالجة قضايا الواقع وهموم المجتمع بشكل مباشر، وتركز على فقدان المعنى وانعدام الروابط المنطقية بين الأشياء. لكن ولأن الحكيم كان مبدعا من طراز خاص فقد قرر أن يجرب هذا الشكل بطريقته الخاصة، وأن يكتب مسرحية "لا معقول" لكنها تستند في مجملها إلى التراث الشعبي العربي. هكذا كتب الحكيم مسرحية «يا طالع الشجرة»، التي استهلها بمقطع من أغنية شعبية شهيرة، تقول كلماتها:

[يا طالــــع الشــــجرة/ هات لي معك بقرة/ تحلــــب وتسقيـــنــي/ بالمعلقـــة الصينــــــي]

رسم الحكيم شخوص مسرحيته من عوالم مختلفة: الدرويش، والشيخة خضرة أو "السحلية"، والشجرة. الدرويش أتى من عالم الروح، عالم المتصوفة حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وما لم يخطر على قلب بشر. وأما الشجرة فمن عالم النبات الذي يعطي معنى الحياة. ومن هذه الخيوط الأولى يلملم الحكيم ببراعة خيوط المسرحية؛ رجل وامرأة يضمهما بيت واحد يعيشان فيه منذ تسع سنوات، لكل منهما عالمه الخاص، فالزوجة مشغولة بالمولود المنتظر، والزوج تشغله شجرته الخضراء وما ستخرجه من ثمر، وبين هذين العالمين تتداخل الأشياء فيما بينهما، ويدور الحوار الذي برع فيه الحكيم، ونكتشف أن ما يمكن أن يقال عن الشجرة وثمارها المنتظرة، يصح قوله على شجرة أخرى تنتظرها الزوجة التي أسقطت ثمرتها الأولى بيديها.. «يا طالع الشجرة» كانت فتحًا في مسيرة المسرح العربي..

أضف تعليق