فيينا ليست دائما «روضة من الجنة» – كما وصفتها أسمهان فى أحد أغانيها – على الأقل بالنسبة للاجئين السوريين، هى بلد غريب عن بلادهم، وناسها يقبلون هؤلاء السوريين وأمثالهم على مضض، فهم فى النهاية غرباء طارئون، هكذا يراهم أبناء النمسا وأوروبا الذين يتسمون بالإنسانية، فما بالك بالمنتمين لقوى اليمين الفاشى، أمثال حزب البديل من أجل ألمانيا، وجبهة «مارى لوبان» الفرنسية، وحزب الحرية فى هولندا الذى يتزعمه جيرت ويلدرز العنصرى الفاشى وغيرهم، وحجة هذه الأحزاب أن نزوح اللاجئين إلى بلادهم وراء كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التى سوف تقود أوروبا فى النهاية إلى التفكك بعد أن جمعها الاتحاد الأوروبى..
لكن السؤال: لماذا بدأت بالنمسا وفيينا تحديدًا؟!
(1)
منتصف الشهر الماضى (يوليو) وقف مهند وصفى وهو طالب جامعى سورى لاجئ فى النمسا فى إحدى قاعات المركز الثقافى الاجتماعى بفيينا، وسرد على جمهور الحضور من العرب والأوروبيين تفاصيل تجربته المريرة التى عاشها فى مناطق القتال فى سوريا قبل نزوحه منها.
وناهيك عن أعمال القتل والسحل وانتهاك الأجساد والحرمات، فقد تحدث الشاب عن حرمانه وبقية زملائه من الدراسة فى سوريا قبل نزوحه عنها، بعد أن قصفت المدارس، وتهدمت مبانيها، فتوقفت عن العمل، وأضاف إلى ما سبق تجربته الشخصية فى الهجرة واللجوء إلى أوروبا.
مهند كان يحكى وتحوطه جدران تحمل40 لوحة تشكل معرضا من رسوم الأطفال السوريين الذين فروا من جحيم القتال فى سوريا مع ذويهم ووصلوا بعد رحلة عذاب مثل مهند وغيره إلى مقر اللجوء فى النمسا.
والذى نظم معرض الرسوم هى «مؤسسة الحملة العالمية لمناهضة التمويل القطرى للإرهاب» بهدف عرض المأساة الإنسانية بعيون الأطفال الصغار وأناملهم التى لا تعرف الكذب.
ومثل هذه النشاطات الثقافية، إضافة إلى التعليم الذى هو حق من الحقوق الإنسانية، هى مجرد ملف من الملفات التى تعمل عليها المؤسسة سابقة الذكر، لكن هناك ملفات أخرى، وعلى سبيل المثال كلفت الحملة باحثين وخبراء برصد انتهاكات قناة الجزيرة القطرية، وفضح إعلامها الذى يروج لخطاب الكراهية وبرامج وخطاب التعاطف لإشعال الحرب الأهلية فى سوريا وليبيا وغيرها من الدول العربية.
(2)
وقد لا يعرف البعض أو يتجاهل عن قصد أن المأساة بدأت من عند أمريكا، وبالتحديد مع حكم الديموقراطيين فى عهد رئاسة أوباما وتولى كوندوليزا رايس ومن بعدها هيلارى كلينتون حقيبة الخارجية، هذه الإدارة التى سرّعت بنشاطات ما أطلقت عليه «التحول الديموقراطى» فأعطت لقطر الضوء الأخضر بشكل مباشر أو عبر وكلاء لها عملوا فى الدوحة مثل مؤسسة «الثنك تانك» بروكينجز أن تنخرط فى سياسات مشروع «التحول الديمقراطى» فى الشرق الأوسط، وتركت لقطر تحديدًا مسألة اللعب مع الجماعات والمنظمات والحركات «الإسلاموية» بداية من الإخوان، ومرورًا بحماس، وحزب الله، وفرع القاعدة فى اليمن، وغيرها من الحركات الراديكالية الإسلامية المعروفة قبل انطلاق ما يسمى بالربيع العربى، أما وقد انطلقت العاصفة، ودخلت ليبيا وسوريا واليمن فى حروب أهلية، تعمقت معها المأساة، وتدفق الفارون من هذه البلاد وغيرها عبر المتوسط لاجئين إلى أوروبا، التى انكوى بعض بلدانها بنيران الهجمات الإرهابية، هنا فقط بدأت الفضائح تتكشف عبر مصادر مخابراتية غربية، اضطرت أن تزيح النقاب عن كيف كانت الدوحة تدير شبكة واسعة من الوسطاء لتوصيل التمويلات، امتدت إلى أمريكا ذاتها، وكشفت تقارير المخابرات الغربية أيضا كيف جندت الدوحة قيادات عسكرية وقبلية بارزة فى البلدان المحتربة، حدث هذا مع حزب الإصلاح اليمنى، الذى دفعت قطر لكوادره بسخاء لتتولى مهام التنسيق مع تنظيم القاعدة فى اليمن، وفى سوريا مولت قطر جبهة النصرة، ومن النصرة ذهبت الأموال إلى داعش قبل انفصال التنظيمين، وفى ليبيا مولت قطر «داعش» بالأموال والأسلحة واعترفت بذلك كوادر داعش بعد القبض عليها بمعرفة الجيش الوطنى الليبى.
ولم يتوقف تمويل قطر على الفرق والجماعات المتصارعة فى ليبيا منذ اندلاع ثورة الثانى عشر من فبراير 2011 التى سمحت فوضاها بتدفق شحنات الأسلحة المحفور عليها اسم قطر المكون من 4 حروف باللاتينى ، وغير التمويلات السرية انطلقت حملات جمع الأموال عبر التبرعات وانتشرت الإعلانات التى تحض على الجهاد بالمال لدعم ما سمى بالكتائب الإسلامية فى الدول المشتعلة لتزيد اشتعالا، وكانت الإعلانات تنص صراحة على دفع الأموال لشراء صواريخ «جراد» التى يبلغ ثمن الواحد منها 4 آلاف دولار، وقيمة سهم التبرع تبدأ بـ 200 دولار يقتل بها السورى شقيقه السورى، والمسلم الليبى أخاه فى الإسلام الليبى، ويقذف الحوثى اليمنى صاروخ جراد ليطول ما يطوله من أراضى الجوار، فيرد عليه الجوار ويزيد، وهكذا يبيد العرب أنفسهم بأنفسهم، والفضل ما تفضل به الأمير القطرى.
(3)
وباتت المكرمات الأميرية القطرية هى أداة التمويل الأولى لنشر الفتنة والخراب والدمار فى ربوع البلدان العربية، وتحولت قطر إلى ساحة مفتوحة لتمويل الإرهاب بشهادة مؤسسات دولية وأمريكية على غرار مؤسسة دعم الديموقراطية الأمريكية، هذه المؤسسة التى لم تتحرك إلا عندما اشتكت إسرائيل من تمويل قطر لحماس التى تهدد إسرائيل، وعندها بدأ يهود أمريكا فى تكوين جماعات الضغط وفضح قطر، ومع بداية حملات فضح الممارسات القطرية فى أمريكا، كان الديموقراطيون مازالوا فى الحكم يسبغون حمايتهم - بقدر المستطاع – على قطر، وبعد رحيل هذه الإدارة – للأسف – بقيت كوادر تنفذ سياساتها وتعرقل أى قرارات تحاول إدارة ترامب الحالية أن تتخذها بشكل جاد ضد قطر، وضد الإخوان أيضًا.
أما وقد اصطف عدد من الدول العربية على رأسها مصر والسعودية والإمارات والبحرين وقررت أن توقف قطر عن غييها وتحجّم نشاطاتها الإرهابية بكل السُبل والطرق السلمية المتاحة، فقد تحرك العالم أيضًا وتحركت الإدارة الأمريكية فى حدود الحفاظ على مصالحها فى الخليج وقطر.
وتتدفق كل يوم، بل كل ساعة، مواد إعلامية من الغرب والشرق تفضح قطر، وتزيد من إدانتها، ويزيد من التضييق عليها التحرك نحو المؤسسات الدولية.
(4)
لكن آل حمد أخذتهم العزّة بالإثم وهم يتخبطون الآن مثل الطير الأعمى، ويتصرفون مثل مليونير قزم استعان بفتوات مأجورين ليحموه من أهله الذين قرروا تأديبه على أفعاله الشائنة.
.. العائلة الحاكمة فى قطر اشترت جنودًا أتراك وإيرانيين ومرتزقة أجانب ليس لحماية الشعب القطرى ولكن لحماية عرشها وملكها الذى دنّسته بالعار، وحمل أفرادها وزر الدماء التى سالت والأعراض التى انتهكت والبيوت التى خربت، وهجرها أهلها، وساحوا فى بلاد الله يستجدون المأوى والزاد، يرفعون أكف الضراعة يطلبون الرحمة، ومنهم من يدعو على من ظلمه، «ألا لعنة الله على آل حمد إلى يوم الدين».