غالبًا.. أو تأكيدًا أنت لم تقرأ أو تسمع شيئًا ولا تعرف إلى ماذا يشير هذا المصطلح: «الزنوجية»..
ببساطة كما هو واضح المصطلح منحوت من لفظ «زنج» ومنها جاء «زنجى» وهو الاسم الذى أطلقه الجغرافيون العرب فى العصور الوسطى على الساحل الشرقى لأفريقيا وعلى سكانها السود.
أما «الزنوجية» فهى حركة ثقافية أسسها كُتّاب وشعراء أفارقة خلال القرن العشرين ليردوا على استعلاء الرجل الأبيض وعنصريته تجاههم.
ومن أشهر الأسماء فى حركة «الزنوجية» الشاعر والكاتب والمفكر الفرنسى الزنجى ذو الأصل الأفريقى «إيميه سيزار».
(1)
سيزار ليس فى شهرة صديقه ليوبولد سنجور الشاعر السنغالى الزنجى، وأحد أهم المفكرين الأفارقه فى القرن العشرين، لكنهما معا «سيزار وسنجور» ارتبطا إسماهما بتأسيس حركة «الزنوجية» التى راحت تبحث عن القواسم المشتركة التى تجمع أبناء أفريقيا الذين تفرقوا فى بلاد الغرب فيما عرف بظاهرة «الشتات الأفريقى» خلال التاريخ الاستعمارى لشعوب القارة.
وكتب سيزار وغيره من المنتمين للزنوجية فى أنماط أدبية مستحدثة عن تجربة سفن العبيد التى كانت تحمل الزنوج المختطفين وتنقلهم عبر المحيط الأطلنطى إلى مزارع الأسياد فى أمريكا الشمالية وغيرها من بلاد الغرب.
كان هذا قبل أن تدور الأيام، وتشوشت فى الذاكرة خلال السنوات الأخيرة الحقيقة، وتضع إسرائيل قدمًا لها فى أفريقيا، ثم تضع قدمها الثانية - مع غياب مصر - مستخدمة كل الأسباب والوسائل لهذا مع التركيز على الاقتصاد والإعلام.
وللدهشة فأن إسرائيل الاستعمارية رأس حربة الغرب الامبريالى، استطاعت أن تنفذ إلى العقل الزنجى وتربط أيديولوجيا بين الحركة الصهيونية وحركة الزنوجية، من خلال الادعاء بأن اليهود، والأفارقة يتشابهان فى أن كليهما تعرضا لعملية اضطهاد، وأنهما ضحايا للتمييز العنصرى، وأن التجربة التاريخية والنفسية متشابهة فيما بينهما، واستدلت إسرائيل بكلام أحد مؤسسيها تيودور هرتزل الذى قال: «بالنظر إلى تاريخ كل من اليهود فى الشتات والسود فى أفريقيا يمكن رصد عدد من الخبرات المشتركة وخاصة فيما يتعلق بالعنت الذى لاقاه الاثنان على مر تاريخهم».
وفى مكتبات أقسام السياسة والاقتصاد والجغرافيا والتاريخ عشرات الأبحاث التى نالت درجات الماجستير والدكتوراة تحوى تفاصيل الاختراق الإسرائيلى لأفريقيا، هذه الأبحاث مرصوصة فى مجلدات يعلوها التراب، منسية هى وأصحابها الذين لا يعرفهم الإعلام المصرى، ولا برامجه التى تغرقنا الآن فى بحار التفاهة، ويخشى القائمون على الإعلام أن يجتهدوا فيعكروا صفو السلام مع إسرائيل.. ويهزوا ثبات كراسيهم الوظيفية، مع أن الإعلام الإسرائيلى يناقش كل الأمور التى تخص الأمن القومى لدولته (من وجهة نظرها) بشراسة.
والآن نحن أمام قضية خطيرة تمس أمننا القومى، وهى بوضوح: دور إسرائيل فيما وصلت إليه الأمور بشأن «سد النهضة» وتهديد أمن مصر المائى.
(2)
ليست «شماعة» المؤامرة، ولا تعليق الأزمة فيما وصلنا إليه فى رقبة إسرائيل، إطلاقًا، بل على العكس فقد بدأت بجلد ذاتنا السياسية وأشرت إلى التقصير، وما وراء الأكمة أكثر بكثير، لكن أى تحرك مصرى الآن باتجاه أفريقيا بشكل عام وأزمة سد النهضة وحصة مصر من مياه النيل لن يكتب له النجاح، وإعلامنا يكتفى بتناول القضية بهذا التسطيح الذى نراه، وترديد عدد من الجمل الإنشائية باتت محفوظة ومعادة عند الجمهور من عينة «حصتنا من المياه خط أحمر»، مع الاكتفاء بالإشارة إلى الجهود الرئاسية والدبلوماسية الكبيرة التى تبذلها الإدارة المصرية بقيادة الرئيس السيسى الذى وجه 30% من زياراته الخارجية تقريبًا إلى أفريقيا، ودول حوض النيل تحديدًا لإصلاح ما فسد فى العلاقات ومحاصرة الأطماع فى حصة مصر من مياه النيل.
(3)
معركة حقيقية تدور الآن رحاها فى أفريقيا أطرافها بشكل أساسى الولايات المتحدة، فى مقابل الصين وبينهما تل أبيب وأطراف أخرى ثانوية مثل إيران، وتركيا، لكن تبقى إسرائيل هى اللاعب الأخطر، وقد سعت منذ إنشائها إلى النفاذ لأفريقيا وتوجهت سياستها الخارجية لإعادة صياغة علاقاتها مع دول القارة - خاصة بعد غياب الرئيس عبد الناصر - لكسر عزلتها التى فرضها العرب عليها فى الحقبة الناصرية، وقبل اتفاقيات السلام، ومع كسر العزلة طورت إسرائيل سياستها إلى الاستفادة من خيرات أفريقيا باستغلال ثرواتها الخام، وتصدير منتجاتها إلى الأسواق الأفريقية ضخمة الاستهلاك، وحتى تصدير العمالة الفنية الإسرائيلية المدربة إليها، وكانت مصر من قبل تغطى جانبًا كبيرًا من هذا.
(4)
أما قضية المياه فهى من أولى القضايا التى شغلت صانع القرار الإسرائيلى، ويجزم محللون أن جميع الحروب التى شنتها إسرائيل على العرب منذ عام 1967 كانت في حقيقتها لتأمين السيطرة على منابع المياه العربية، نهر الأردن، بحيرة طبريا، نهرى الليطاني واليرموك، ونعيد التذكير بطلبات إسرائيل من الرئيس السادات بشأن نقل حصة من مياه نهر النيل إليها بعد توقيع معاهدة السلام، فالمياه العربية هدف استراتيجى فى مشروع الدولة العبرية لسنة 2020، وتراها مسألة وجود وبقاء، لذلك تحارب بكل ما استطاعت من وسائل مشروعة وغير مشروعة لتحصل على حقها وحق غيرها أو تحرم هذا الغير من حقه وبالذات العرب.. فلماذا نكون أقل منها؟!