تفاصيل مثيرة فى أهم رحلة فى حياة المسلم .. حج الخلفاء والسلاطين

تفاصيل مثيرة فى أهم رحلة فى حياة المسلم .. حج الخلفاء والسلاطينتفاصيل مثيرة فى أهم رحلة فى حياة المسلم .. حج الخلفاء والسلاطين

*سلايد رئيسى12-9-2017 | 15:08

تقرير: محمد فتحي

صدرت دراسة حديثة للدكتورة شيرين عبد الحليم القباني الباحثة في التاريخ والحضارة الإسلامية تعرضها" دار المعارف" فى السطور التالية.

وتكشف  تفاصيل الدراسة أن الرحلة من أجل الحج إلى الكعبة المشرفة وبيت الله الحرام وزيارة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت أهم رحلة في حياة المسلم وتأتى في مقدمة الأسباب التي دفعت المسلمين للسفر والترحال تلبية للنـداء القرآني الكريم: ﴿لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً﴾ ﴿وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق﴾.

وقد عزز رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا النداء القرآني بالعديد من الأحاديث الشريفة التي توضح أهمية الحج من حيث كونه من فضائل الأعمال كما أنه درب من دروب الجهاد وأنه يمحق الذنوب كما أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أيضًا أن الحجاج إنما هم ضيوف الرحمن.

الحج في صدر الإسلام وعصر الدولة الأموية:

وأكدت " القباني " في دراستها الحديثة أن أول حجة في الإسلام كانت حجة سيدنا أبى بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه في العام التاسع من الهجرة النبوية الشريفة وتلاها في العام التالي حجة رسولنا الكريم والتي كانت تسمى بحجة الإسلام وحجة البلاغ وحجة التمام وحجة الوداع حيث أنزل الله فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا﴾  .

وقد حرص الخلفاء بعد عهد الرسول الكريم على الحج بصور كبيرة، فاهتم الخلفاء الراشدون –  سواء أبو بكر الصديق أو الفاروق عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان – بالخروج سنويًا للحج. أما على بن أبى طالب كرم الله وجهه فلم يحج أثناء توليه الخلافة نظرًا لانشغاله بمعركة "الجمل" و"صفين" واستمر اهتمام الخلفاء الأمويين بالحج، فيذكر المقريزي أن معاوية قد "حج بالناس عدة سنين، وتوالى حج الخلفاء الأمويين فحج عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك".

الحج في عصر الدولة العباسية

وأوضحت الباحثة في التاريخ والحضارة الإسلامية لم يحج من الخلفاء العباسيون ببغداد سوى أبو جعفر المنصور الذى بويع له بالخلافة بعد مقتل أخيه السفاح وهو بطريق مكة سنة136هـ/753م وحج بالناس ثمان حجات ثم المهدي أبو عبد الله محمد الذى خلف والده أبو جعفر المنصور حيث يُذكر أنه "حج سنة 160هـ /776م ومعه ثلاثون راحلة وهو يمشى على رجليه حتى وقف بعرفات فأعتق ثلاثين مملوكًا وحملهم على ثلاثين راحلة وأمر لهم بثلاثين ألفـًا وقال: اعتقهم لله تعالى لعله يعتقني من النار".

وقام المهدى بنزع كسوة الكعبة وكساها كسوة جديدة، وقد رفع إليه سدنة الكعبة أنهم يخافون على الكعبة أن تنهدم لكثرة ماعليها من الكسوة، حيث كانت الكسوة لا تنزع من الكعبة في كل سنة، بل تلبس كل سنة كسوة فوق تلك الكسوة، فلما انتهوا إلى كسوة هشام بن عبد الملك بن مروان وجدوها ديباجًا (حريرًا) غليظًا إلى الغاية.

وأنفق المهدى في هذه الحجة في أهل الحرمين ثلاثين ألف ألف درهم منها دنانير كثيرة سوى ما وصل إليه من مصر وهو مبلغ ثلاثمائة ألف دينار عينًا، ومن اليمن مائتي ألف دينار عينًا وقيل إنه وصل إليه من اليمن أربعمائة ألف دينارفقسمها أيضًا في الناس وفرق من الثياب الخام مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب ووسع في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقرر في حرسه خمسمائة من الأنصاروأقطعهم بالعراق الإقطاعات وأجرى عليهم الأرزاق"أما هارون الرشيد فقد بويع بالخلافة بعد موت أخيه موسى الهادي سنة170 هـ  786م وكان دأبه أن يغزو سنة ويحج سنة حتى قال فيه بعض شعراء عصره:

فمن يطلب لقاءك أو يرده       فبالحرمين أو أقصى الثغور

وأضافت " القباني " قد حج هارون الرشيد تسع حجات، ولم يحج بعده خليفة من بغداد، فقد شغل خلفاء العباسيين- بعد الرشيد – بما أصاب الدولة من ضعف وانقسامات فلم يحج واحد منهم. وأول ماحج الرشيد كان عام170هـ/786م؛ حيث حج ماشيًا. وكان الرشيد إذا حج، حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، فإذا لم يحج، أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة، والكسوة الطاهرة الفاخرة، ولم يُر خليفة قبله أكثر عطاءًا منه  .

أما خلفاء العصر العباسي الثاني فقد شغلتهم حياة الترف والانقسامات الداخلية وضعفالدولة من أن يفكروا في الخـروج إلى الحجاز لأداء الفريضة، بل لعل ثوراتالقرامطة الذين اجترأوا على مهاجمة الكعبة وسلب الحجر الأسود أعظم دليل على مدى الضعف الذى حل بالخلفاء العباسيين حتى أن أبا طاهر القرمطي جلس على باب الكعبة في يوم التروية والرجال تُصرع حوله في المسجد الحرام وهو يقول:

أنا بالله وبالله أنا             يخلق الخلق وأفنيهم أنا

وتابعت " القباني " دخل رجل من القرامطة إلى حاشية الطواف وهو راكب سكران فبال فرسه عند البيت، ثم ضرب الحجرالأسـود بدبوس فكسره ثم اقتطعه وكانت إقامة القرمطي بمكة أحـد عشر يومًا لذا فلم يحج أحد من سنة 317هـ 929م وحتى سنة 326 هـ 937 م خوفًا من القرمطي.

وقالت الباحثة د.شيرين القباني شهدت سنة 327 هـ 938 م دليلاً آخرًا على مدى ضعف العباسيين في بغداد فقد كتب أبو على عمر بن يحيى العلوي إلى القرمطي – وكان يحبه – أن يطلق طريق الحاج ويعطيه عن كل حمل خمسة دنانير فأذن له وحج بالناس وهى أول سنة أُخذ فيها المكس من الحاج.

ويجدر هنا الإشارة إلى أن عصر الدولة الإخشيدية بمصر شهد بداية ظهور ناموس الحج المصري أي تسيير قوافل منظمة للحج تحت زعامة أمير حج فيذكر الرشـيدي في حوادث سنة 340هـ 951 م أنه" في سنة أربعين وثلاثمائة من الهجرة حج بالناس أميرًا أحمد بن الفضل بن العباس وعارضه أهل مصر أصحاب ابن طفج أمير الحج المصري وصلى أحمد بن الفضل السابق وخطب على صناديق سوق المصريين بعرفة عوضًا عن المنبر وكان أمير الحاج من بغداد عمر بن يحيى العلوي فوقع بينه وبين أمير الحج المصري المذكور حربًا شديدة وقتال وظهر ناموس الحاج المصري ونصرته عليه وهو أول ظهور لناموس الحج المصري وقيامه بمكة المشرفة وظهور أمره واشتداد كلمته وسطوته".

ويذكر الرشيدي أيضًا في حوادث عامي341هـ 952 والعام الذى يليه 342 هـ 953م حدوث حرب شديدة بين أميري الحج المصري والعراقي بسبب الخطبة وظفر بها العراقي.

ثم في عام 343 هـ 954  م حدثت حروب شديدة وقتال بسبب الخطبة وظفر بها العراقيون أيضًا ثم بعد ذلك ظفر بها ابن طفج أمير الحاج المصري وخطب لصاحب مصر في مكة والحجاز.

كما يذكر لنا ابن إياس في حوادث عامي 351هـ/962مو355هـ/965م أن أعراب بني سالم "قطعوا الطريق على الحجاج وأخذوا منهم عشرين ألف بعير محملة قماش وبضائع ومال وأسروا الرجال والنساء".

ونفس هذا الحدث أكدها بن تغرى بردى حيث ذكر في حوادث عام 355هـ والتي هي السنة الأولى من ولاية كافور الإخشيدي على مصر أنه "ورد الخبر بأن ركب الشام ومصر والمغرب من الحجاج أُخذوا وهلك أكثرهم ووصل الأقل إلى مصر وتمزق الناس كل ممزق وأخذتهم بنو سليم وكان ركبًا عظيمًا نحو عشرين ألـف جمل معهم الأمتعة والذهـب فمما أخذ لقاضى طرسـوس المعـروف بالخواتيمى مائة ألـف وعشرون ألف دينار".

الحج في عصر الدولة الفاطمية

وذكرت الدراسة كان لقيام الخلافة الفاطمية بمصر دليلاً جديدًا على مدى الضعف والانهيار الذى أصاب الدولة العباسية ببغداد.

وعلى الرغم من شدة اهتمام الفاطميين بالحج وعنايتهم بقافلة الحجيج وإرسالهم لكسوة الكعبة إلا أن أحدًا منهم لم يحج ربما يكون السبب في ذلك هو خوفهم من حدوث أي فتن داخلية نتيجة للصراع على الخلافة وفرض النفوذ – خاصة على الحرمين – بين الخلافة الفاطمية بمصر والعباسية ببغداد.

ومايثير اهتمامنا، بل وحفيظتنا أن الخليفة المستنصر بالله الفاطمي قد توجه إلى (بركة الجب) أو (بركة الحاج) وهى أول موضع يبدأ منه الحجاج المصريون رحلتهم لأداء الفريضة متظاهرًا برغبته في الحج، ولكنه في الواقع خرج للتنزه وبصورة ماجنة ساخرة. ويذكر المقريزي ما نصه التالي: "وكان من عادة الخليفة المستنصر بالله أبى تميم معد بن الظاهر بن الحاكم في كل سنة أن يركب على النجب مع النساء والحشم إلى جب عميرة – وهو موضع نزهة – بهيئة أنه خارج إلى الحج على سبيل اللعب والمجانة وربما حمل في الروايا الخمر عوضًا عن الماء ويسقيه من معه".

إلا أنـه على الرغـم من ذلك فقد اهتم الفاطميون بالحـج بصورة كبيرة، فيذكر المقريزي أن "المنفق على الموسم كان في كل سنة تسافر فيها القافلة مائة وعشرين ألف دينار منها ثمن الطيب والحلواء والشمع راتبًا في كل سنة عشرة آلاف دينار ومنها نفقة الوفد الواصلين إلى الحضرة أربعون ألف دينارومنها في ثمن الحمايات والصدقات وأجرة الجمال ومعونة من يسير من العسكرية وكبير الموسم وخدم القافلة وحفر الآبار وغير ذلك ستون ألف دينار أن النفقة كانت في أيام الوزير اليازوري قد زادت في كل سنة وبلغت إلى مائتي ألف دينار، ولم تبلغ النفقة على الموسم مثل ذلك في دولة من الدول".

وأضافت" القباني " حرص الخلفاء الفاطميون على إرسال كسوة الكعبة من مصر مع أمير الحج المصري لأن في ذلك تأكيدًا لميراثهم لتراث النبوة والخلافة وحمايتهم لفريضة الحج التي تجمع شمل المسلمين من كافة أرجاء العالم الإسلامي وكان تفرد الخليفة الفاطمي بهذا الأمر من أعظم مفاخرالخلافة الفاطمية وقد استجد في العصر الفاطميعيدًا عُرف بعيد الحجاج.

ويذكر ابن تغرى بردى في حوادث عام 397هـ/1006م والتي تواكب العام الحادي عشر من ولاية الحاكم بأمر الله الفاطمي على مصر أنه "كسا الكعبة القباطي البيض وبعث مالاً لأهل الحرمين" وكذلك ذكر أن الظاهر لإعزاز الله الفاطمي في السنة الثانية عشر من ولايته وهى سنة 423هـ/1031م قد "بعث كسوة للكعبة فكسيت".

الحج في عصر الدولة الأيوبية

وذكرت الباحثة في التاريخ والحضارة الإسلامية أما الأيوبيون فقد شغلهم الجهاد الأكبر ضد الصليبين عن القيام بفريضة الحج، إلا أن ذلك لم يمنعهم من العناية بأمر الحج حيث قام صلاح الدين الأيوبي عام 572هـ/1176م بإبطال الغفارة التي كانت تؤخذ بجدة من الحاج المسافرين عن طريق البحر الأحمروعوض صاحب مكة في كل سنة ثمانية آلاف أردب قمح تحمل إليه في البحر ويحمل مثلها فتفرق في أهل المارستان بمكة كما أوقف على الحجاج وعلى الحرمين الأوقاف وذلك للصرف على مؤونتهم إبان أداء الفريضة كما أقطع أمير مكة الإقطاعات بصعيد مصر واليمن. ومما قام به صلاح الدين أيضًا وأصبح قربى يتقرب بها إلى الله إلغاءه للمكوس التي كانت مفروضة على الحجاج فيذكر الرحالة الشهير ابن جبير: "ومن مفاخر هذا السلطان المزلفة من الله تعالى وآثاره التي أبقاها ذكرًا جميلاً للدين والدنيا إزالته رسم المكوس المضروب على الحجاج مدة دولة العبيدين.

فكان الحجاج يلاقون من الضغط في استيدائها عنتًا مجحفًا ويسامون فيها خطة خسف باهظة، وربما ورد منهم من الأفضل لديه على نفقته أو لانفقة عنده فيلزم أداء الضريبة المعلومة وكانت سبعة دنانير ونصف دينار من الدنانيـر المصرية التيهي خمـسة عشر دينارًا مؤمنية على كل رأس ومن يعجز عن ذلك فيتناول بأليم العذاب فأزال هذا السلطان هذا الرسم اللعين وسهل السبيل للحجاج وكانت في حيز الانقطاع وعدم الاستطاعة".

الحج في عصر الدولة المملوكية

وقالت ثم يأتي بعد ذلك العصر المملوكي الذى كان درة على جبين الحضارة الإسلامية، حيث بلغت فيه الحضارة الإسلامية في شتى جوانبها أوج مجدها، ونال الحج ذروة الاهتمام. ويتمثل اهتمام الدولة المملوكية بالحج ليس من خلال الغلال والأموال التي كانت ترسل للحرمين الشريفين، أو الإبداع في كسوة الكعبة فقط، وإنما أيضًا في عنايتهم بالمحمل المصري وماصاحبه من احتفالات رسمية وشعبية، وكذلك حرصهم وزوجاتهم على الخروج للحج.

إذا ما أردنا وصفًا مبسطًا لشكل المحمل لوجدنا أنه عبارة عن إطار خشبي مربع يعلوه إطار خشبي هرمى الشكل.

ويعلو الإطار الهرمى قائم ينتهى بكرة مخروطية من النحاس يعلوها هلال وبداخله نجمة. والإطاران المربع والهرمى يغطيهما ستر مزركش يحده هدبة حريرية وشراريب وعلى كل جانب من جوانب المحمل الأربعة يوجد قائم ينتهى بكرة نحاسية يعلوها هلال بداخله نجمة وستر المحمل أو كسوته مزركشة بالمخيش المذهب والفضي تشغل معظم مساحته حتى أنها تكاد تغطى أوتخفي قماشه نفسه ويغطى هيكل المحمل ستر أوكسوة حمراء اللون مشغولة ومزركشة بطريقة تشبه السرماب خيوط المخيش المقصبة الذهبية والفضية هذه الزركشة من الوفرة والكثرة حتى أنها تخفي إلى حد كبير قماش كسوة المحمل وتطغى عليها أما الكتابات فهي لآيات من القرآن الكريم وبعض الأدعية وجميعها بخط الثلث ولا يزال متحف الجمعية الجغرافية بالقاهرة يحتفظ بمحمل يرجع لعهد الملك فؤاد الأول ويحمل تاريخ 1336 هـ 1939 م.

ميقات خروج المحمل 

وأوضحت " القباني" كان يحتفل في القاهرة بدوران المحمل مرتين في السنة :

أما الدورة الأولى فكانت في رجب بعد النصف منـه ويكون دورانـه في يوم الاثنين أو الخميس ويبيت المحمل في ليلة دورانه داخل باب النصر بالقرب من جامع الحاكم ويحمل بعد الصبح ويسير به إلى تحت القلعة ثم يذهب إلى الفسطاط فيمر في وسطه ثم يعود إلى تحت القلعة ثم يحمل إلى جامع الحاكم ويوضع هناك إلى شوال وكان يطلق على هذه الدورة اسم دورة المحمل الرجبي وأول من ابتدعها كان الملك الظاهر بيبرس سنة 675 هـ  1276 م وقيل أن الغرض من تدوير المحمل في هذا الوقت من السنة هو إعلام الناس أن الطريق من مصر إلى الحجاز آمنة وأن من جاء الحج فليتأهب ولا يتخوف من الطريق.

وبذلك تهيج الغرامات وتبعث الأشواق وتتحرك البواعث في أخذ من يشاء في التأهب للحج .

وأما الدورة الثانية فتحدث بعد عيد الفطر أي حوالي منتصف شوال.

ويحدث فيها ما حدث في المرة الأولى باستثناء أن الموكب لا يتوجه هذه المرة إلى الفسطاط وإنما يرجع من تحت القلعة إلى باب النصر ويرجع إلى الريدانية (العباسية الآن) إلى السفر ولكن حدث في 833هـ 1429 م أن أدير المحمل في ثامن شعبان "ولم يعهد دورانه في شعبان قبل ذلك غير أن الضرورة بموت المماليك الرماحة اقتضت تأخير ذلك وذلك بسبب الطاعون الذي حدث بالبلاد المصرية وسائر أعمالها عام 833هـ/1429م وكان الجمع من الحجاج دون العادة لكثرة وجد النـاس على موتـاهم".

وكان الاحتفال بدوران المحمل من أجّل الاحتفالات التي ينتظرها الناس فيُنادَى قبل موعده بثلاثة أيام أن يزين الناس حوانيتهم.

وفي الليلة المحددة للاحتفال يحرق النفط وتعمل الصواريخ فيخرج الناس من كل مكان للفرجة وربما قضوا ليلتهم في الطريق حتى النساء كن يبتن في الحوانيت ينظرن المحمل من الغد ويزين أصحاب الحوانيت والأسواق حوانيتهم بشقق الحرير والحلي.

وقد وصف لنا الرحالة ابن بطوطة يوم دوران المحمل فقال ما نصه: "وهو يوم مشهود وكيفية ترتيبهم فيه أنه يركب فيه القضاة الأربعة ووكيل بيت المال والمحتسب ويركب معهم أعلام الفقهاء وأمناء الرؤساء وأرباب الدولة ويقصدون جميعًا باب القلعة دار الملك الناصر فيخرج إليهم المحمـل على جمل وأمامه الأمير المعين لسفـر الحجاز في تلك السنة ومعه عسكره والسقاءون على جمالهم ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجـال ونساء ثم يطوفون بالمحمل وجميع من ذكرنا معه بمدينة القاهرة ومصروالحداة يحدون أمامهم ويكون ذلك في رجب،فعند ذلك وبذلك تهيج الغرامات وتبعث الأشواق وتتحرك البواعث فيأخذ من يشاء في التأهب للحج".

ومن أطرف طقوس دوران المحمل طقس تقبيل جمل المحمل الأرض للسلطان، في ذكر ابن ظهيرة أنه"بعد النداء بين يدي مصر والقاهرة ثلاثة أيام فيدور (المحمل) في اليوم الرابع ومعه كسوة الكعبة الشريفة وكسوة مقام سيدنا إبراهيم الخليل عليها لسلام وستر ضريح نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام بالحجرة الشريفة وكل ذلك من الحرير المذهـب المنمق النفيس ثم يمرون بذلك من باب القاهرة إلى الرميلة وتحت القصر بقلعة الجبل تجاه باب السلسلة لينظره السلطان وهو بالخرجة من القصر ومعه القضاة الأربعة ونوابهم وأعيان الدولة وسائر فرق الفقراء بأعلامهم وطبولهم، فيقبل جمله الأرض للسلطان".

وإذا كان يُذكر للملك الظاهر بيبرس أنه أول من ابتدع الحج الرجبي فيذكر للملك المنصور سيف الدين قلاوون أنه أول من ابتدع لعب المماليك بالرماح والسلاح أمام كسوة الكعبة يوم دوران المحمل وهو ما أكده ابن تغري بردي حينما قال "وأظن أن هذا هو أول ابتداء سوق المحمل المعهود الآن فإننا لمن قف في ما مضى على شيء من ذلك مع كثرة التفاتنا إلى هذا المعنى ولهذا غلب على ظني من يوم ذا كبدء السوق المعهود الآن"  أما الملك المؤيد شيخ المحمودي فقد رسم في عام 822هـ    1419م إلى معلم الرماحة "أن يسوقوا بالمحمل بساحل بولاق وكان ساحل بولاق يوم ذا كبرًا وسيعًا فتوجه المعلم بالرماحة هناك في يوم دوران المحمل وتفرجت الناس على المحمل في بولاق ولم يقع مثل ذلك في سالف الأعصار فصـارالشخص يـجلس بطاقته في تفرج على المحمل وعلى البحـر معًا".

ويتلخص طقس لعب الرماحة أثناء سوق المحمل في أن جماعة من المماليك السلطانية يركبون وهم في ملابس الحرب وبأيديهم الرماح، ويبدأ الموكب من مخيم أمير الحج خارج باب النصر وأمامه الوزير والقضاة الأربعة والمحتسب والشهود وناظر الكسوة وغيرهم.

ويسير خلفه مجمل الكسوة يتهادى حتى يصل إلى ميدان الرميلة تحت القلعة حيث يلعب المماليك برماحهم أمام السلطان ثم ينصرف المحمل بعد ذلك إلى الفسطاط.

وكان يطلق على هؤلاء المماليك اسم "عفاريت المحمل" وقد وصفهم جاستون فييت أنه" سرعان ما يحدث هرج و مرج فترى جنودًا وقد ارتدوا ملابس تنكرية مخيفة يطلبون المـال من الجمهور المرح وكان هؤلاء يسمون شياطين المحمل إذ كانوا يرتكبون كثيرًا من الحماقات" وكان الناس يغدقون على عفاريت المحمل النقود ينثرونها عليهم وهم يسيرون في مقدمة المحمل ويزعمون أن هذه الأموال سترد إلى أصحابها أضعافًا ببركة المحمل .

ولكن ما يثير الدهشة والعجب ليس هذا الطقس في حد ذاته وإنما شدة عناية سلاطين المماليك به، حتى أنهم خصصوا مدرسة لتعليم "فن إدارة المحمل ولعب الرماحة" وأسموها" معلمية المحمل" يتولى نظارتها أحد المعلمين الكبار من ذوي الخبرة الفنية، حتى أن المؤرخ المعروف أبي المحاسن يوسف ابن تغريب رديقدرُش حلها عام857هـ/1453م على عهد السلطان أبي النصر إينال العلائي.

حج سلاطين المماليك

وذكرت الدراسة اتسمت الاحتفالات الخاصة بسفر سلاطين المماليك أو زوجاتهم للحج بدرجة كبيرة بالفخامة والأبهة بحيث كانت من الأيام المشهودة سواء من حيث التجهيزات أو من حيث الأعمال الجليلة وأوجه الخير الكثيرة التي كانوا يعملونها.

فيُذكَر أن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قد عزم عام 719هـ/1319م على السفر للحجاز ليحج للمرة الثانية وخرج صحبته الخليفة المستكفي بالله سليمان وثلاثين أميرًا طبلخانات و عشراوات ومن المباشرين القاضي علاء الدين بن الأثير كاتب السر والقاضي فخر الدين ناظر الجيش والقاضي كريم الدين بن السديد ناظر الخاص الذي توجه إلى الإسكندرية لعمل ثياب حرير برسم كسوة الكعبة.

ثم وصل للملك الناصر من نائب الشام الأمير تنكز تقدمت  فيها الخيل والهجن بأكوار ذهب وسلاسل ذهب وفضة ومقاود حريروكذلك وصلت تقدمة الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة، وكانت تشتمل على أشياء كثيرة.

وقد تولى كريم الدين ناظر الخاص تجهز ما يحتاج إليه السلطان من كل شيء حتى أنه عمل له قدور من ذهب وفضة ونحاس تحمل على البخاتي ويطبخ فيها للسلطان، وأحضر الخولة لعمل مباقل ورياحين في أحواض خشب تحمل على الجمال فتسير مزروعة فيها وتسقى بالماء ويُحصد منها ما تدعو الحاجة إليه أولاً بأول فتهيأ من البقل والكرات والكسبرة والنعناع وأنواع المشمومات والريحان شيء كثير ورتب لها الخولة لتعهدها بالسقية وغيرها وجُهزت الأفران وصناع الكماج  والجبن المقلى وغيره. وكتبت أوراق عليق السلطان والأمراء الذي معه لكل أمير مائة عليقة في كل يوم إلى خمسين عليقة إلى عشرين عليقة وكانت جملة العليق مدة سفر السلطان ذهابًا وإيابًا مائة ألف أردب من الشعير وحمل تنكز من دمشق خمسمائة حمل على الجمال ما بين حلوى وسكر وفواكه ومائة وثمانين حمل حب رمان ولوزوما يحتاج إليه من أصناف الطبخ وجهز كريم الدين من الأوز ألف طائر ومن الدجاج ثلاثة آلاف طائروأشياء كثيرة من ذلك .

وحينما دخل الملك الناصر مكة كشف رأسه وكنس مكان الطواف ومسحه بيده  وتواضع هناك إلى الغاية حتى أنه عندما حسن له القاضي بدر الدين بن جماعة أن يطوف البيت راكبًا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه الملك الناصر قائلاً: "ومن أنا حتى أتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم والله لا طفت إلا كما يطوف الناس!" ومنع الحُجَّاب من منع الناس أن يطوفوا معه وصاروا يزاحمونه وهو يزاحمهم كواحد منهم في مدة طوافه وفي تقبيله الحجر الأسود بل إنه غسل الكعبة بيده وصار يأخذ أُزر إحرام الحجاج ويغسلها لهم في داخل البيت بنفسه ثم يدفعها لهم وكثر الدعاء له وأبطل سائر المكوس من الحرمين الشريفين وعوض أميري مكة والمدينة عنها إقطاعات بمصر والشام، وأحسن إلى أهالي الحرمين وأكثر من الصدقات حتى أنه قيل فيه:

دنوت تواضعًا وعلــــوت مجـــــد      فشــأنـاك انخفاض وارتفــاع

كذاك الشمس تبعد إن تسامى       ويدنو الضوء منها والشعاع

أما الملك الأشرف شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون فشرع بالاهتمام بالحج عام 778هـ/1376م وخرج أطلاب السلطان فجر عشرين قطارًا هجن بقماش ذهب وخمسة عشر قطارًا بعبيّ حريروقطارًا ملبس خليفتي وقطارًا بقمـاش أبيض برسم الإحرام ومائة رأس خيل مشهرة وكجاوتين زركش  وتسع محفات كلها بأغشية حرير مزركش وستة وأربعين زوج محايروخزانة عشرين جملاً وقطارين جمالاً تحمل خضرًا مزدرعة ومن الجمال المحملة شيئًا كثيرًا .

أما ما اشتمل عليه السنيح فكان خمسمائة جمل محملة سكر وحلوى وفاكهة وأشربة ومربيات وقيل أنه وضع في السكر والحلوى أربعمائة مثقال من المسك وقطارين عليهما بقولات وقطارين محملة أشجار مزهرة في طينها ما بين ياسمين ونسرين وورد منثور ومرسين وغير ذلك من الأزهاروهى في صناديق خشب مزفتة مثل المراكب هذا خلاف ما كان للأمراء والخاصكية وإنما كان هذا للسلطان خاصة نفسه .

إلا أن تلك الحجة لم تتم فحينما وصل الملك الأشرف لسرياقوس قام المماليك بسلطنة ابنه الأمير علي وعندما وصل الأشرف إلى عقبة أيلة خرج عليه المماليك بسبب تأخير النفقة فانهزم السلطان وفر ثم قُبض عليه بعد ذلك وخُنق.

حج زوجات السلاطين" الخوندات"

كشفت الدكتورة شيرين القباني في دراستها أنه حينما حجت زوجة الملك الناصر محمد بن قلاوون خوندطغاي عام721هـ/1321م كان يومًا مشهودًا؛ حيث خرجت في محفة زركش وصحبتها الكوسات والعصائب السلطانية فحجت ورجعت فلما وصلت إلى بركة الحاج نزل إليها السلطان وتلقاها ودخلت في موكب عظيم والأمراء مشاة أمام محفتها حتى طلعت إلى القلعة.

وفى عام769هـ/1367م حجت خوند بركة والدة السلطان الأشرف شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون "بتجمل زائد ورخت عظيم وبرك هائل وفي خدمتها من الأمراء الألوف بشتك العمري وبهادر الجمالي أمير الحاج ومائة مملوك من المماليك السلطانية الخاصكية.

وكان من جملة ما معها بدرب الحجاز كوسات وعصائب سلطانية وعدة محفات بأغطية زركش وعدة محاير كثيرة بأفخر زينة وحمل معها أشياء كثيرة يطول الشرح في ذكرها من ذلك: قطر جمال عليها مزروع خضر وغير ذلك وحجت وعادت إلى الديار المصرية بعد أن احتفل جميع أمراء الدولة بملاقاتها".

أما خوند فاطمة زوجة السلطان الملك الأشرف قايتباي المحمودي فحينما حجت عام 879هـ/1474م "كان لخروجها يومًا مشهودًا وكان موكبها حافلاً فخرجت في محفة زركش برصفيات لؤلؤ مرصعة بفصوص بلخش  وفيروز وخرج صحبتها أخت السلطان في محفة زركش أيضًا وخرج معها خمسون حملاً من المحاير المخمل الملون ومشت أمام محفتها بالرملة جميع أرباب الدولة وهم: كاتب السر وناظر الجيش وناظر الخاص وغير ذلك من المباشرين ومشى الزمام ومقدم المماليك وأعيان الخدام بأيديهم العصي وقدامها من الحداة أربعة منهم: إبراهيم بن الجندي المغني وأبو الفوز الواعظ، وغير ذلك فكان لها تجمل زائد قل أن يقع لأحد من الخوندات مثلها فعد ذلك  من النوادر.

وحينما عادت من رحلة الحج لاقاها الأمراء قاطبة حتى قاضي القضاة وترجلوا إليها من على بغالهم وهي في المحفة ولاقاها المغاني بالطارات من البويب".

أما خوند زوجة الملك الأشرف قنصوه الغوري فقد كان لخروجها عام920هـ/1514م للحج يومًا مشهودًا لم يماثل خروج أي خوند غيرها فقد فاق الترف فيه من سبقنها من زوجات سلاطين المماليك.

وقد أفاض ابن إياس في وصف يوم خروجها مع ولدها على النحو التالي: "وفي يوم الاثنين سابع عشر شوال خرج المحمل الشريف وكان لخروجه يوم مشهود لم يقع قط مثله فيما تقدم من السنين الماضية وذلك قد انسحب فيه أربعة أطلاب حافلة: طلب جاني بيك قرا باش  المجاورين وكان حافلاً ثم انسحب طلب سيدي عمر بن المنصور عثمان بن الظاهر جقمق أمير الركب الأول وكان حافلاً وظهر له من السنيح  العظيم أشياء كثيرة يعجز عنها الأمراء المقدمون ثم أنسحب طلب المقر الناصري سيدي ابن السلطان فخرج بطلب حربي وقدامه طبلين وزمرين وصناجق سلطانية وفيه نوبتين هجن بأكوار زركش من ذهب بنادقة وبقية الأكوار مخمل ملون وانسحب في طلبه عدة خيل بكنابيش  زركش بغواشي حرير أصفر وعدة خيل نحو طوالتين  ملبسة ببركستوانات  فولاذ مكفتة وانسحب في طلبه نحو عشرين جملاً مزينة بآلات الشراب خاناه والأواني الصيني واللازورد والزجاج البلوري وغير ذلك وأيضًا أحمال مزينة بآلات الطشتخاناه  من الأباريق الكفت، والطسوت الكفت والشماعيد وغير ذلك مما يحير الأبصار ومحفة جوخ أصفر مزهر في آخر الطلب ثم بعد ذلك انسحبت محفة خوند زوجة السلطان فكانت غاية في الحسن منتهى ما يعمل من المحفات فكانت مخمل كفوي وهى مرقومة بالذهب طرازها وأرضية الثوب عروق لاعبة زركش من الذهب الخلص البنادقة وفوقها خمس رصفيات لؤلؤ وفيها رصعات ذهب بفصوص بلخش وفيروز وحول ثوب المحفة بهرجان ذهب وفضة شقاق وقدام المحفة أربعة مشاعل بفوط زركش بشراريب مثلث وقيل صنعوا لخوند حمام من نحاس صفايح وداخلها أحواض نحاس فعد ذلك من النوادر وغلايات يُصَب منها ماء سخنة وقيل إن مصروف تلك المحفة فوق العشرين ألف دينار وكان خلف المحفة أربعة جمال غير الذي تحت المحفة وعليها كنابيش زركش على مخمل أحمر وحولها مرتعش ذهب وفضة وقدام المحفة حاديين ونحو عشرين نفرًا من الخدام حول المحفة ثم بعد المحفة انسحب نحو عشرين محارة مخمل ملون برسم عيال خوند وغيرها ممن يلوذ بها فلما شقت من الرملة ارتجت لها ولا سيما اجتمع بالرملة الجم الغفير من الأمراء والعسكر والخلائق الذين لا يحصوا لكثرهم ثم طلعت المحفة من الصوة ونزلت من على باب الوزير وشقت من القاهرة فارتجت لها القاهرة ثم انسحب سنيح خوند وابن السلطان فكان فيه ألف جمل ما بين زاد وقرب ماء وغير ذلك من اليرق  الحافل ثم انسحب طلب الأمير طقطباي أمير ركب المحمل فكان غاية في الحسن وهو منتهى ما يعمل في الأطلاب الملوكية فانسحب فيه نحو مائتي فرس ما بين خيول ملبسة بركستوانات فولاذ مكفت وغير ذلك من المخمل الملون وخيول بكنابيش زركش وغير ذلك من المحفات والأحمال المزينة فارتجت لهذه الأطلاب الرملة ثم انسحب المحمل وقدامه ابن السلطان والأمراء الحاج والخاصكية المسافرين إلى الحجاز فطلعوا وشقوا من القاهرة في موكب حفل لم يقع مثله في خروج الحجاج فيما تقدم من المواكب .

وختامًا فعلى الرغم من سقوط دولة المماليك بعد موقعة الريدانية عام 923 هـ 1517 م ، وقيام الدولة العثمانية وتحول مصر من دولة مستقلة إلى ولاية تابعة للخلافة العثمانية بالآستانة‘ إلا أن الاحتفال بخروج المحمل المصري استمر بنفس نلك الاحتفالات الجليلة التي تميز بها طوال العصر المملوكي واستمرت مصر تحظى بشرف كسوة الكعبة إلا أن تووقفت عام 1961م في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لتتوقف احتفالات المحمل المصري ولكنها لا تزال قابعة في الوجدان الشعبي وتتجسد في فنون الفلكلور الشعبي المتعددة من أغاني الحج ورسومات جداريات الحج.

أضف تعليق