القرار المصري

كان المشهد فى المنطقة صعبًا جدًا عقب 5 يونيو 67، فقد كان الوضع أشبه بالكابوس، قرارًا لم تتخذه مصر، والنتيجة احتلال جزء من أرض الوطن (سيناء) كما تم احتلال قطاع غزة والضفة الغربية لنهر الأردن والجولان السورية.
ظنت إسرائيل أن ذلك بمثابة ترسيم جديد لحدود دولتها، وأنه لا يمكن أن تقوم للعرب قائمة بعد ذلك خاصة بعد احتلال سيناء، وترويج الإعلام الأمريكي والإسرائيلي والأوربي وعلي رأسه الإعلام البريطاني، أن المشهد الجديد للمنطقة رسمته إسرائيل، وأن الجيش المصري لن يستطيع أن يسترد عافيته قبل سنوات طويلة، سيجد العرب أنفسهم خلالها أمام أمر واقع جديد عليهم أن يقبلوا به.
لكن من قدم لوسائل الإعلام الأمريكية والأوربية تلك التحليلات والنظريات، لم يدر فى خلده أن يدرس تاريخ تلك الأمة وسيكولوجية التركيبة السكانية لهذا الوطن، الذي إذا ما اتخذ قرارًا.. فالنصر حليفه -بإذن الله- لا محالة، فما يمتلكه من قوة قادرة على قهر المستحيل.
قبل 48 عامًا، وفى مثل تلك الأيام كانت قد مرت ثلاثة أيام على بدء معركة الكرامة (6 أكتوبر)، المعركة التي اتخذت قرارها مصر قيادة وجيشًا واصطف خلفها الشعب فتحول المستحيل الذي تحدثوا عنه إلى واقع واستردت مصر أرضها كاملة.
وهنا أتوقف عند بعض النقاط ونحن نحتفل بذكرى انتصارات أكتوبر 73.
يوم الإثنين 8 أكتوبر 73 الموافق 12 رمضان كانت قوات الجيشين الثاني والثالث الميداني قد عززتا أوضاعهما فى سيناء نتيجة الأعمال القتالية التي قامت بها ونجاحهما فى تحقيق الهدف فأصبحت قوات الجيش الثاني تقاتل على عمق ما بين من 9 إلى 12 كيلو متر داخل سيناء، واستطاعت قوات الفرقة 18 مشاة تحرير القنطرة شرق بقيادة العميد فؤاد عزيز غالي؛ وفى نطاق الجيش الثالث تم تحرير عيون موسى والسيطرة على مواقع العدو الحصينة، مما اضطر القوات الإسرائيلية إلى الهروب تحت ضغط نيران قوات الجيش الثالث.
فى ذلك اليوم قام رئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق سعد الدين الشاذلي بزيارة القوات فى الخطوط الأمامية ليشاهد بنفسه الموقف ويلمس الروح المعنوية العالية التي يتحلى بها المقاتلون.
كان الجانب الإسرائيلي يواصل تعبئة الاحتياط، ففى يوم الأحد 11 رمضان كان قد دفع بفرقتين مدرعتين إلى سيناء، أحدهما بقيادة «إبراهام أدان» باتجاه القنطرة، والثانية بقيادة شارون على المحور الأوسط، تجاه الإسماعيلية، بالإضافة إلى قوات الجنرال مندلر، وبذلك أصبح لإسرائيل على خط جبهة القتال 3 فرق مدرعة “950 دبابة “
اصطدمت فرقة «أدان» بإحدى مجموعات الصاعقة المصرية التي فتحت عليها نيران أسلحتها فدمرت بعضها وأتلفت البعض الآخر وكانت نتيجة القتال تعطل فرقة «أدان» ومنعها من الوصول للقناة.
وخلال يوم 7 أكتوبر طار «ديان» إلى الجبهة الجنوبية للاطمئنان على الموقف، لكن ما شاهده على أرض سيناء جعله يقول: “إسرائيل فى خطر، وستكون النتائج مهلكة إذا لم نتدارك الموقف الجديد ونتفهمه فى الوقت المناسب وإذا فشلنا فى تكييف قتالنا مع المتطلبات الجديدة.”
وفى صباح يوم 8 أكتوبر 12 رمضان بدا العدو يعيد تنظيم قواته على الجبهة وحاول «أدان» مرة أخرى الهجوم ودارت معركة الفردان.
تم صد الهجوم واستطاعت القوات المصرية تدمير الدبابات الإسرائيلية بعد أن فوجئ العدو بسيل من النيران من ثلاث جهات فى وقت واحد تنفيذًا لخطة حسن أبو سعده.
تم تدمير 35 دبابة بقيادة العقيد عساف ياجوري الذي لم يكن أمامه سوي القفز من دبابته ومعه طاقمها للاختفاء فى إحدى الحفر بعدها وقعوا فى الأسر، وظلت هذه الدبابة المدمرة فى أرض المعركة تسجيلًا لها ليشاهدها الجميع بعد الحرب.
اضطر «أدان» للانسحاب شرقًا مرة ثانية نظرًا لما تعرضت له قواته من خسائر؛ وقال عساف ياجوري واصفًا هذا اليوم بالاثنين الأسود: “لقد تركوا صدورنا عارية على جبهة الفردان (يقصد القيادة الإسرائيلية).”
لقد أصبح يوم 8 أكتوبر فى إسرائيل يوم الدم وخيبة الأمل والألم العظيم.
كما شهد يوم 12 رمضان نشاطًا جويًا ضد مطارات العدو وبطاريات الصواريخ ورادارات العدو ومراكز قيادته وكانت النتيجة قفل مطار المليز وتمادى، وتدمير عدد من طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية على الأرض، وبذلك أصبح مطار العيش فقط الذي يمكن لسلاح الجو الإسرائيلي استخدامه.
فى ذلك اليوم نفذت القوات الجوية المصرية 400 طلعة فى سيناء، وتم إسقاط 24 طائرة فانتوم إسرائيلي وسكاي هوك، وأصبحت الروح المعنوية للطيارين الإسرائيليين منخفضة، مع استمرار القوات البحرية المصرية فى ضرب المواقع الساحلية.
وانتهى قتال يوم 8 أكتوبر 12 رمضان فى الثامنة مساءً بانتصار ساحق للجيش المصري، فبحسب وزير الدفاع الإسرائيلي أن ذاك «ديان» أنه لو سارت أحداث 8 أكتوبر بحسب الخطة التي وضعها الجانب الإسرائيلي لكان الوضع على ما يرام، لكن ما دار على الجبهة الجنوبية كان بمثابة يوم الفشل العام فى إسرائيل.
وفى فجر ذلك اليوم 8 أكتوبر 12 رمضان، وصل أحد المسؤولين العسكريين الأمريكيين للاشتراك فى التخطيط للهجوم المضاد الإسرائيلي، وكان الهدف من الهجوم المضاد الضغط على القوات المصرية لإعادة الأوضاع لما كانت عليه يوم 6 أكتوبر 10 رمضان.
كانت الساعة تقترب من الثالثة صباح يوم 8 أكتوبر عندما وصل المسؤول الأمريكي إلى مبنى رئاسة الأركان الإسرائيلية بعد أن قدِم من الولايات المتحدة على متن طائرة خاصة إلى مطار بن جوريون يحمل معه مجموعة من الصور والتقارير الخاصة بالمعارك ومواقع القوات التي التقطها القمر الصناعي الأمريكي.
استعرض المسؤول الأمريكي الخطة قائلًا إن القتال لو استمر أكثر من 6 أيام فإن ذلك سيكون فى صالح العرب، وبعد بحث الموقف بدا له أن الحل الوحيد هو عزل إحدى الجبهتين عن الأخرى، أو بمعنى أوضح توجيه ضربة مكثفة على إحدى الجبهتين لشل الجبهة السورية أو الجبهة المصرية أولًا حتى يستقيم لإسرائيل القتال على جبهة واحدة.
لقد تبين للمسؤول الأمريكي عمق رؤوس الكباري فى سيناء والذي امتد لأكثر من 8 كيلو مترات، وهنا اقترح أن يتم توجيه ضربة قوية لسلاح المدرعات، ومحاولة جذب القوات الجوية فى معارك بعيدة عن أرض المعركة وفى مناطق سكنية لتقييد عمل الصواريخ.
وبينما كان القائد الأمريكي يتابع تنفذ الخطة كان القتال يزداد قوة، وفى ذلك اليوم تصدت قوات الدفاع الجوي بمدينة بورسعيد الباسلة لهجمات أكثر من 50 طائرة إسرائيلية، وظنت إسرائيل أن قواعد الصواريخ قد سكتت لتفاجأ بسيل من النيران يسقط طائراتها.
فى ذلك الوقت كان المسؤول الأمريكي يتابع الموقف على الجبهة المصرية بدقة خلال يومي 8 و 9 أكتوبر الموافق
12 و13 رمضان، وأكد قبل مغادرته تل أبيب ضرورة إخراج الدفاع الجوي المصري من المعركة.
بعد أن سقط خط الدفاع الأول الإسرائيلي وخط الدفاع الثاني لم يصبح أمام إسرائيل سوى الانسحاب إلى خط دفاع الممرات؛ وعن ذلك قال المسؤول الأمريكي: “إذا عبرت وحدات الصواريخ المصرية إلى الضفة الشرقية فسيكون الحصار للقوات الإسرائيلية رهيب.”
ومع صباح يوم 9 أكتوبر 13 رمضان كانت قواتنا فى جبهة سيناء قد حققت المهمة المباشرة للقوات المسلحة، وأنشأ كل من الجيشين الثاني والثالث رؤوس كباري بعمق 12 إلى 15 كيلو متر داخل سيناء بعد تصفية حصون خط بارليف بالكامل عدا اثنين (لسان بور توفيق، وأقصى شمال شرق بور فؤاد) وسقط الأول بعد حصاره واستسلم 37 إسرائيليًا بعد حصارهم.
وواصلت القوات المسلحة المصرية القتال على الجبهة بقوة محققة مزيد من الانتصارات، وفى مساء يوم 9 أكتوبر عقد « ديان» وزير الدفاع الإسرائيلي مؤتمرًا صحفيًا مع عدد من الصحفيين، وتحدث قائلًا: “الموقف على الجبهة الجنوبية يجعلنا لا نستطيع إسكات مدافعهم أو حتى طلب وقف إطلاق النار… لقد أدرك العالم كله الآن أننا لسنا أكثر قوة من المصريين، وأن الهالة التي كانت تقول إذا هاجم العرب فإن الإسرائيليين سيحطمونهم قد سقطت.”
منعت جولدا مائير حديث ديان من النشر أو الإذاعة، خوفًا على الروح المعنوية للقوات الإسرائيلي، وفى ذلك اليوم اتصل السفير الإسرائيلي فى الولايات المتحدة بوزير الخارجية الأمريكية آنذاك هنري كسينجر يطلب منه المساعدة وإلا سيكون الوضع أكثر خطورة.
وبحسب كسينجر فإن إسرائيل خسرت فى الأيام الثلاثة الأولى 500 دبابة منها 400 على الجبهة المصرية، هكذا تكون نتيجة الحرب التي تتخذ قراره مصر، فمصر عندما تقرر تفعل المستحيل من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي.
قبل يوم 6 أكتوبر كان عبور القناة أشبه بمهمة انتحارية وتحطيم خط بارليف يعد ضربًا من ضروب الخيال، لكن متخذ القرار المصري (القائد) كان قد أعد لذلك جيدًا ولم يشغله محاولات الضغط الخارجية أو الداخلية، لأن الهدف واضح والمهمة محددة.
لا تفريط فى حبة رمل واحدة من تراب الوطن، أو أي من مقدرات الدولة المصرية أو حقوقها.
وكان النصر حليفًا للقوات المسلحة المصرية، نصرًا أعاد للأمة العربية كرامتها.
هكذا تكون نتيجة الحرب التى تتخذ قرارها مصر.. فمصر عندما تقرر تفعل المستحيل من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي
هكذا دائمًا عندما تقرر مصر يكون النصر حليفها -بإذن الله- وقوة جيشها وشعبها وقيادتها الحكيمة.
فمصر تتخذ القرار المناسب فى التوقيت المناسب للحفاظ على أمنها القومي

أضف تعليق