(1)
انتهينا فى المقال السابق إلى أن المشروع التنموى الذى تمر به مصر الآن وينسب إلى فكر وجهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، هو مشروع التنمية الثالث الكبير فى عمر مصر الحديثة، بعد مشروعى محمد على، وجمال عبد الناصر، وقلنا إن كل مشروع منها له ملامحه الخاصة، وكذا منطلقاته، وتوجهاته، وقبل الحديث عن مشروع محمد على، الذى التصق به وصف "مؤسس مصر الحديثة" أحرى بنا أن نعرف شيئا عن صاحب المشروع. هو محمد على بن إبراهيم أغا، ولد عام 1769 لأسرة مسلمة بمدينة قولة بمقدونيا اليونانية، وأبوه من أصل ألباني، وانخرط فى سلك العسكرية فى بلاده، وقذفت به المقادير إلى مصر عام 1799 ضمن فرقة عسكرية جاءت تشارك الأتراك العثمانيين والإنجليز فى إخراج الفرنسيين، ورجع محمد علي إلى بلاده بعد مهمته الأولى، لكنه عاد ثانية إلى مصر بعد عامين (1801)، كمعاون لرئيس كتيبة قولة لذات الهدف، وهو إجلاء الفرنسيين عن مصر، وصار قائدا للكتيبة الألبانية، وخرج الفرنسيون وبقى محمد علي فى مصر، الذي ترقى إلى رتبة سرجشمة (لواء) ورشحه العثمانيون لمنصب رئيس القيادة العامة وقائد حرس القصر لدى الحاكم العام، وشرع يستثمر ملكاته، وقد اشتهر بشخصية كاريزمية صارمة، ووضع لنفسه هدفا أكبر واختط له خطة تقوم على التودد إلى زعماء الشعب المصرى، وأبرزهم عمر مكرم أحد كبار قادة المقاومة الشعبية، ونقيب الأشراف آنذاك، فلما خلت السلطة، وتنازعها العثمانيون والمماليك والإنجليز، وقف زعماء الشعب إلى جوار محمد على ومكنوه من السلطة، وكان هذا هدفه: حكم مصر، ولم يجد السلطان العثماني مناصا من إصدار فرمان فى 9 يوليو 1805 بتعيين محمد علي واليا على ولاية مصر العثمانية.
(2)
وعرّفنا التاريخ كيف تخلص الوالى الجديد من خصومه الذين نازعوه السلطة فى الداخل، وأولهم الزعيم الشعبى عمر مكرم، ثم الرقيق المحاربون من المماليك الذين احتكروا الجندية، وبقسوة متناهية اغتال منهم ما يقرب من 500 عنصر فيما عرف بمذبحة القلعة، وأطلق الوالى جنوده لمطاردة من تبقى منهم فى ربوع مصر، فتخلص من نحو
3 آلاف مملوك، وطوى صفحتهم، وشرع بعدها يعمل على التأسيس لمشروعه الإمبراطورى التوسعى، لكن فى حضن الدولة العثمانية أولا، كذراع عسكرى يقمع لحسابها الثورات، ويقضى على المتمردين، وذلك قبل أن يتمرد على الباب العالى، ويناصب العثمانيين العداء، والحرب، وفى الحالين (مع أو ضد الدولة العثمانية) كان امتلاك القوة والقدرة العسكرية التى تمكنه من تنفيذ مشروعه، هو الهم الأكبر لمحمد على.
(3)
فى كتابه المثير "كل رجال الباشا"، يقول الكاتب خالد فهمي: "تأسست الدولة المصرية الحديثة بدافع طموح عسكري للباشا، فى سياق صراعه على النفوذ والسلطة"، ويتفق مع ما سبق المؤرخون، فالحاجة إلى إنشاء جيش قوى وحديث، أدت إلى إنشاء مدارس عسكرية، والعناية الصحية تستلزم أطباء، فتم إنشاء المدارس الطبية، ومدرسة المهندسخانة لإمداد الجيش بالمهندسين، وتوظيف الكتبة والإداريين لتنظيم عمليات الإمداد اللوجستية من طعام وشراب وذخيرة وحتى الزي العسكري، وفى غير هذه الحاجات لم يبد محمد علي اهتماما بإيجاد قاعدة تعليمية عامة أو نشر المعرفة، لذلك عرف نظام التعليم فى عصر محمد علي بـ "الهرم المقلوب". وبعد عدد من المغامرات جرّب فيها الوالى عناصر غير مصرية للانخراط فى سلك الجندية، وتكوين جيش نظامي، انتهى إلى تكوين جيش طليعة ضباطه من الترك والألبان وقاعدة جنوده من المصريين، وقد أصدر مرسوما بتجنيد المصريين إجباريا فى عام 1822، وانتدب للأشراف على منظومة التدريب والتأهيل العسكرى، جنرالا متقاعد من الجيش الفرنسي، يدعى "سيف"، أسلم فيما وعرف باسم "سليمان باشا الفرنساوى".
(4)
وتأسست الدولة المصرية الحديثة حول الجيش المصري، وحوله دارت كل الأهداف التنموية الأخرى، من صناعة، وزراعة، وتعليم، إلخ، لكن أهم المكاسب من تأسيس هذا الجيش كانت تأصيل روح الانتماء والوطنية لدى المصريين، وترسيخ قناعة بأنه لن يدافع عن أرض مصر سوى المصريين، وليس المرتزقة أو العناصر المأجورة، التى تمنح ولاءها وانتماءها لمن يدفع أكثر، كما كان قبل محمد على.