اجتمعت العصبية والطمع فى نفوس عدد من الإخوة يتسمون بالجهل وشىء من الجاهلية (هناك فرق بين الوصفين)، فكانت النتيجة أن اختلفوا على تقسيم ميراثهم الذى هو عبارة عن عصاّرة (محل عصير) وتطور الاختلاف إلى خلاف فخصومة تحولت إلى مشاجرة كبيرة رفع فيها الأخ السلاح على أخيه وقذفه بالبارود والنار وسقط جرحى وقتلى.. جناة تحولوا إلى ضحايا.. وضحايا صاروا جناة.
هذه حادثة حقيقية وقعت الأسبوع الماضى فى إحدى قرى صعيد مصر النائى (تسمى إزليتم)، ولست فى حاجة لأن أؤكد أنها واقعة حقيقية مائة – بالمائة، أو أؤكد أن أشباها لها تقع كثيرا فى الأيام الأخيرة.
وسؤالى: هل كان لهذه العائلة أعداء ساهموا فيما جرى؟ .. جائز، فهناك دائمًا من لهم مصلحة عند آخرين يمكن أن تضاف إلى الطمع والعصبية والجهل، والمصلحة المادية هنا يمكن أن تتمثل فى شخص أو جهة تريد الحصول مثلا على «العصاّرة» بوضع يدها حال تفكك العائلة، أو تحصل عليها بثمن بخس، أو أن يكون لهذه العائلة ثارات عند آخرين وتريد أن تنتقم بإيقاع البغضاء والعداوة بين أفراد عائلة الوارثين.
ويمكن أن نسقط ما سبق - بسهولة - على ما حدث فى أزمة كردستان العراق، ويجوز التشبيه، فالدولة ما هى إلا تجمع بشرى أو هى العائلة فى تطورها الأخير وصولا إلى شكلها السياسى الحديث.
(1)
وما حدث فى العراق هو الفصل الثانى بصورة تكاد تكون طبق الأصل لما حدث فى السودان (انفصال الجنوب) وما يمكن أن يحدث فى شرق السودان، وفى سوريا، وما كان مطلوبًا أن يحدث فى مصر (لا قدر الله)، وأعتقد أننى لا أتحدث عن ماض أو توقعات مستقبلية.. أنا أتحدث عن حاضر وتاريخ منظور تعيشه الأجيال التى بلغت سن الوعى والإدراك.. لكن – للأسف – ليس كل من يدرك يصح إدراكه أو وعيه.. وإلا ما وقع أشقاؤنا فى العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان فى فخ الخناقات العائلية.
(2)
ماذا حدث للعقل العربى؟ سقط عندما فقد الضمير، وشيطنته الدعايات المضللة والتحريض، فلم يعد يرى إلا المصالح الضيقة فاندفع نحوها بغشومية الجهل والجاهلية، والجهل ضد المعرفة، والجاهلية التى وصف بها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم العصر الذى سبقه هى الجاهلية الدينية، والدين الصحيح، عقيدة وقيم، كل القيم السامية (من السمو) من المواطنة إلى قبول الآخر، ومن الحب إلى الإخاء، ومن نشدان العدل إلى كراهية الظلم، هذه القيم التى يصدّرها لنا الغرب الآن فى ورق «سوليفان» ويقول لنا «إنسانية»، ويحرضنا على هجران الدين بعد أن يصوره لنا فى صورة «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان».
ويتدخل نفس هذا الغرب ليشعل نيران الخصومة بين هذه الجماعات والطوائف من الجهلة الجهال، وبين أبناء دينهم، وجلدتهم، ووطنهم، وقوميتهم، ليقضى بعضنًا على بعض.. ونفس هذا الغرب الذى يتحدث عن الإنسانية هو الذى ينشر الخراب، والدمار فى بلادنا، هو الذى يتسم بوحشية، رأيناها فى إبادته للمدنيين العراقيين..
و حكى لى عراقى كيف سالت أو ساحت لحوم العراقيين من فوق عظامهم جراء ضربهم بقنابل النابالم، ورأوهم على هذه الصورة وقد بقت فقط هياكلهم ثابتة فى مكانها على هيئتها محصورة فى السيارات التى كانت تحشد الجنود إلى معركة مطار بغداد الشهيرة إبان الغزو الأخير بعد أن حصرتهم القوات الأمريكية فى أحد الأنفاق وضربتهم بالنابالم.
(3)
وفى وقت حرج للغاية مات جلال طالبانى الزعيم الكردستانى، وأول رئيس نصبته أمريكا خلفا لصدام حسين حين أسست بعد الغزو والاحتلال نظاما طائفيا منحت فيه الشيعة والأكراد أغلبية مقاعد السلطة لتؤجج صراعا طائفيا يكون طرفه الثالث السُنة الذين حكموهما من قبل.
منحت أمريكا كرسى الرئاسة للكردى طالبانى، بينما منحت منافسه اللدود وخصمه العنيد مسعود بارزانى رئاسة إقليم كردستان، ومضت تطبخ بتشجيع من إسرائيل الطبخة المسمومة، التى استطعمها بارزانى وشبع منها فدعا لاستفتاء الانفصال!
هل تشك فى أن الرجل يبحث عن ميراثه فى عصارة كركوك؟! وعصارة كركوك لا تنتج عصير القصب، ولكن تنتج الذهب الأسود، ويصل إنتاجها إلى ما يقرب من 900 ألف برميل يوميًا، وتقبض ثمنها بعيدًا عن الحكومة الاتحادية فى العراق.
وفجأة غيّب الموت طالبانى، الذى اشتهر بأنه رجل المطافىء، الذى يتدخل فى الوقت المناسب لإطفاء ما يشعله بارزانى بين الأكراد وباقى إخوانهم العراقيين، وكان يمكن أن يتدخل فى الوقت المناسب لينقذ العراق من حرب أهلية جديدة فى وقت لم تهنأ فيه ولو لساعات بانتصارها على داعش وطردها من آخر معاقلها فى مدينة الحويجة.
وكثير من العراقيين ومنهم أكراد يشبّهون الآن بارزانى بصدام حسين، ويرددون ساخرين «ما أشبه أبا عدى بأبى مسرور» لقد بايع الأخير الأول على غزو الكويت من قبل فكانت كارثة، وكان صدام طامعًا فى خيرات الكويت باحثًا عن زعامة – كارزماتية، وشجعته أمريكا ودفعته لارتكاب أكبر حماقة عربية فى النصف الثانى من القرن العشرين، فماذا كانت النتيجة؟!
(4)
يؤكد العراقيون أنفسهم أن صدام دمر جيش العراق وبنيتها الفوقية والتحتية، وجلب عليهم الحصار من البلاد التى شجعته من قبل على الغزو، وجلب الحصار الجوع، فانتشر الفساد فى العراق، وانتهى الأمر إلى إعدامه، وقتل ولديه.
واليوم يتكرر نفس السيناريو مع بارزانى، دول الغرب ترفض قراره بالاستفتاء علنًا، لكنها تشجعه ومن خلفها إسرائيل فى الخفاء، وسوف تدفع به إلى المضى قدمًا ليعلن إجراءات الانفصال الكامل عن سلطة بغداد، وقد أعلن بالفعل ميعاد ذلك فى الشهر القادم (نوفمبر).
وإقليم كردستان والمناطق المتنازع عليها منه مع العراق، يسكنه أيضا تركمان، وقد أعربوا بشدة عن قلقهم وخوفهم من الوضع الحالى والقادم، وتوجهوا إلى حكومة العراق المركزية يطلبون حمايتها، يحدث هذا بينما يحشد برزانى قواته من البشمركة التى دربتها أمريكا بحجة مقاتلة داعش، وتتوالى بيانات إعلان الغضب من أطراف أخرى عراقية سياسية وطائفية وعرقية، تعلن معارضتها أو تأييدها لاستفتاء انفصال كردستان، ويعكس الموقفين (التأييد والرفض) الاحتقان الذى ينذر بالخطر القادم، خاصة أنه ليس شأنا داخليًا فقط، فهناك أطراف إقليمية أخرى مثل إيران وتركيا وسوريا، ونضيف إليها إسرائيل، لن تقف موقف المتفرج ومصالحها تتهدد، فإعلان كيان سياسى مستقل للأكراد مثال يشجع ملايين الأكراد الموجودين فى تركيا وإيران وسوريا، على طلب الانفصال أيضًا، أو الانضمام للدولة الوليدة (حال إعلانها).
وما يحدث هو معركة عائلية جديدة على إرث السلطة، اندفعت لمثلها طوائف وملل ونحل عربية كثيرة بعد الربيع الكارثى، بتحريض من الخارج وسوء استقبال من الداخل، والنتيجة: الاندحار الذى أصاب مفهوم الدولة الوطنية.