وفى 12 سبتمبر 2017، أعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان توقيع عقد مع روسيا لشراء منظومات صواريخ «إس 400» المضادة للطيران، في وقت علقت فيه ألمانيا كل صادرات السلاح الرئيسة إلى تركيا بسبب موقف حقوق الإنسان المتدهور وتصاعد التوتر مع شريكتها في «حلف شمال الأطلسي» (ناتو).وقال اردوغان في تصريحات نقلتها صحيفة «دايلي صباح» اليوم (الثلثاء): «تم التوقيع لشراء منظومات إس 400 من روسيا، وتم تسديد دفعة أولى».وتابع: «نتخذ القرارات منفردين في شأن استقلالنا. نحن ملزمون باتخاذ اجراءات للامن والدفاع من أجل حماية بلادنا.
وأكدت موسكو الاتفاق، وقال مستشار التعاون العسكري والفني في الكرملين فلاديمير كوجين لوكالة «تاس» الروسية: «لقد تم توقيع العقد ونستعد لتطبيقه. منظومات إس 400 من الاكثر تعقيداً وتتضمن مجموعات من المعدات التقنية التي تتطلب ضبط العديد من المسائل الدقيقة».وتشمل المنظومة عدة محطات رادار وصواريخ بابعاد مختلفة بالاضافة الى تجهيزات للصيانة.
تتجه انقرة إلى إتمام أكبر صفقة شراء أسلحة ستكون الأولى من نوعها مع روسيا، مثيرة بذلك قلق حلفائها في حلف شمال الاطلسي، على رغم أن الصفقة قد لا تتحقق.
وأكد مسؤولون من البلدين الانتهاء من التحضيرات كافة لإتمام صفقة شراء أنقرة منظومة الدفاع الصاروخي «اس-400»، أكبر صفقات تركيا مع دولة لا تزود حلف شمال الأطلسي بالأسلحة. وعلى رغم التأكيدات إلا أن الصفقة ما تزال في طور التحضير.
ويشكك محللون في إمكانية تسلم تركيا بطاريات صواريخ أرض-جو الدفاعية. ويقول البعض إن الرسالة التي توجهها هذه الصفقة إلى الغرب تفوق في أهميتها عملية التسليم نفسها.
واطلق البنتاغون تحذيراً عبر إعلانه صراحة أنه «إجمالاً فكرة جيدة» أن يقوم أعضاء حلف شمال الأطلسي بشراء معدات قابلة للتشغيل في ما بينهم.
من جهته، تباهى الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بالصفقة التي يتم التحضير لها، قائلاً «سنرى (صواريخ) اس-400 في بلادنا.
وتذرع اردوغان بأن اليونان العدو السابق والعضو في حلف شمال الأطلسي تمتلك صواريخ من طراز «اس-300» تخزنها في جزيرة كريت كانت اشترتها أواخر تسعينات القرن الماضي من قبرص التي نقلتها إلى اليونان، تجنباً للتصعيد في الجزيرة المقسمة.
وقال رئيس وكالة التنسيق العسكري التقني الروسية ديمتري شوغاييف لصحيفة «كومرسانت»، إن الصفقة «شبه جاهزة» وهناك فقط بعض «الأمور الدقيقة» التي يجب حلها.
وأضاف أن الولايات المتحدة «قد تكون غاضبة لكن تركيا دولة مستقلة، ويمكنها اتخاذ قرارها».
من جهته، قال نائب مدير المركز التحليلي الفرنسي الروسي في موسكو ايغور ديلانو، إن لديه «شكوكاً كبيرة» بان تجد الصفقة طريقها إلى التنفيذ.
وتابع أن روسيا غير مرتاحة لطلب تركيا نقل التكنولوجيا ومواقع الإنتاج، مضيفاً أن روسيا تشهد تراكماً للمطالب من قواتها ومن حليفتها الصين.
وأوضح ديلانو أن «موسكو وأنقرة تستغلان هذه المسألة سياسياً كي تظهرا للغرب عدم ارتياحهما».
وتشهد علاقات روسيا مع حلف شمال الأطلسي توتراً على خلفية ضمها القرم من اوكرانيا، ودعمها انفصاليين موالين لموسكو في الشرق الأوكراني.
وعلى رغم أن تركيا دولة فاعلة في حلف شمال الاطلسي إلا أن علاقاتها، ولا سيما مع الولايات المتحدة، يعتريها التأزم، بسبب دعم واشنطن وحدات حماية الشعب الكردية، التي تعتبرها أنقرة «منظمة إرهابية».
وقال ديلانو إن «أنقرة تميل إلى استخدام (مسألة صواريخ اس-400) للتعبير عن انزعاجها إزاء التنسيق العسكري الأميركي مع الأكراد في سورية».
بدوره، قال خبير الشؤون التركية تيمور أحمدوف من المجلس الروسي للقضايا الدولية ومقره أنقرة، إن المحادثات ساعدت روسيا في الترويج لأنظمة الأسلحة التي تنتجها وزعزعة الثقة بين دول حلف الأطلسي، فيما تريد تركيا أن تظهر لحلفائها الغربيين أن لديها خياراً استراتيجياً في علاقاتها.
وأضاف أحمدوف «كلما طالت مدة المفاوضات حول منظومة اس-400 كلما كان ذلك في صالح روسيا وتركيا».
وتشكل مناقشة روسيا وتركيا للصفقة في حد ذاتها مؤشراً قوياً للتحول في العلاقات منذ المصالحة الصيف الماضي، بعد إسقاط تركيا مقاتلة روسية عند الحدود مع سورية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015.
وتقف روسيا وتركيا على طرفي نقيض في النزاع في سورية، إذ تدعم موسكو نظام الرئيس بشار الأسد، فيما تدعم أنقرة فصائل معارضة.
وأجبرت مقاتلات تركية العام 2012، طائرة سورية متجهة من موسكو إلى دمشق على الهبوط في مطار انقرة، للاشتباه بنقلها تجهيزات عسكرية أفادت تقارير أنها أجزاء من رادار تابع لمنظومة الدفاع الجوي السوري.
ويبدي البلدان قدرة على التحكم في إدارة العلاقات بينهما، بعدم السماح للتنافس الإقليمي الذي يعود إلى قرون ماضية في التأثير على مجالات تعاون قد تكون مثمرة، لكن محدودة بينهما.
ويعتبر محللون أن المحادثات في شأن صواريخ «اس-400» ما تزال بعيدة من أن تشكل مؤشراً لتحالف استراتيجي. وقال أحمدوف إن الأمر الوحيد الذي يدفع روسيا وتركيا إلى التقارب هو رغبتهما في ممارسة ضغوط على الغرب.
وتابع ديلانو إن «الشريكين لا يثقان في بعضهما»، لكنهما يقيمان «شراكة اقتصادية حيوية محورها الطاقة»، مع العمل على إنجاز مشروع بناء أنبوب نفط توركستريم لضخ الغاز الروسي عبر البحر الأسود.
وبحسب دراسة أجراها جان كسب اوغلو من مركز «ايدام» للدراسات الاقتصادية والسياسية؛ فإن رغبة تركيا في الحصول على الأسلحة تعود إلى النقص في الطيارين العسكريين الأكفاء جراء عمليات التوقيف التي اعقبت الانقلاب الفاشل في 15 تموز (يوليو) 2016، ما أبرز الحاجة إلى تعزيز الدفاعات الجوية.
وقال كسب أوغلو إن حصول تركيا على صواريخ «اس-400» على غرار امتلاك اليونان أسلحة روسية مشابهة، يعيد إلى الأذهان «الحلقة المفرغة» ذاتها التي تتمثل في تسليح روسيا للعدوين اللدودين أرمينيا وأذربيجان.
الحياة،3-9-2017
مع الحديث عن قرب التوصل إلى اتفاق نهائي بين روسيا وتركيا على شراء الأخيرة منظومة الصواريخ الدفاعية أس 400، تتوالى ردود أفعال حلفاء تركيا في الغرب خصوصاً في حلف الأطلسي الذي انضمت تركيا إليه مبكراً في عام 1952.
السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه، يتعلق بحاجة تركيا إلى مثل هذه المنظومة الصاروخية، وفي أي سياق تأتي هذه الصفقة مع روسيا.
تتحدث الأوساط التركية عن جملة من الأسباب التي تدفع تركيا إلى شراء مثل هذه المنظومة، أهمها:
1- على رغم التطوير الذي شهده قطاع التصنيع العسكري التركي ولاسيما في مجال الطائرات والمروحيات المقاتلة، إلا أن تركيا تعاني ضعفاً كبيراً في مجال الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، في وقت حققت إيران وإسرائيل قفزات كبيرة في هذا المجال، وهو ما يجعل تركيا تحس بأن ظهرها مكشوف أمنياً، لاسيما أن مثل هذه المنظومة يستخدم في مواجهة حرب الطائرات الاستراتيجية والصواريخ الباليستية وغيرها من وسائل الهجوم الجوي.
2- إن تركيا التي تتطلع إلى أن تتحول إلى دولة مصدرة للأسلحة والانتقال إلى القوة الخشنة بعد إقامة قواعد عسكرية في قطر والصومال والعراق، وقيامها بعملية درع الفرات في شمال سورية والحديث عن عملية مماثلة تحت عنوان شمس الفرات، تتطلع إلى توطين الخبرة العسكرية في مجال الصواريخ البعيدة المدى والمنظومات الدفاعية من نوع أس 400 وغيرها.
3- إن إحجام الدول الغربية وحلف الأطلسي في السنوات الأخيرة عن دعم تركيا بمثل هذه المنظومات، ولاسيما بعد سحب دول الحلف المنظومة الدفاعية (باتريوت) من الأراضي التركية عام 2015، يدفع بتركيا جدياً إلى البحث عن بديل، وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى المفاوضات التي أجريت مع الصين قبل سنوات قليلة لشراء منظومة صواريخ متوسطة المدى على رغم أن الصفقة فشلت.
4- إن الصفقة مع روسيا في شأن أس 400 تأتي في ظل التقارب الكبير الجاري بين الجانبين وتعاونهما في عدد من ملفات المنطقة، وتطلع كل طرف إلى تحقيق أهداف من علاقته بالآخر، وإذا كان الثابت أن روسيا تريد إبعاد تركيا عن منظومة الأطلسي، فإن تركيا ترى في تقاربها مع روسيا ورقة تلوح بها في وجه الغرب لدفعه إلى إعادة النظر في سياسته في شأن القضايا الخلافية ولاسيما العلاقة مع الأكراد ودعمهم.
ومع الاعتقاد بأن صفقة أس 400 باتت أكيدة، بخاصة في ظل حديث الطرفين الروسي والتركي عن الانتهاء من الجوانب الفنية للصفقة ومناقشة الجوانب المالية لها حيث تقدر الصفقة ببليونين ونصف بليون دولار على أن تشمل خمس وحدات، فإن الأنظار تتجه إلى ردود فعل الغربيين، وهنا لا بد من التوقف عند ما يأتي:
1– تأكيد وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس أن قضية توجه تركيا إلى عقد مثل هذه الصفقة شأن تركي سيادي وداخلي لا تتدخل فيه الولايات المتحدة، إلا أن هذا التأكيد يتناقض مع إعلان رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأميركية المسلحة جوزف دانفورد أن هذه الصفقة تشكل قلقاً للإدارة الأميركية وللعلاقات الأميركية – التركية.
2- تأكيد حلف الأطلسي أن منظومة الصواريخ الدفاعية أس 400 الروسية لا تتوافق مع المنظومة العسكرية للحلف، فكيف لتركيا أن تجمع بين المنظومتين المختلفتين في بلد عضو في الحلف.
3- الحديث عن أن تركيا تستخدم هذه الصفقة كورقة أو رسالة في وجه الدول الغربية لدفعها إلى تقديم تنازلات لتركيا في القضايا الخلافية، ولاسيما قضية دعم الأكراد وكذلك القضية القبرصية.
4- تلويح العديد من الأوساط الغربية بممارسة المزيد من الضغوط على تركيا لثنيها عن هذه الصفقة، وصولاً إلى إفشالها، كما حصل في الصفقة مع الصين بعد أن اقتربت من الإنجاز.
5- تلويح دول الحلف بإجراءات ضد أنقرة إذا مضت في إنجاز الصفقة مع روسيا، ومن هذه الإجراءات إخراجها من عضوية الحلف أو تجميد عضويتها حتى تلتزم بقواعد العمل المتبعة في منظومة الحلف، وكذلك تجميد مفاوضات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.
حتى الآن، تقول تركيا على لسان الرئيس رجب طيب أردوغان إنها ماضية في إنجاز الصفقة مع الروس، إذ إنها بحكم موقعها من الحروب والمتغيرات الجارية في المنطقة تجد نفسها أمام خيارين، فإما أن تمتلك نظاماً جوياً على غرار منظومة أس 400 وهو ما تسعى إليه، أو أن يلبي حلف الأطلسي حاجتها.
أسباب وتداعيات إبرام صفقة "إس- 400" بين تركيا وروسيا
أعلنت تركيا وروسيا عن انتهائهما من المشاورات الخاصة بالتفاصيل الفنية لصفقة منظومة "إس- 400" الدفاعية، فى مؤشر على أن أحد الأبعاد الرئيسية في إتمام الصفقة قد تم إنجازه. ووفقًا للمدير العام لشركة "روستيخ" الروسية الحكومية سيرغي تشيميزوف، قبل أسبوع على هامش معرض "ماكس-2017" للطيران والفضاء، فقد تم الاتفاق على الجوانب الفنية وبقيت هناك مسائل إدارية فقط، بما يعني أن الصفقة تشهد خطوات جدية نحو التنفيذ.
ومن دون شك، فإن ذلك يمثل تحولاً بارزًا في السياسة الدفاعية لتركيا التي تنتمي تقليديًا للمحور الغربي، ربما يزيد من احتمال استمرار تطور العلاقات الدفاعية التركية– الروسية خلال المرحلة القادمة، مقابل تراجع واضح في العلاقات مع الحلفاء التقليديين مثل الولايات المتحدة الأمريكية والناتو، خاصة وأن التوقيت الذي يتم فيه التشاور حول تلك الصفقة يتزامن مع التصعيد اللافت في العلاقات الروسية– الأمريكية على خلفية العقوبات الجديدة التي أقرها الكونجرس الأمريكى على روسيا.
ورغم أن المشهد الراهن لا يعني الانسحاب التركي المباشر من الدائرة الغربية، إلا أن هناك اتجاهًا مرحليًا لإجراء تغيير في السياسات الدفاعية وربما العقيدة العسكرية التركية نفسها، وهو ما تدعمه مؤشرات عديدة يتمثل أبرزها في حجم المشاركة التركية في العمليات الخارجية للناتو، واتجاهات العلاقات بين تركيا وحلفائها.
عوامل متعددة:
ربما يمكن تفسير اتجاه أنقرة إلى إبرام تلك الصفقة في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- تصاعد هامش التباين بين أنقرة وواشنطن: تمر العلاقات التركية– الأمريكية بمرحلة توتر منذ الانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا العام الماضي، إذ وجهت أنقرة انتقادات لواشنطن تصاعدت بسبب رفض الأخيرة تسليم عبد الله كولن الذي تتهمه الأولى بالتورط في تلك المحاولة، وهو ما انعكست مؤشراته في حرب الموصل، حيث اتجهت واشنطن إلى إعادة تأهيل وبناء قواعد في العراق وسوريا كبديل محتمل لقاعدة "انجرليك" التركية.
كما لم تتوقف أنقرة عن محاولة ممارسة ضغوط على واشنطن بسبب الدعم العسكري الذي تقدمه الأخيرة للأكراد في معركة الرقة، بالنظر الى الموقف التركي المعروف من الفصائل الكردية التي تعتبرها إرهابية، إلا أنها لم تنجح في تحقيق نتائج تذكر في هذا السياق.
فضلا عن ذلك، فإن تركيا ترى أن هناك مماطلة أمريكية في تحديث منظومتها الدفاعية، وهو ما عبر عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بقوله، في 25 يوليو 2017، أن "تركيا اضطرت للتوجه نحو استيراد هذه المنظومة من روسيا في ظل توفيرها إمكانية المشاركة في الإنتاج، وإحجام الولايات المتحدة عن المشاركة مع تركيا في هذا المجال".
2- العراقيل الدفاعية للناتو: فبحسب موقع Defense tech، فإن الناتو سبق له أن تجاهل احتياج تركيا لرفع مستوى قدراتها الدفاعية. فيما كشفت تقارير صحفية تركية، في وقت سابق، عن أن الناتو والولايات المتحدة رفضا طلبًا لتركيا بالحصول على منظومة دفاع صاروخي صينية بدعوى أن تلك الشركة لديها سوابق مبيعات صاروخية لإيران.
3- تحسن العلاقات مع روسيا: والتي تأثرت في وقت سابق بسبب استهداف تركيا لمقاتلة روسية في المجال الجوى السوري في نوفمبر 2015. ومع تجاوز هذه الأزمة، بدأ مسار التقارب التركي- الروسي، الذي انعكس في الملف السوري، حيث شاركت أنقرة بفاعلية فى مفاوضات آستانة إلى جانب روسيا وإيران. وبالطبع، فإنه فى حالة إبرام الصفقة فعليًا، فمن المتصور أن تلك العلاقات سوف تصل إلى مستوى غير مسبوق بين الدولتين، ربما يكون أقرب إلى التحالف المشترك.
4- أهمية الصفقة الدفاعية: تشير تقديرات عديدة إلى أن منظومة "إس- 400" من أفضل المنظومات الدفاعية على مستوى العالم، حيث تستطيع إسقاط جميع وسائل الهجوم الجوي الموجودة حاليًا، بما فيها الطائرات والمروحيات والطائرات المسيَّرة والصواريخ المجنحة والصواريخ البالستية التكتيكية التي يمكن أن تصل سرعتها إلى 4800 متر في الثانية.
دلالاتمختلفة:
تطرح تلك الصفقة دلالات عديدة يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تغير في التوجهات العسكرية: يبدو أن ثمة تراجعًا ملحوظًا في العلاقات الدفاعية بين تركيا والناتو، وهو ما تؤكده مؤشرات عديدة، فوفقًا للتقرير السنوى لعام 2016، فإن نسبة مساهمة تركيا فى عمليات الناتو والشراكة مع الحلف تراجعت إلى أدنى مستوياتها تاريخيًا، إذ كانت مشاركة تركيا في عمليات الناتو في كوسوفو وأفغانستان متواضعة للغاية، حيث وصلت إلى 7% فقط، كما عُطلت بعض البرامج المتطورة مع الناتو والتدريب العسكري.
2- تحولات هيكلية واستراتيجية: تكشف هذه الصفقة عن تحولات هيكلية واستراتيجية في المنظومة العسكرية والأمنية بشكل عام، والدفاعية بشكل خاص، والتي يمكن القول إنها تستحوذ على القدر الأكبر من تلك المنظومة العسكرية، بل وتساهم في تحديد التوجهات الاستراتجية لتركيا، حيث أن الصفقة ستسمح لتركيا بنشر أنظمة الدفاع الصاروخية في أى مكان داخل أراضيها. ويمكن لهذه الشراكة أن تعزز صناعة الدفاع التركية وتخدم هدف الدولة المتمثل في تنويع مصادر التسلح.
3- تكريس نظرية التمييز: ترى تركيا أن تراجع علاقاتها الدفاعية مع الناتو يمثل نتيجة لسياسة التمييز التي تمارس ضدها على عكس دول أخرى مثل اليونان، التي سمح لها، وفقًا للرؤية التركية، منذ عام 1997 بالحصول على منظومة "إس- 300". ومن دون شك، فإن تعمد أنقرة طرح هذا النموذج تحديدًا لا ينفصل عن خلافها مع اليونان حول ملف قبرص، إلى جانب عدم نجاح جهودها في دعم فرص انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
هدفان رئيسيان:
تسعى تركيا من خلال تلك الصفقة إلى تحقيق هدفين رئيسيين: يتمثل أولهما، في تطوير القدرات، حيث تحاول أنقرة من خلال تلك الصفقة تعزيز قدرتها على تحديث منظومتها الدفاعية، خاصة أن تقارير عسكرية وتصريحات كثيرة تشير إلى أن ذلك يكتسب أهمية خاصة في ضوء التهديدات العديدة التي باتت تفرضها التطورات الإقليمية المحيطة بها، وخاصة استمرار الأزمة السورية دون تسوية حتى الآن.
وينصرف ثانيهما، إلى تعزيز الصناعات العسكرية، فبحسب مسئولين أتراك، فإن الاتفاق التركي- الروسي لا يقتصر على شراء تلك المنظومة، بل يتضمن تدشين عملية تصنيع مشترك لبطاريتين منها مع روسيا، بحيث تمتلك تركيا القدرة لاحقًا على إنتاج أنظمة دفاع متقدمة خاصة بها. لكن خبراء عسكريين روس شككوا فى تقارير أشارت إلى ذلك، لاعتبارات تتعلق بتكلفة نقل التقنية ذاتها، حيث سيتعين على تركيا، وفقًا لهم، إنفاق مليارات الدولارات لإنشاء صناعة جديدة بشكل كامل.
وفي النهاية، ربما يمكن القول إن ثمة تحولات ملحوظة في شبكة علاقات تركيا وسياستها الخارجية والدفاعية، لكن استمرار هذه التحولات سوف يرتبط، على ما يبدو، بالمواقف التي سوف يتخذها حلفاء أنقرة، بما يعني أن أنقرة ربما تحرص خلال المرحلة القادمة على استشراف ما سوف يفرضه تقاربها مع موسكو من تداعيات على علاقاتها مع حلفائها، حيث سيمثل ذلك متغيرًا مهمًا في تحديد المدى الذي يمكن أن تصل إليه تلك التحولات.
قطع الرئيسان التركي أردوغان والروسى بوتين الشك باليقين فى شأن صفقة شراء أنقرة نظام "إس-400" الدفاعي الصاروخي من روسيا، حينما أعلنا قبل نهاية شهر يوليو الماضى أنه جرى توقيع اتفاق لإتمام الصفقة مع بحث إمكانية وضع برنامج لتصنيعها على نحو مشترك. وفيما لم يحدد تفاصيل أو معالم تلك الصفقة،سواء من حيث النموذج الذي سيتم الاتفاق عليه، أوعدد الصواريخ التى سيتم تسليمها،أو نوعية الطواقم الفنية المصاحبة،أكد الرئيس الروسى بوتين فى تصريح له على هامش المنتدى الاقتصادى بمدينة سان بطرسبرج مطلع يونيوالماضى، أن عملية الإنتاج المشترك للمنظومة الصاروخية إس 400، لم يبدأ بعد خارج روسيا مع أية دولة،كونهاعملية معقدة تتطلّب مرحلة إعداد طويلة من حيث التكنولوجيا وتدريب الفنيين والترتيبات القانونية والأمنية،لكنه لم يستبعد تدشين هكذاعملية مع الجانب التركى.
مآرب روسية:
برغم الجدل الاستراتيجى الذى فجرته تلك الصفقة داخل روسيا ما بين فريق مؤيد لإتمامها وآخر معارض،يبدى الرئيس بوتين انحيازا لافتا لإتمامها استنادا إلى اعتبارات شتى :فمن جهة،يرى الرجل تزويد بلاده تركيا بمنظومة "إس 400" خطوة جبارة على طريق ولوج موسكو إلى السوق العسكري التركي المغلق نسبيًا منذ عقود فى وجه روسيا، لمصلحة حلف شمال الأطلسي،بما يتيح لروسيا اختراق ذلك الأخير من جبهته الأمامية التركية فى مواجهتها.ومن جهة أخرى،يرى بوتين فى هذه الصفقة ردا ملائما على الاستفزاز الأمريكى المتواصل لبلاده، سواء عبرنشر منظومات أمريكية وأطلسية صاروخية متطورة بالقرب من المجال الاستراتيجى الحيوى الروسى،أو من خلال فرض واشنطن مزيد من العقوبات على موسكو.
ففى أثناء منتدى سانبطرسبرغ، وبعدما اعتبر أن حلف شمال الأطلسي أداة للسياسة الخارجية الأميركية، معربا عن قلق بلاده من اقتراب بنيته الأساسية العسكرية من الحدود الروسية، أعلن بوتين أن نشر واشنطن عناصر من الدرع الصاروخية الأمريكية في ألاسكا، ونظام الدفاع الصاروخي "ثاد "في كوريا الجنوبية، فضلا عن اتخاذ واشنطن كوريا الشمالية ذريعة لتوسيع قدراتها العسكرية في آسيا بالطريقة نفسها التي استغلت بها إيران ذريعة لتطوير الدرع الصاروخي في أوروبا، إنما يمثل تحديا لروسيا، مثلما يدمر التوازن الاستراتيجي العالمى،كما يضطر موسكو إلى تعزيز حضورها الاستراتيجى في الشرق الأوسط،واعتبر بوتين أن جزر كوريل، وهي مجموعة جزر في أقصى شرق روسيا متنازع عليها بين موسكو وطوكيو،تعد الموضع الأنسب لتموضع عسكري روسي من شأنه أن يشكل رداً على هذه الغطرسة الأمريكية.
دوافع تركية:
عديدة هى المغانم الاستراتيجية التى تتطلع تركيا إلى بلوغها عبر هذه الصفقة،لعل أبرزها:رغبة أنقرة الملحة فى معالجة الخلل الفج فى دفاعاتها الجوية التى تعانى ضعفا واضحا، رغم من كون الجيش التركي هو ثاني أكبر الجيوش في الناتو، الذى ضن على تركيا بأية مساعدة بهذا الصدد، رغم تأكيد مايكل تورنر، رئيس الجمعية البرلمانية للحلف، خلال اجتماعها بإسطنبول فى نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، دعم الناتو لتركيا في حربها ضد الإرهاب، واعترافه بأحقيتها في امتلاك منظومة دفاع جوي بعيدة المدى، غير أن الحلف من الناحية العملية ظل يعارض مساعى تركيا لمعالجة هذا الأمر من خارجه،حتى أنه عرقل من قبل محاولات تركيا لامتلاك منظومة متطورة للدفاع الجوي من الصين؛ كى لا تكون لدي الأخيرة أية فرصة للاطلاع على التقنيات العسكرية للناتو.
ومنذ وقت مبكر،بدأت تركيا تسعى إلى معالجة ذلك الخلل المزمن والمزعج فى دفاعاتها الجوية، سواء من خلال شراء منظومات "باتريوت" الأمريكية، أو "إس 400" الروسية،خصوصا بعدما لم يبد الحليف الغربى التعاون الكافى والمتوقع مع تركيا بهذا الصدد، ما بين مماطلة فى اتخاذ خطوات عملية،واشتراط شراء الأتراك 12 نظاما جملة واحدة من طراز "باتريوت" الأمريكى بقيمة 30 مليار دولار، وصولا إلى الاعتراض على جلب أنقرة لأية أنظمة صاروخية من خارج الناتو. الأمر الذى دفع تركيا نحو موسكو،لاسيما وأن نظام "إس 400" الروسى، الذى دخل الخدمة في وحدات الجيش الروسي، منذ عام 2007،وكانت الدولة الوحيدة التي تعاقدت على شرائه هي الصين،فيما تجري الهند مفاوضات لذات الغرض منذ فترة،يعد الأكثر تفوقا على كافة منظومات الصواريخ الاعتراضية بما فيها "باتريوت" الأمريكية،كونه قادر على رصد واعتراض الصواريخ المجنحة على أدنى ارتفاع عن سطح الأرض كما الصواريخ المجنحة عالية السرعة، والصواريخ الباليستية التي تصل سرعتها إلى 4800 كم/ساعة، علاوة على إسقاط جميع أنواع الطائرات الحربية للعدو المفترض، بما فيها طائرات الشبح المزودة بقدرات لتعمية الرادارات، كما طائرات الاستطلاع الصغيرة والطائرات بدون طيار. هذا إضافة إلى أن منظومة "إس 400 "، تقل كثيرا عن "باتريوت"فى التكلفة المالية، بينما تتفوق عليها فى دقة الإصابة، وإمكانية مقارعة أهداف بالستية، والوقت اللازم لجاهزية الإطلاق والاشتباك.
ومع تصاعد وتيرة التأزم فى المنطقة،شرعت تركيا فى تعظيم قدراتها العسكرية لتقوية مركزها فى معادلة التفاعلات الإقليمية والدولية مستقبلا.فمع نزوع إيران،فورتوقيع الاتفاق النووي مع السداسية الدولية منتصف العام 2015، إلى تنمية قدراتها العسكرية إلى مستوى ربما يحدث خللا فى موازين القوى الإقليمية لغير مصلحة تركيا، ومن ثم بدأت تركيا تسعى لإتمام صفقة "إس 400" التركية الروسية بعدما أصدر الكريملين فى أبريل 2015 مرسوما ينهى الحظر المفروض على تسليم نظام صواريخ إس-300 المضاد للصواريخ لطهران .
ومن شأن نشر تركيا منظومة "إس 400" على حدودها أن يتيح لها مراقبة كافة الفعاليات الجوية في البلد المستهدف بعمق 600 كيلو متر، كما سيمكنها من استهداف الأنشطة الجوية التي تجري على بُعد 400 كيلو مترا من حدودها. وبامتلاكها أيضا لهذه المنظومة،يمكن لتركيا الاستغناء عن استخدام المقاتلات من طراز "إف 16 "الأميركية في مهام الدفاع الجوي التركي، إذ سيخولها إمكانية الرد السريع على التهديدات الخارجية من دون أن تضطر المقاتلات التركية للتحليق إلى مسافات بعيدة لمواجهة الأخطار القادمة من الخارج، وبذلك تكون المنظومة الروسية قد وفّرت على تركيا تكاليف ومخاطرتحليق مقاتلاتها فى مجالها الجوى الفسيح، الأمر الذى يمكن أن يساهم في إطالة عمر المقاتلات التركية كونها لن تضطر إلى التحليق لأوقات ومسافات طويلة لحماية المجال الجوي التركى.كذلك،سيتيح نشر المنظومة لتركيا مراقبة دقيقة لأجواء منطقة بحر إيجة، وتحقيق تفوق جوي لافت على اليونان، بما يقوى موقف أنقرة خلال المفاوضات الجارية لتسوية الخلافات المزمنة بين تركيا واليونان في تلك المنطقة.
وعلاوة على ما سبق،من شأن إتمام تركيا لصفقة منظومة "إس 400" بما تتضمنه من فرص تصنيعها فى تركيا بالتعاون مع الروس،أن يوفر قوة دفع هائلة لمشروع أنقرة الاستراتيجى الهادف لتحديث القدرات التسليحية التركية،وإنتاج منظوماتها الدفاعية الصاروخية محليا، وتحقيق الاستقلال التكنولوجي العسكرى عن الغرب، وهو المشروع الذى تتبناه حكومة العدالة والتنمية منذ توليها السلطة عام 2002، وكان من أبرز خطواته مشروع "ميلجيم" لإنتاج أول سفينة حربية محلية الصنع من طراز"هايبلي آدا "في عام 2011، وإنتاج البندقية "إم ت بي 76" وتصنيع طائرات بدون طيار، ومعدات عسكرية أخرى.
وبينما أعلن الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين أن شراء بلاده منظومة صواريخ" إس-400" الروسية لا يتعارض مع عضويتها في حلف شمال الأطلسي، لاسيما وأن هناك العديد من الدول الأعضاء في الحلف التي تمتلك هذه الصواريخ،ارتأى مسؤولون أتراك أن بلادهم بحصولها على منظومات صاروخية روسية، لن تكون بدعا من دول الناتو،التى سبق بعضها مثل بلغاريا واليونان والمجر فى الحصول بالفعل على هذه الأنظمة وتشغيلها، الأمر الذى من شأنه أن يفند ادعاءات الناتو الخاصة باستعصاء دمج المنظومات التسليحية القادمة من خارج الحلف،التي طالما دأب العديد من الخبراء العسكريين فى الحلف على التحذير منها.
فرغم إبدء الناتو قلقه من احتمال تسرب معلومات عسكرية سرية تخص الحلف إلى روسيا،التى تعتبر العدو الرئيس له منذ بدايات تأسيسه فى العام 1948، تستخدم اليونان العضو فى الحلف أنظمة دفاع جوى روسية الصنع من طرز S -300 و TOR M-1،و KORNET، والتى كانت قد تعاقدت عليها فى عام 1996. وفى أبريل 2015،بدأت اليونان تتفاوض مجددا مع روسيا من أجل القيام بعمليات صيانة لتلك الأنظمة وتزويدها بمجموعة من الصواريخ الجديدة، مما أثار قلق بعض الشركاء الأوروبيين فى وقت يتفاقم التوتر بين روسيا والغرب بشأن أزمة أوكرانيا. ومن جانبه،لفت إردوغان إلى أن أنقرة أجرت مباحثات مع الولايات المتحدة لتصحيح الخلل فى دفاعاتها الجوية، لكنها لم تثمر عن توفير بدائل تحقق التدابير الأمنية المطلوبة، ما اضطر تركيا للسعى لشراء منظومة "إس 400 "الروسية، بل والسعى للمشاركة فى انتاجها، بالتزامن مع العمل على تطوير منظومتها الدفاعية الجوية المحلية، مستفيدة من خبرات وتجارب الخبراء الروس الذين سيدربون الأتراك على كيفية استعمال وصيانة هذه المنظومة. واشار إردوغان إلى أنّ عدم دمج منظومة" إس 400" في الشبكة الدفاعية لحلف شمال الأطلسي، سيشكل ميزة استراتيجية لتركيا لأنه سيحد من إمكانية رصدها، على اعتبار أنها ستعمل بمفردها من دون الاستعانة برادارات الناتو.
ومن زاوية أخرى، تشهد علاقة تركيا بحلف شمال الأطلسي "الناتو" توترا مزمنا ينبعث من أزمة ثقة بنيوية متبادلة. كما يعى الأتراك جيدا أن حلف الناتو يتعامل مع بلادهم بوصفها "حليفًا وظيفيًّا"؛ رغم امتلاكها لثانى أكبر جيش فيه، وقد أخفقت كل محاولات تركيا التحرر من ربقة هذا الدور الوظيفي. كذلك،تلقت تركيا خلال الأشهر القليلة الماضية صفعات عدة من قبل الناتو:
أما أولاها، فتجلت فى رفض الحكومة الألمانية إرسال أسلحة ومعدات عسكرية لتركيا، تتضمن مسدسات ومهمات عسكرية وبعض الأجزاء المستخدمة في تصنيع السلاح، خلال الفترة من نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 وحتى الآن 11 مرة، خوفًا من استخدامها كأداة للقمع في الداخل التركى، وأكَّدت الصحيفة أن سجل تركيا السلبى فى مجال حقوق الإنسان لعب دورًا في هذا الرفض.ويعد هذا الموقف الألمانى إجراء غير معتاد إزاء دولة عضو في حلف الناتو، لاسيما وأنها لم تكن المرة الأولى، إذ سبق لألمانيا أن رفضت نفس المطلب التركى ثمانى مرات متتالية خلال الفترة بين عامي 2010-2015. ومن جانبه،اعتبر نائب حزب اليسار في البرلمان الألمانى، جان فان أكين، هذه الخطوة في غاية الأهمية، مطالبا بضرورة وقف تصدير السلاح إلى تركيا نهائيًا وتعميمها على مستوى باقي دول الاتحاد الأوربى.
وأما ثانيتها، فكانت فى يوم 22 مارس الماضى،حينما وافقت مديرية الهجرة النرويجية على طلب اللجوء المقدم من أربعة ضباط وملحق عسكري أتراك كانوا يعملون ضمن البعثة التركية لدى الناتو عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/ تموز 2016،وكانت السلطات التركية طلبت منهم العودة لأنقرة عقب تلك المحاولة مباشرة لكنهم رفضوا مخافة توجيه تهمة الضلوع فى الانقلاب إليهم،ويرى خبراء أن موافقة النرويج على طلب لجوء عسكريين أتراك فارين، بالرغم من كون تركيا والنرويج عضوين فى الناتو تعد مثيرة ولافتة،محذرين من تأثير اتباع باقي دول الاتحاد الأوروبي لخطوات مماثلة على تفاقم الأزمة المشتعلة هذه الأيام بين تركيا والدول الأوروبية.
وأما ثالثتها،فتتجلى فى الاستياء الأطلسى من مستوى أداء القوات التركية فى الناتو بعد المحاولة الانقلابية،حيث كشف تقرير لحلف الأطلسي أن الجيش التركي فقد فعاليته كقوة عسكرية مؤثرة داخل الحلف، إذ تراجعت القدرات القيادية والتشغيلية للقوات المسلحة التركية بعد حملة التطهير التي طالت المئات من كفاءاتها عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016. وذكر القائد الأعلى لقوات الناتو في أوروبا الجنرال الأميركي كورتيس سكاباروتي في ديسمبر الماضي أن تركيا سحبت منذ محاولة الانقلاب نحو 1500 جندي تركي يتمتع بعضهم بخبرة كبيرة من المقار الرئيسية العسكرية للناتو. الأمر الذى بدت تداعياته جلية فى الصعوبات الملحوظة التى ألمت بتخطيط وتنفيذ عمليات تركية في شمال سوريا ضد تنظيم داعش وميليشيات كردية، حتى أن القوات التركية عجزت عن تحقيق اختراق ميداني نوعي ضد داعش شمال سوريا إلا بعد أسابيع من القتال.كما أن فصل العديد من الدبلوماسيين الأتراك من المركز الرئيسي للناتو في بروكسل تسبب في استياء غربى، خصوصا بعدما أظهرالكثير من الدبلوماسيين الجدد الذين حلوا محل زملائهم المفصولين في وقت قصير، قصورا جزئيا في اللغة الإنكليزية، كما تنقصهم المعرفة الأساسية بالناتو والقضايا الأمنية.
ولا تنفصل الخطوة التركية المثيرة عن التطورات الحاصلة على مستوى السياسات الإقليمية وتطورعلاقات تركيا الخارجية، إن مع حلف شمال الأطلسي، أومع جوارها الأوروبي ودول منطقة الشرق الأوسط، حيث تحمل دلالات بعيدة تتعدى حدود الغايات الدفاعية للصفقة التي تبلغ قيمتها 2.4 مليار دولار.إذ تسعى أنقرة إلى توجيه رسائل مهمة عديدة لحلفائها قبل خصومها، خصوصا فى ظل تصاعد حدة الاستياء التركي من السياسة التي تتبناها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، سواء في ما يتعلق بمواصلة تقديم دعم عسكري لوحدات حماية الشعب الكردية التي ترى تركيا أنها امتداد لحزب العمال الكردستاني التركى المصنف إرهابيا، أو في ما يتصل بعدم اتخاذ واشنطن خطوات عملية حتى الآن في ملف تسليم فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في منتصف يوليو 2016.كذلك، لا تخل الصفقة من رسائل بليغة لبعض الدول الأعضاء في حلف الناتو، مثل الولايات المتحدة، التى قامت بتفكيك بطاريات صواريخ باتريوت من تركيا في أغسطس 2015،وألمانيا التى سحبت قواتها من قاعدة انجرليك التركية هذا الصيف، احتجاجا على رفض أنقرة السماح لبرلمانيين ألمان بزيارتهم.الأمر الذى جعل أنقرة تشعر أن عضويتها في الحلف لا توفر لها ضمانات كافية لحماية أمنها، كما لا تعفيها من السعي إلى توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها في ما يتعلق بامتلاك القدرات العسكرية التي تتيح لها حماية حدودها ضد أي تهديدات نوعية قد تواجهها في قادم الأيام.
قلق الناتو:
في حال تمت الصفقة الروسية التركية،ستكون تركيا،التى تتحصل منذ انضمامها،بشق الأنفس،إلى الحلف الأطلسي سنة 1952، بسلاح متطور من الولايات المتحدة، كما تقوم بتصنيع طائرات حربية بترخيص من البنتاغون، أول دولة عضو في حلف الناتو تحصل على مثل هذه المنظومات الصاروخية الروسية المتقدمة،وأول دولة من داخل الناتو تتعاون مع موسكو عسكريا إلى هذا المستوى.
ورغم أن الخيار الروسي لم يكن بالنسبة إلى أردوغان رهانا نهائيا، بقدر ما كان محاولة لابتزاز أوروبا وأمريكا استراتيجيا،إلا أنه أثار قلق الناتو،الذى يرى فيها منغصات تقنية واستراتيجية كان الحلف فى غتى عنها.حيث حذرت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون در ليين، من احتمالات خروج تركيا من الحلف، فيما ارتأى رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة جوزيف دانفورد أن شراء تركيا منظومة "إس 400 "للدفاع الجوي يثير قلق واشنطن. وبدوره،أشار الناطق باسم البنتاغون جيف ديفيس إلى ضرورة الحصول على تفسيرات من أنقرة في شأن الصفقة، لافتا إلى أن الأسس المبدئية في العلاقات بين جميع الدول الأعضاء فى الحلف تقوم على ضرورة أن تتلاءم أنظمتهم التسليحية مع بعضها البعض،بينما يتعارض نظام الرادار الذي يتعين نصبه مع هذه المنظومة مع رادارات القبة الحديدية التي نشرتها أميركا في تركيا قبل نحو عشر سنوات.
ومما يزيد قلق الناتو أن هذه الخطوة التركية المستفزة قد جاءت متزامنة مع تطورين مهمين:أولهما،وقف تركيا عمليا مختلف برامج التعاون مع الدول غير الأعضاء فى الحلف،والتي تغطي معظم أوروبا ودولا في الشرق الأوسط وآسيا، وتهدف إلى بناء التشغيل المتبادل والقدرات والنوايا الحسنة بين الناتو وتلك الدول،وهذه الخطوة، وإن كان الحلف يراها لا تؤثر على الالتزام الدفاعي الجماعي للدول الأعضاء فيه،إلا أنها تصدر إشارات سياسية مهمة إلى دول شريكة للحلف، مثل جورجيا وأوكرانيا التي تشهد خلافات مريرة مع روسيا،كما يحتمل أن يؤثر الإجراء التركي على باقى الدول الشريكة لحلف شمال الأطلسي وعددها 22 دولة، والتى يشارك بعض منها بقوات في مهام الحلف بدول مثل أفغانستان وكوسوفو،مثل السويد وجورجيا .
أما ثانيهما،فتجلى فى منع أنقرة برلمانيين ألمان من زيارة جنود ألمان موجودين بقاعدة أنجرليك التركية،مما دفع ميركل إلى التفكير فى سحب أولئك الجنود، والبحث عن بديل لتلك القاعدة فى دول أخرى تشير تقديرات إلى احتمال أن تكون الأردن.
ولقد بدأت دوائر عسكرية واستخباراتية غربية تشم رائحة نوايا تركية خفية من وراء هذه الصفقة،ربما تتجاوز مجرد تصحيح خلل فى القدرات الدفاعية التركية، لاسيما وأن الصفقة تأتى بالتزامن مع تصاعد حدة التوتر بين أنقرة وحلفائها الغربيين، الذين أضحوا يتساءلون:هل من الممكن أن تحمي تركيا أجواءها بصورايخ قادرة على تدمير الطائرات الحربية والصواريخ المجنحة على مسافة أربعمئة كيلومتر، واعتراض الصواريخ البالستية التي تصل سرعتها إلى 4800 متر في الثانية، وعلى ارتفاع ثلاثين كيلومترا؟.
معوقات:
برغم التصريحات المشجعة والمتفائلة من قبل الرئيسين التركى والروسى بشأن فرص إنجاز الصفقة،لا تزال هناك معوقات فنية واستراتيجية شتى تتربص بها.فمن جهتهم،يرى خبراء عسكريون غربيون أن الناتو سيسعى لإعاقة الصفقة مع تركيا،متذرعا بأن منظومة"إس 400" لا تتوافق تقنيا مع منظوماته التسليحية، كما لا تتلاقى استراتيجيا مع سياساته، بينما يتعذر دمجها فى منظوماته العسكرية والتسليحية،فى الوقت الذى قد تتيح لروسيا اختراق الحلف استخباراتيا وعسكريا. وتوقع أولئك الخبراء أن تحاول واشنطن من جانبها إفساد الصفقة الروسية التركية من خلال التلويح لأنقرة بنظام دفاعها الجوي "باتريوت".ويستشهد هؤلاء الخبراء بتجارب سابقة نجح خلالها الناتو بالفعل فى تقويض صفقات تسلح لدول أعضاء بالحلف مع روسيا، وحينما نجحت فرنسا فى إتمام صفقة بيع سفينتين حربيتين من طراز "مسترال" لروسيا قبل سنوات قلائل، أجبرتها واشنطن على تجميد الصفقة،فكان أن أعادت فرنسا بيع السفينتين لمصر.
ومن غير المستبعد ألا يتم استكمال الصفقة الروسية التركية حتى النهاية،وذلك استنادا على معطيات عدة.فمن جهة،يتسم منهج موسكو فى إتمام الصفقات العسكرية بالبطء الشديد،كما تحكمه اعتبارات عديدة من بينها مراعاة الموقف الغربى،وذلك على نحو ما جرى فى صفقة منظومات صواريخ إس 300 لإيران،والتى استمرت عشرسنوات من عام 2007 وحتى 2017، وسبقتها مفاوضات صعبة وطويلة دامت ثماني سنوات،رغم تسديد إيران لثمنها،بسبب الضغوط الغربية والإسرائيلية على موسكو. وبينما لا تزال أنقرة تتفاوض مع وزارة المالية الروسية للحصول على قرض روسي لتمويل الصفقة،يرى خبراء عسكريون روس أن عمليات التحديث الراهنة في مؤسسات الدفاع الروسية،قد تؤخر عملية البدء بتوريد أنظمة إس 400 لتركيا حتى مرور ثلاث سنوات، إذا ما استكملت المفاوضات وتمت الصفقة بسلاسة.
ويستشهد مراقبون كذلك بسوابق تركية فى التفاوض حول صفقات تسلح لم تتم مع الجانبين الروسى والصينى والأمريكى. حيث لا تريد أنقرة سوى ابتزاز الناتو لتزويدها بمنظومات دفاع جوى أكثر تطورا وبأسعار تنافسية، فقد سبق للأتراك أن أجروا محادثات مع روسيا بشأن شراء أنظمة صواريخ "إس 300"، ثم اتضح فيما بعد أنهم كانوا يسعون فقط للضغط على الجانب الصينى لحمله على تخفيض تكلفة صفقة أنظمة دفاع جوي صينية من طراز HQ-9، كانت أنقرة قد تفاوضت مع بكين لشرائها. وقد حدث الشىء ذاته تقريبا مع صفقة مروحيات كا-52 التي أرادت تركيا شراءها من روسيا،ولكن واشنطن هى التى أبرمت العقد بشأن مروحيات أمريكية في نهاية المطاف.
ولا تزال هناك عقبات تقنية يمكن أن تعرقل إتمام الصفقة، من بينها، إصرار أنقرة على أن تتيح تصنيع المنظومة بالتعاون مع روسيا داخل تركيا وليس شراءها جاهزة، ما يعني بناء مصانع روسية متخصصة داخل تركيا،وهو أمر لا يزال يخضع للدراسة الروسية المعمقة التى تحوطها تحفظات قوية داخل روسياعلى الصفقة من الأصل،استنادا إلى الموقف الروسى المعروف من الناتو،فضلا عن أن العلاقات الروسية التركية،ورغم ما تشهده هذه الأيام من انفراجة لافتة على مختلف الأصعدة، لم تبرأ بعد من صراعات وخلافات مزمنة،من شأنها أن تبقى على احتمالات تجدد المواجهة بين البلدين فى أى وقت.
وما بين إصرار أنقرة على إتمام صفقة منظومة"إس 400" الصاروخية الروسية المثيرة للجدل من جهة،وتململ الجانب الروسى من جهة ثانية،ثم قلق وتحفظ الحلف الأطلسى من جهة ثالثة،يبدو جليا أن إتمام هذه الصفقة فى ظل أجواء الإضطرابات و السيولة الجيواستراتيجية الإقليمية،وتصاعد حدة التوتر فى العلاقات ما بين تركيا وحلفائها الأطلسيين إلى حد تهديد أنقرة بالخروج من الناتو وإنذار الاتحاد الأوربى لها بتجميد مفاوضات الانضمام،بالتزامن مع ارتباك العلاقات التركية الأمريكية، إنما يؤذن بفتح فصل جديد ومثير فى آن من العلاقات ما بين تركيا ومحيطيها الإقليمى والدولى.